| النـص :
في الدول التي تحترم نفسها، ليست الجريدة الرسمية نشرةَ أخبارٍ تصحح بتعليق عابر، بل خاتم الدولة على الورق. ما ينشر فيها يفترض أنه بلغ مرتبة "النهائي"، وأنه مرَّ بسلسلة تدقيقٍ قانونية وإدارية تجعل الخطأ فيه استثناءً ثقيلاً لا نكتة خفيفة. لذلك بدا ما حدث في ملف إدراج "الحوثي" و(وفق ما تداوله الإعلام) "حزب الله" ضمن قرارٍ منشور في الوقائع العراقية ثم قيل إنه "خطأ" وتقرر "تصحيحه" لحظةَ انكشاف لا لحظة سوء فهم.المشهد كما تراه العين العارية لا يحتاج كثير تفسير، عدد (4848) من الوقائع العراقية بتاريخ 17/11/2025 تضمن قرارات "لجنة تجميد أموال الإرهابيين"، ومنها القرار رقم (61) لسنة 2025. النص المنشور يقرر تجميد الأموال والموارد الاقتصادية، ويحيل إلى قوائم مرفقة للأشخاص والكيانات. وعلى صفحات القوائم تظهر كيانات مدرجة، من بينها "الحوثي" .هذا وحده يكفي ليضعنا أمام سؤالٍ فاضح، كيف يمضي اسم بهذه الحساسية إلى "الختم الرسمي"؟ ثم كيف يسحب من التداول العام بطريقة "التصحيح" وكأن الدولة تعدل منشوراً على فيسبوك؟أن تقول جهة رسمية إن الإدراج "غير دقيق" أو "خطأ نشر" أو "نسخة غير منقحة" كما نقلت وسائل إعلام عن توضيحات الجهات المعنية، فهذا اعتراف لا يخفف من وطأة المشكلة بقدر ما يعريها، العطب ليس في كلمة انزلقت، بل في نظام إنتاج القرار نفسه، وفي خيط "سلسلة الحيازة" الإدارية، من كتب؟ من راجع؟ من وقع؟ من أجاز؟ من أرسل إلى النشر؟ من قرأ قبل أن يطلق الرصاصة على الهواء؟ الأشد قسوة أن الدولة، وهي تحاول النجاة، قدمت للرأي العام روايات تكاد تتدافع على باب واحد، مكتب رئيس الوزراء ــ بحسب ما نُقل عنه، وجّه بتحقيق عاجل، وتحدث عن أن النص المنشور عكس "مواقف غير حقيقية"، وأن الموافقة العراقية كانت محصورة بما يرتبط بداعش والقاعدة. وفي الوقت نفسه خرجت رئاسة الجمهورية لتقول إنها لم تعلم ولم تصادق، وأن ما يصلها للتدقيق والنشر شيء آخر. وهنا لا تعود القضية "خطأ مطبعياً" كما يحب بعضهم أن يصغر الزلزال إلى ارتعاشة، بل تصبح مسألة دولة تعمل بمقومات متنافرة. قرار ينشر ويتداول ويحدث ضجيجاً، ثم تقال للناس عبارة خطِرة عملياً، "لا تتعاملوا مع المنشور الرسمي كوثيقة نهائية حتى إشعار آخر". تلك العبارة وإن لم تكتب بهذا اللفظ، هي معناها الواقعي حين يسمح النظام بأن يهبط "غير المنقح" في خانة "المنشور".ولأننا نحب جلد المؤسسات سريعاً، يخرج من يقول: "هذه كارثة تسقط مصداقية الوقائع". هنا ينبغي أن نتحلى ببعض الإنصاف النقدي، الوقائع ليست صحيفة رأي تتلاعب بالعناوين، بل أداة نشر نهائية لما يصلها. لذا فالسؤال الحقيقي ليس، لماذا أخطأت الجريدة؟ بل لماذا وصلها ما لا يجوز أن يصل؟ ومن الذي سمح أن تمر وثيقة "غير نهائية" عبر بوابة يفترض أنها لا تبتلع إلا "النهائي"؟ومع ذلك، لا إعفاء لأحد. فحين تكون "الجريدة الرسمية" هي المحكمة العليا للنصوص، فإن واجبها أخلاقياً ومهنياً، أن تمتلك "فرامل الطوارئ" آليات تحقق تمنع إدخال كيانات حساسة بلا محاضر تدقيق واضحة وسندات قانونية دقيقة. الدول لا تحفظ هيبتها بالنيات الحسنة، بل بصلابة الإجراءات.ثمة خيط آخر يضاعف السخرية السوداء، في بلدانٍ تحترم نصها، التصحيح لا يتم بالهمس، بل بـ"تصويب رسمي" منشور بالدرجة نفسها من العلنية والقطع، رقم العدد، رقم القرار، رقم الصفحة، موضع العبارة، نص التصويب، وأثره القانوني. وإلا تحول القانون إلى "قابل للمسح" لا "قابل للتطبيق". ومن هنا تحديداً ينبع غضب الجمهور، لأنه يرى الدولة تدار بمنطق "التحديث" لا بمنطق "التشريع".أما الادعاء المتداول بأن الوقائع "لم تنشر خطأ طوال 103 سنوات"، فهو بصراحة عبارة إنشائية لا يمكن التعامل معها كحقيقة موثقة بهذه السهولة. مؤسسات عمرها قرن عرفت أخطاءً وتصويبات في التاريخ الإداري كله؛ لكن الفرق أن بعضها يدار بآليات تجعل الخطأ نادراً، والتصحيح مؤسسياً لا ارتجالياً. التحدي هنا ليس أن نثبت أسطورة "اللاخطأ"، بل أن نبني دولةً لا تموت ثقة الناس فيها عند أول تصحيح.النتيجة التي لا مهرب منها، ما جرى ليس خلافاً حول "حزب الله والحوثيين" بقدر ما هو امتحان لفكرة الدولة نفسها. الدولة ليست "تصريحاً" ولا "توضيحا" ولا "تحقيقاً" بعد الفضيحة. الدولة هي أن تمنع الفضيحة قبل وقوعها، أو أن تغلق بابها بإجراءٍ قانوني واضح لا بخطاب يفتح أبواباً جديدة للريبة.فليكن السؤال الأخير، لا للحكومة وحدها بل لنا جميعاً، هل نريد دولة تدار بالنصوص أم دولة تدار بالاعتذارات؟ وهل نقبل أن يبقى "الختم الرسمي" قابلاً لأن يتحول في أي لحظة، إلى مسودة تتقاذفها البيانات؟
|