الإثنين 2025/11/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 9.95 مئويـة
نيوز بار
في رواية الكاتبة البحرينية جليلة السيد " مدن الحليب والثلج " الم التشظي رسالة الأنثى المحاربة تحت قسوة القانون الغربي
في رواية الكاتبة البحرينية جليلة السيد " مدن الحليب والثلج " الم التشظي رسالة الأنثى المحاربة تحت قسوة القانون الغربي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

علي الستراوي

 

بين سياط قاسية لا ترحم، تشظّى الدرب ليصبح قانوناً يلقي بالمارين في طريقه سدود وموانع تدمي القلب قبل القدمين، فيتحول الحلم الذي رأي في الحب غايته اثقال زمن يأخذ من الشباب قوته ومن الحب دمه، فينحني ظل عافية لزمن تلاعب بأوراق الحظ الذي أضاع الحكاية وغلّب العتمة على الضوء.

 

هكذا تختلط الأسئلة التي اثارتها الروائية البحرينية جليلة السيد في روايتها «مدن الحليب والثلج».

 حيث وضعت القارئ أمام مسؤولية مجتمعية مهمة عبر اثارتها لقضية جوهرية وحساسة لا يمكن غفلانها أو التحايل عليها كونها جرحًا إنسانيًا غائرًا يتجاوز الحكاية الشخصية ليغدو شهادة أدبية على معاناة الأنثى في زمن القوانين الباردة. تدور الرواية حول امرأة عربية تجد نفسها في مواجهة قانونٍ أوروبيٍ جائر ينتزع منها ابنتها، ليضعها في كنف امرأة “غير سوية”، فتتحول الأم إلى كائنٍ مشرّد في فضاء الغربة، يقتات من ذكريات الأمومة المبتورة ويصارع بردًا مزدوجًا: برد المناخ وبرد القانون.

 

منذ الصفحات الأولى، تدرك أن الرواية لا تُروى من الخارج، بل من داخل الجرح. فالسرد يتخذ شكل تدفقٍ داخلي متواتر، تتناوب فيه الذاكرة المؤلمة، فيغدو النص أقرب إلى سيرةٍ وجدانية لأنثى تحاول أن تعيد تشكيل نفسها وسط عالمٍ فقد دفء العاطفة التي كانت في يوم ما حلم قادها نحو المغامرة والبحث عن ما يهدئ نبض قلبها، لكنها وقعت في مالم يكن في الحسبان، وما لم يكن في ادراكها العاطفي.. أنها في أمان تكتب جليلة السيد الرواية كمن يسكب الحليب على الثلج، فيتشابك البياضان لتُمحى الحدود بين البراءة والجمود، بين الحنان والعقوبة.

 

 

حينما يكون الفقد غربة

 

الفقد في «مدن الحليب والثلج» ليس حدثًا عرضيًا، بل هو المحرّك العميق للوجود الذي جعلها في مرمى الوجع العميق في نبر الجرح وايقاظه، الأم التي حُرمت من ابنتها لا تفقد ابنتها فحسب، بل تفقد حقها في المعنى، فالأمومة هنا ليست بيولوجيا بقدر ما هي هوية ثابتة ومتصلة بتكوينها الفسيولوجي لتكوينها الإنساني.

 تتجلى الكاتبة في تصويرها لتلك اللحظة التي تتحول فيها الأم إلى غريبة في جسدها، غريبة عن مجتمعها، وغريبة حتى عن القانون الذي يُفترض أنه يحميها من الضياع ومن حقها في ممارسة الحب الإنساني دون موانع تحجبها.

ففي الفقد الذي حرمها من رعاية ابنتها ادخلتها في مأساة إنسانية، فإن ضياع العدالة يضاعفها، فينفتح النص على أسئلة الوجود والهوية والإنسانية ذاتها: أيّ معنى للعدالة إذا كانت تخون العاطفة؟ وأيّ حضارة تلك التي تُشرّع برودة الثلج وتُعاقب دفء الأمومة.

 

رسالة الغربة.. نظام معطل

 

 

في الرواية، تتحول الغربة إلى نظامٍ قيمي مضاد للإنسان ومعطل المشاعر. المدينة الأوروبية التي لجأت إليها البطلة لا تقدم الأمان بقدر ما تقدم صورةً أخرى من الاغتراب: مؤسسات باردة، قوانين ميكانيكية، ومجتمع يُقيس الأمومة بمسطرة المادّة والقدرة الاقتصادية لا بالعاطفة والرعاية.

