الأحد 2025/12/7 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
العراق بين واشنطن والإقليم: توازنات جديدة
العراق بين واشنطن والإقليم: توازنات جديدة
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب نوري حمدان
النـص :

 

 

تبدو العلاقات العراقية – الأميركية اليوم أمام منعطف جديد، لا يشبه ما سبق من محطات التوتر أو الانفراج، بل ينتمي إلى مرحلة أكثر تعقيداً تختلط فيها الحسابات الأمنية مع المصالح الاقتصادية والتحولات الإقليمية المتسارعة. فخلال الأيام الماضية شهدت بغداد سلسلة من الزيارات رفيعة المستوى لمسؤولين أميركيين، بالتوازي مع تطورات في قطاع الطاقة وتصريحات سياسية أثارت نقاشاً واسعاً داخل العراق وخارجه. هذا التزامن ليس مجرد صدفة دبلوماسية، بل هو مؤشر على أن واشنطن تعيد النظر في طريقة انخراطها في العراق وتختبر مسارات جديدة في علاقتها بالحكومة العراقية، فيما تبدو بغداد بدورها تبحث عن توازن جديد يسمح لها بالتحرك بين واشنطن والعواصم الإقليمية دون الاصطدام بمصالح أي منها.الزيارة التي قام بها المبعوث الأميركي الخاص لسوريا ولبنان إلى بغداد ولقاؤه رئيس الوزراء العراقي كانت واحدة من أهم الإشارات على هذا التحول. فالولايات المتحدة تدرك أن مستقبل نفوذها في سوريا، ولا سيما في مناطق الشمال الشرقي، مرتبط بشكل وثيق بالعراق الذي يشكل عمقاً جغرافياً وأمنياً لتلك الساحة. وتدرك أيضاً أن أي تصعيد بين الفصائل المسلحة والقوات الأميركية في العراق يمكن أن ينعكس مباشرة على وجودها في سوريا، وبالتالي فإن واشنطن تحاول إعادة ضبط الإيقاع عبر قنوات سياسية مباشرة مع رئيس الوزراء. وفي المقابل، تحاول بغداد الاستفادة من هذا الانفتاح لإعادة طرح رؤيتها بشأن الأمن الإقليمي وضرورة تخفيف الضغوط التي تتعرض لها الأراضي العراقية بسبب التنافس الأميركي – الإيراني، مع التأكيد على أنها باتت تملك هامشاً أوسع للمناورة مقارنة بالسنوات السابقة.تزامنت الزيارة مع إعلان وزارة النفط العراقية عن انتقال إدارة حقل غرب القرنة/2 إلى إحدى الشركات الأميركية الكبرى، بعد جولة منافسة عالمية شاركت فيها شركات من دول مختلفة. هذا الإعلان شكّل نقطة تحول في قراءة العلاقات الاقتصادية بين بغداد وواشنطن، خصوصاً أن قطاع الطاقة ظل لسنوات طويلة مجالاً لمنافسة دولية شرسة، وكانت الشركات الأميركية تفقد تدريجياً مواقعها لصالح الشركات الآسيوية والروسية. إعادة شركة أميركية كبرى إلى أحد أكبر الحقول النفطية في العراق ليست خطوة تقنية فحسب، بل رسالة سياسية ومنعطف اقتصادي يعكس رغبة مشتركة لدى الطرفين في تثبيت مصالح طويلة الأمد، وتخفيف الضغط الأميركي بشأن مسار العلاقات العراقية مع الصين وروسيا. كما أن ردود فعل الخبراء العراقيين حول هذا التطور أظهرت أن ثمة انقساماً داخلياً بين من يرى أن عودة الشركات الأميركية مؤشر على خطوة ضرورية نحو مزيد من الانفتاح على الاقتصاد العالمي، وبين من يخشى أن يؤدي ذلك إلى إعادة تموضع غير متوازن يعيد العراق إلى دائرة الارتهان السياسي للولايات المتحدة. وهذا النقاش بحد ذاته يعكس حساسية ملف الطاقة في تشكيل القرار السياسي العراقي، ويؤكد أن أي تغيير في عقود النفط يحمل دائماً دلالة تتجاوز الاقتصاد نحو الجغرافيا السياسية.ثم جاءت زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الإدارة والموارد لتعطي بُعداً إضافياً لهذه العودة الأميركية النشطة. فالزيارات ذات الطابع الإداري عادة لا تحظى بهذا القدر من الاهتمام الإعلامي، لكنها في السياق العراقي لا تخلو من دلالات أمنية، خصوصاً في ظل إعادة تقييم واشنطن لأوضاع سفارتها وقواعدها العسكرية وتواجدها المدني واللوجستي. مثل هذه الزيارات تعني أن الولايات المتحدة تريد ترسيخ وجودها الدبلوماسي والتنظيمي في العراق، وليس فقط حضورها العسكري أو الاقتصادي. ومن خلال تعزيز هذا الوجود، تسعى إلى بناء قناة مستقرة للتواصل مع الحكومة العراقية بغض النظر عن التغيير المحتمل بعد الانتخابات النيابية، وهو ما يفتح الباب لسيناريوهات متعددة في شكل العلاقة بين البلدين.