السبت 2024/5/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
أبو شنب يكتبها :محمد فيض خالد
أبو شنب يكتبها :محمد فيض خالد
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

إلى الآن كُلّ شيٍء هاَدئٌ في مَحلهِ ، هَا هِي البيوت تَنتصبُ تَستقبلٌ برودة الصَّباح الفاترة، تختلط ُأنفاس الناس بأنفاسِ النَّهار الوليد، تتداخل الأصوات بينَ بُكاٍء ممطوط، وصِياحِ الديكة المُتراخي ،ونَهيق الحَمير ، وخَربشة راديو قديم تُشوّش محطاته، ومن بَعيٍد توبيخ

أم ، وعِراك كلاب  اجهدها السَّهر حَولَ كسرةِ خُبزٍ يابسة ،وتَثاءب رَجلٍ عَجوز يتَعالى سُعاله في انفجارٍ، هكذا يَنتظمُ الصَّباح في قريتنا ، مُذ عَرفَ الناسُ طريقهم للحياة.

حَدّدَ لنَفسهِ ثلَاثة أيَامٍ في الأسبوع لا يُخلِفُ موعده، يَتطاير نَهيق حِماره الضَّخم في إزعاجٍ، في  حمَيميٍة يُوزِّعُ تحيات الصَّباح ، لا يُفرِّقُ بين امرأةٍ ورجل ، ألفنا سِحنته منذ زمنٍ، كتَاجرٍ غِلالٍ معَروف ومُرابي شَهير ، وبهلوان مُدَّعي للجَاه ، حِينَ يستعرضُ مَحفظتِه الجلد المُنتفخة بأوراقِ النَّقدِ من كُلِّ فئةٍ في انتشاء وسخف ، تَزوغ عَينان الزَّرقاوان كَثعلبٍ عَجوز ، يُطاِلعُ وجوه النساء المُتراصات بجانبِ الجُدران يَستقبلن خُيوطَ الشَّمس الدَّافئة، يُلقي إليهن ببصرهِ مُروضا، تَتفجَّر من نَفسهِ كومة من الغَرائزِ التي لا يَقوى على كتمها ،يُمرِّر يده فوقَ طرفَ شَاربِه الطويل تلمعُ شعراته في تَوهّجٍ لافت، يَقولُ في فلَسفٍة فَارغة :"يكلفني هذا الملعون ورقة بعشرة في كل شهر، يأتيني دهانه من القاهرة مخصوص " ، يرى في شَاربهِ بَقايا عِزٍّ غاَبر ، يتَطاول في تِيهٍ بأنَّه يشبه جده الذي خَدمَ في حراسةِ سلطان بني عثمان في إسطنبول ، يُجاهِرُ بأصولِ عائلته التركية ، ترى أثر دعواه في حُمرةِ وجهه ، واستطالة سحنته ، وقوة بنيانه ، لا انسى يَوما حَركاته الصِّبيانية ؛يَتراقص جسده فوقَ ظهرِ حماره وهو يربع ،وصَوته الجَّهوري الذي لا يَكفّ عن توَجيهِ اللَّومِ في صَرامةٍ ، يطلق مقذوفا من التَّوبيخِ لنساءِ الدَّربِ :" أنا غير مسؤول عن سلامة أحد ، هذه فوضى " .

اتخذَ من بيتِ " فتحي الدكش " القديم مرسىً له ، جَعلهُ لتَخزينِ بضاعته ، يَستقبلُ زبائنه ويَعقدُ صَفقاته الرِّبا ، ورغم غطرسته العمياء ، ولسانه الطّويلُ أحيانا ، إلاَّ أنَّه سخي الكَفِّ ، يُنفق في بَذخٍ ، تَستطيع استمالته بكلمةِ ود ، لحظتها تسلبه ما في يده، حتَّى وإن كانَ آخر قروشه ، دائه العضال انفلاته وإعجابه بنفسهِ  الواصل لحَدّ الجنون ، يتَغنَّى بَصبوتهِ ، ويُباِلغُ في رَسمِ هندامه ، ويُقنع نفسه ومن حَوله بسحرهِ الفَعال الذي لا تَصده أنثى ، وفحولته المُلتهبة، وأحاديث الماضي يَنبشها مُتباهيا بجدهِ الرابع " خلاف " الذي تَزوَّج عشرا من الَحريم.ِ