تستخدم الكاتبة هذه المفارقة لتطرح نقدًا حضاريًا غير مباشر، إذ تُظهر هشاشة القانون حين يُجرّد الإنسان من إنسانيته باسم النظام. وهنا تبرز براعة جليلة السيد في تفكيك المفهوم الغربي للعدالة، لتكشف عن صورٍ من الاستلاب الأنثوي في بيئةٍ تدّعي التحرر لكنها تمارس أشكالاً جديدة من القهر.

 

 

العنوان وابعاده الرمزية

 

 

 حمل عنوان رواية " مدن الحليب والثلج " ثنائية رمزية شديدة الكثافة، متصلة بواقع الطفولة، فـ“الحليب” يحيل إلى الأمومة، النقاء، والدفء الإنساني، بينما “الثلج” يرمز إلى الغربة، البرود، والتكلّس العاطفي، ومن خلال هذا التضاد، تنسج الكاتبة عالمها الروائي حيث يتعايش الحنان والجمود في مفارقة مأساوية وطفولة مفقودة.

 

فالمدن التي يفترض أن تكون مأوى واحتضانًا، تتحول إلى مدنٍ ناصعة في ظاهرها، قاسية في باطنها، تقسو على الأمومة وترحمها من أقرب الناس إلى قلبها.

بهذا المعنى، يغدو العنوان مفتاحًا تأويليًا للنص، إذ يلخّص المسار النفسي للبطلة: من دفء الأمومة إلى صقيع الاغتراب والضياع بين عاصفة ثلجية بغيضة وبين ابيض يعيد الحياة للجسد المريض.

 

 

 

ابعاد اللغة في السرد الروائي للرواية

 

 

تتّكئ جليلة السيد على لغةٍ شعرية مكثفة، تتراوح بين النثر التأملي والبوح الداخلي. جملها قصيرة أحيانًا كأنها تنهيدة، وأحيانًا طويلة تتشعب كأغصان الذاكرة، وبين هذا التزاوج تبرز فنيات قدرة الكاتبة على تنوعها السردي بجانب لغتها الدقيقة الاختيار في بناء النص.

لا تعتمد الكاتبة الحبكة التقليدية السردية بقدر اعتمادها على الإثارة وتحريك رواكد النفس البشرية عبر زمنٍ متكسر يعلو احياناً وينخفض احياناً أخرى عبر التداخل الزمني وعلاقته بالماضي والراهن والحلم، ما يجعل القارئ يعيش التجربة لا كحكاية تُروى، بل كحالةٍ تُحسّ وتثير المشاعر وتتقدم كقضية لا يجب الغفلان عنها او الهروب عن محاسب من يعملون على اثارة التشظي من خلال قانون لا يجب أن يحرم المرأة كأم لها الأحقية في رعاية ابنتها. إنها رواية تُكتب بالدمع أكثر مما تُكتب بالحبر.

 

 

 

خاتمة

 

 

«مدن الحليب والثلج» ليست مجرد سردٍ لمعاناة امرأة، بل صرخة أنثوية واعية ضد القوانين التي تُنصف النصوص وتُعاقب الأرواح، تثير الأسئلة الصعبة وتشير لقنون جائر يجب الوقوف كسد منيع امامه دون خوف أو تراجع، بل نقده وتغييره.

 

 تركتنا كقراء جليلة السيد أمام سؤالٍ وجوديّ مرّ وتعب وقاسي : كيف يمكن للأم أن تظلّ إنسانةً في عالمٍ نزع عنها حقها في الأمومة، وتركها بين مصحة الطب النفسي عاجزة ضعيفة ، سؤال يتقدم في ظل البحث عن جدار يحمي المرأة ويعيد لها حريتها في ممارسة الحب العفيفي عبر امومة ذات صلة وروح ، بين الحليب الذي يرمز إلى الحياة، والثلج الذي يرمز إلى الجفاء، تتشكّل الرواية كجدليةٍ بين الأمل واليأس، بين الحلم والواقع، وبين ما يفيض من القلب وما يُحاصر في العقل القانوني البارد الذي لو ترك لماتت كل احلامنا في رعاية من نحب.

 جليلة السيد بروايتها " مدن الحليب والثلج “تثبت أن الرواية ليست مجرد شكلٍ فني، بل فعل مقاومة وجدانية وثقافية، وأن الكلمة حين تصدر من رحم الألم، قادرة على أن تهزّ يقين القوانين الصمّاء.

حكاية لا تنتهي بنتها القراءة، بقدر ما حملته من واقع اثار في الأذهان أسئلة صعبة لكنها ليست مستحيلة الأجوبة وليست غريبة في ظل ما هو حاصل في المكينة الغربية من قوانين لا تتوافق ورسالة الله في التكوين الإنساني.

 

المشـاهدات 31   تاريخ الإضافـة 23/11/2025   رقم المحتوى 68501
أضف تقييـم