الوسيط الحجري وحلم السّرد في (غيمة شيكاغو) للقاص حيدر عودة الجزء الأول |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رائد جميل عكلو |
النـص : أولاً: الاستهلال والعتبات: يستهل القاص مجموعته القصصية بعتبات نصية متنوعة ومنها مقولة بورخس في كتابه الصانع إذ يقول: ((شيئا فشيئا أفلت منه العالم الجميل الآن, ومحت غشاوة عنيدة شكل يده, ولم تكن الليلةُ عامرةً بالنجوم, والأرض تحت قدميه موضع شكٍّ, كان كل شيء يزداد نأياً وضبابية, حين علم أنَّه صائرٌ إلى العمى))(1), وهذه الرؤية القاتمة بسردها الوجود المغترب تقترب من سردية الروائي البرتغالي (ساراموغا) في روايته العمى, إذ يتحول أفراد المجتمع إلى عميان إشارة منهُ إلى قبح الإنسان حين يتنازل عن عقله؛ إذ تتحول المعرفة إلى حضيض تتفشى رائحته النتنة وتصبح دلالته هادمة لمعيار الذوق الإنساني, وهذا ما بحث عنه القاص (حيدر عودة) عن طريق تعريته هذا الشّكل من المجتمعات الموبوءة بالعمى الثقافي, إذ مارس نقداً لاذعاً لحكومات الاستبداد التي ترغم أبناء الوطن على الهجرة إلى مدن غريبة عنهم لا يملكون فيها ذكرى ولا ذاكرة. وتثير مجموعة(غيمة شيكاغو) في عنوانها إشكالية وجودية مركزية في حياة الإنسان المعاصر عن طريق ما تثيره من أسئلة ملحة على مخيلة الإنسان, فكشفتْ علاقاتٍ بنيوية قارة في السّيكولوجيّة العميقة للفرد الحديث المشترِك في لعبة لا يتقنها وهي لعبة الصّراع القسري بين قوى العالم السّياسية المؤثثة للمفاهيم والرّؤى, ذلك إذا فهمنا أنَّ السّلطة السّياسيّة هي ((التّبلور المجسم والجماع التّركيبي لكافة السّلطة المتمفصلة والمنبثة في الجسم الاجتماعي ضمن منظر ديناميكي للصراع الاجتماعي))(2), وقد لجأتْ المجموعة إلى تبديد هذا العالم الحجري(غيمة شيكاغو) وهي غيمة مرسومة على شكل حجارة صلدة بيَّن عن طريقها الفنان التّشكيلي صلادة الحياة الإنسانية المتمثلة بسلطة الكونكريت الصّلب التي أقصت الطّبيعية وأوغلت في محاربتها بوصفها ــ أي الطبيعة ــ موطن التّأمل والرّؤية الشعرية, واستبدلته بلغة الحجارة بوصفها قسوة صناعية تجنح نحو مصادرة ميتافيزيقيا الوجود الإنساني. وكُرِّرتْ هذه اللّوحة سردياً عن طريق ما أفصح عنه القاص في قصصه بلغة فنية شيقة مزجتْ بين الغرب والشّرق ضمن سياق خارج الدّرس الاستشراقي الذي يفترض فروقاً بنيوية شاسعة بين العقل الغربي والشّرقي, إذ اشتغل القاص في سرديته على خلق مشاعر مشتركة أو سلوك غير مباين بين بني الإنسان من القارات جميعها, مازجاً بذلك اللّغات والهويات والأديان ضمن سقف وجودي واحد يحتفل بالإنسان المقهور والمقصي عن إنسانيته رغما عنه, وهو بذلك يشير إلى((من كتب الهوية او لحب, أو الجنوسة أو الاستشراق). ففي حديثة عن الشّاحنات التي تشبه النّاس يقول الراوي في قصة(بيت في حلم) وهو يسرد شخصيته: ((فكر بذلك وهو يتأمل هياكلها التي يملؤها الغبار, كأنَّها بقايا أناس منسيين خارج الزّمن, شاحنات تجوب الطّرقات السّريعة والوعرة لأسبوع كامل. وهي تهتز دون ضجيج أو أنين يمكن أنْ يسمع, ودون استراحة, لعلها تشعر بالوحدة أيضاً مثل الإنسان, خاصة حينما يقودها رجال غرباء, بعيدين عن أماكنهم الأولى, ويستمعون لأغنيات غريبة أيضاً, لا يعرفها أحد ولا تؤثر في أحد غيرهم ...))