يَتحرَّر سَاعاتها من قيودهِ ، يتَخلَّى عن كبِريائهِ ، ويَنسى تَصنُّعه أمام "اعتماد " ، و" اعتماد " لمن لا يعرفها أرملة لعوب ، ضحوك ،مُكتملة الإغراء بالغة الأنوثة ، صنعتها الغواية ، جَميلة لحد الفتنة ، يَشعُ بياض جسدها في سمنٍة مُعتدلة ،مع استواءٍ قامةٍ واكتمالِ عظم ، وصوتٌ محشو بميوعٍة اكسبها رونقا يُفتِّتُ الصَّخر،  ما إن ترن ضحكتها في تَغنُّجٍ لزج ، حتى يَرتبك صاحبنا فيسيلُ لعابه في نَشوٍةٍ عارمة ، يُلقي إليها دونَ تَورّعٍ بصنوفِ الغَزلِ الفاضح ،ويهمس بكلام خادش ، تَعرفُ المرأة ما يُعانيه لكنَّها تُصرُّ على الصَّد والرَّد ، بَذلَ كُّلّ حِيلٍة حَتى راودها أخيرا ، رَضخت لرائحِة مَحفظته التي فُتحت أمامها كَمغارةِ علي بابا ، ظَلَّ يَتردّد على بيتها آناءَ اللَّيلِ وأطرَافَ النَّهارِ ، بعَد فَترةٍ تَراخت حَماسته وقَلَّ اهتمامه تَجاهلها ونَفرَ منها ،قابلت المرأة تَصرفه بجرأةٍ وتَهورٍ ، ما إن يراها حتَّى يَتفصَّد جبَينه عَرقا ، يَختلج لسانه ، وتَثورُ ثائرته لأتفهِ الأسبابِ ، تُشيّعه المرأة بضحكةٍ طَروب ، وتبَدأ في وصلٍة من الوَقاحةِ ، تَغمزُ بعينها ، وتُرقِّصُ حاجبيها وهي تَعجن عَلكة مَلأت فمها الواسع.

باحت " اعتماد " بِسرهِ لبعض خُلصائها ، كَشفت عَجزه ، وأذابت جَبلَ الجليد ، تَحّول تحرشه السَّابق لكَراهيٍة وانكسار ،لكنَّ نَفحته لم تنقطع عنها ، يَخشى تَهورها وانفلاتها أكثر  ، يَعلمُ يَقينا أنَّه لا أمان لأمثالها من السَّاقطاتِ ،أفَرطَ الرَّجلُ في تَعاطي الكيَف بلا حِسابٍ ، يهزي في نوباتِ سكُره بكَلامٍ غَير مَفهومٍ ، يَصرخُ وهو يَفسخُ عنه ثيابه :" أنا سيد الرجاله ، أنا سبع "، ظهَرت عليه بعد مُدةٍ دَلائل الإعياء ،اصفرّ وجهه كالليمونةِ ، تَهدَّل شاربه وقد غَزاه الشَّيب كعَرجونٍ جَاف ، انتهزَ اللُّصوص فترة انقطاعه لتَختفي دفاتر الحِسابات ، اُقتِلع الشّباك الحديديّ من مكَانهِ ، لم تتَوصّل الشرطة للُجناةِ ، انتكست صحته ، فلازمَ الفراش ، استدعى ذاتَ صبَيحٍة حَلاقه " سيد غندور " كَانَ طلبه غَريبا ، أَزاَل الرَّجلُ شاربه ، غيََّب حَصاده في بطِن كيسٍ من الدَّبلان ، وأخفاه تَحت الوسادةِ ، حَتَّى اللَّحظة لا اعرف عنه شيء ، قالوا مات ، وقال البعض لقد تَركَ البلد واستقرَّ في القاهرة عِند ابنه المُدرس.

 

المشـاهدات 72   تاريخ الإضافـة 31/03/2024   رقم المحتوى 43019
أضف تقييـم