وسط هذا الحراك، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تناول فيها العراق بطريقة أثارت ردود فعل واسعة، إذ أعادت إلى الأذهان خطاباته خلال حملته الانتخابية التي كانت تقوم على مقاربة صدامية مع بغداد. ورغم أن تصريحاته الحالية قد تكون موجهة للجمهور الداخلي الأميركي، إلا أنها تحمل في طياتها احتمالاً حقيقياً بأن السياسة الأميركية تجاه العراق قد تتعرض لتغييرات جذرية. فخبرته السابقة في التعامل مع العراق كانت قائمة على ضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية، وربما يعود إلى هذا النهج بطريقة أكثر حدّة. لكن الرد الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي بدا محسوباً ومتوازناً، إذ حاول من خلاله إرسال رسالة مفادها أن العراق ليس كما كان في العقدين الماضيين، وأن الدولة العراقية قادرة اليوم على الدفاع عن استقلال قرارها وعلى الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة ضمن إطار المصالح المتبادلة وليس الأوامر أو الإملاءات.إن تفاعل بغداد مع تصريحات ترامب يعكس مستوى جديداً من الثقة بالنفس في السياسة الخارجية العراقية. فالحكومة تدرك أن العراق اليوم ليس مجرد ساحة صراع أميركي – إيراني، بل لاعب إقليمي له وزن سياسي واقتصادي، وقد استطاع خلال العامين الماضيين إعادة صياغة علاقات متوازنة مع السعودية وإيران وتركيا، كما نسج علاقات اقتصادية واسعة مع دول الخليج والشرق الأوسط وأوروبا. هذه المكانة تسمح للعراق بأن يدخل علاقته مع واشنطن من موقع تفاوضي أفضل، وفي الوقت نفسه تمنحه القدرة على عدم خسارة علاقاته الإقليمية.على مستوى العلاقات العراقية مع دول الإقليم، فإن التطور الحاصل في شكل الانخراط الأميركي في العراق سينعكس على مواقف دول الجوار التي تراقب عن كثب هذه التحولات. فالسعودية والإمارات وقطر تنظر بإيجابية إلى أي خطوة تُعيد استقرار العلاقة بين بغداد وواشنطن، لأنها تعتبر أن هذا الاستقرار يساعد في تقليل نفوذ القوى غير الرسمية ويعزز فرص الاستثمار الخليجي في العراق. أما إيران فتنظر إلى عودة الشركات الأميركية وإلى الزيارات الأخيرة بعين القلق، لكنها في الوقت نفسه لا تريد صداماً مفتوحاً، بل تسعى إلى الحفاظ على نفوذها السياسي عبر تعقيد المشهد من دون الذهاب إلى مواجهة مباشرة. وتركيا، من جانبها، ترى أن أي تقارب عراقي – أميركي قد يفتح الباب لتفاهمات أوسع في ملفات الأمن والمياه والطاقة إذا استطاعت بغداد أن تلعب دور الوسيط بين أنقرة وواشنطن.من منظور استراتيجي، يبدو أن العراق في المرحلة المقبلة أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة لشكل علاقته مع الولايات المتحدة وما يترتب عليها من تأثير على علاقاته الإقليمية. السيناريو الأول هو أن تستمر سياسة التوازن الحالية، حيث يحافظ العراق على علاقة تعاون مع واشنطن من دون الاصطفاف الكامل معها، وفي الوقت ذاته يحافظ على شراكته الإقليمية مع إيران وتركيا والسعودية، وهو سيناريو مرجح إذا بقيت الإدارة العراقية الحالية. أما السيناريو الثاني فهو أن يتجه العراق نحو علاقة أكثر صرامة مع الولايات المتحدة نتيجة ضغوط سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وقد يحدث هذا إذا قرر ترامب إعادة إنتاج سياسة الضغوط القصوى على العراق، وهو سيناريو يحمل مخاطر كبيرة على الاستقرار الداخلي وعلى علاقات العراق الإقليمية. أما السيناريو الثالث فهو أن يتحول العراق إلى نقطة ارتكاز في استراتيجية أميركية جديدة لإعادة هندسة أمن المنطقة، عبر تقليل الاعتماد على القواعد الأميركية في الخليج والانتقال إلى نموذج شراكات أمنية مرنة في العراق والأردن، وهو سيناريو قد يغير موازين القوى الإقليمية بشكل جذري.المؤشرات الحالية تميل نحو السيناريو الأول، لكن تطورات الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون حاسمة. فالعراق يملك الآن نافذة فرصة تاريخية لإعادة بناء ملامح دوره الإقليمي والدولي، مستفيداً من رغبة واشنطن في التهدئة ورغبة الإقليم في شراكات اقتصادية مستقرة. وإذا استطاعت بغداد أن تدير هذه المرحلة بذكاء استراتيجي، فربما تتمكن للمرة الأولى منذ 2003 من صياغة معادلة خاصة بها، معادلة لا تُفرض عليها من الخارج، بل تنطلق من مصالحها الوطنية وقدرتها على لعب دور جسر لا ساحة، وفاعل لا تابع، وشريك لا خصم.

المشـاهدات 14   تاريخ الإضافـة 07/12/2025   رقم المحتوى 68674
أضف تقييـم