(3). يظهر الخطاب الفنيّ أنَّ السّارد يحاول تشخيص الشّاحنات ومنحها بعداً إنسانياً عن طريق منحها مشاعر إنسانية معبراً بذلك عن غربة الناس في أوطان جديدة لا تمت إليه بصلم سواء على المستوى اللّغويّ أو المكانيّ أو الثّقافيّ, ويظهر هذا التّشخيص عن طريق استعماله مفردات ذات طاقة إيحائية تشير إلى العزلة والفجيعة, وتفصح عن هموم متراكمة تختلج ذوات الغرباء وهم يصغون إلى أغنيات غريبة تمنحهم بعض السلام المفقود, ذلك أنَّ الصّوت من طبيعة مجردة وعليه فالمهمة الرّئيسة للموسيقى تكمن لا في تصوير الأشياء الواقعية, بل في ترنين الأنا الصّميم, وذاتيته العميقة ونفسه الفكروية(4), وبهذا كان القاص موفقا في استدعاء هذا اللون من الفنون ليخلق علاقة تعويضية للفرد المغترب عن طريق تظهير الذّات بها. وفي القصة نفسها يقول الرّاوي في استهلاله: ((أشياء صغيرة يمكنها أنْ تترك في قلبه شعوراً بالفقدان, قد يعيش طويلاً, مثلاً: أنْ يصادف أحد أصدقائه القدامى في مكان ما لم يخطط للذهاب إليه, فيبدو له شخصاً غريباً مثل وجه عابر في صورة متخيلة, حتَّى يقرر أحيانا التّخلي عن الذّكريات التي جمعتهما معا في أوقات محددة))( ))(5). تتوحد الذّات في الغربة وتشتغلُ على تكثيف الزّمان والمكان عن طريق الذّاكرة بوصفها منجمَ الذكرى التي تمنح الإنسان المغترب أفيونا يبددُ شعور الخذلان الذي يعتمل في نفسه, لكن الغريب أو المغترب في القصة يريد أن ينسلخ عن هذه الذّاكرة لأنَّه كلما تذكر أو سمح للذكرى انْ تمس مخيلته تتكالب عليه الهموم فينسحب إلى دائرة الهم, ويعدُّ من العبث أن تتخلى عن الذكريات لأنَّه في اللّحظة التي ننشطر عن ذكرياتنا فإنَّنا نعلن انتحارنا المعنوي. واشتغل القاص في مدونته القصصية على كشف علاقاتالتّضاد الغريبة إذ يقول في أحدى قصصه:((يذهب لشراء بعض الزّهور ونباتات الظّل لشقته الصّغيرة, فهو من علمه أسماء الزّهور وأنواعها ومواسمها, وأماكن وجودها أيضاً, رغم أنَّ أحداً لم يره يوماًيحمل باقة زهور أو سندان نبتة ما, كأنَّه أراد لشخصياته أنْ تعيش في غرفة مليئة بالأزهار وتتنفس رائحة الخراب))(6). تستعمل المفارقة في الشّعر للتعبير عن قيمة جمالية تسهم في تثوير دلالة النَّصِّ الشّعريّ عن طريق ضمَّها المتضادان في علاقة نصيّة تتعاضد ولا تختلف, لكن في النَّصِّ القصصي حين اجتمع الضّدان انتجا معادلة موضوعية تفصح عن الهم الإنساني للفرد المغترب وهو يتشظى في غربته, فالأوطان ليست مفردة في معجم أو صورة في سياق شعري إنَّها هوية الإنسان ومعراجه وعلاقاته الاجتماعية. |
المشـاهدات 969 تاريخ الإضافـة 13/02/2021 رقم المحتوى 9811 |
هندسة الطب الحياتي تحرز بطولة التكنولوجية الكروية للمرة الأولى |
النسخة الأولى من ملتقى دبي للنحت تجمع أكثر من 15 نحاتاً من مختلف دول العالم |
مسرحية الجدار .. تاليف حيدر جمعة.. اخراج سنان العزاوي جرأة في الطرح و المعالجة.. دماء جديدة تغذي المسرح العراقي |
نانسي عجرم تكشف تفاصيل ألبومها الأول لعام 2025 |
تداعيات مؤتمر الادب الشعبي الأول |