الثلاثاء 2025/5/13 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 32.88 مئويـة
نيوز بار
بين العولمة و ما يسمى بالإمبريالية الثقافية
بين العولمة و ما يسمى بالإمبريالية الثقافية
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. حسين عبد القادر المؤيد مفكر و سياسي عراقي مستقل
النـص :

ما يزال الخلط بين العولمة و ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، قائما في أوساط نخب ثقافية في عالمنا العربي، لا سيما تلك التي استند تكوينها المعرفي، الى آيديولوجيات أحادية البعد تطرح نفسها بوصفها حقيقة مطلقة، و ترى في كل ما يخالفها، تهديدا ل(سيادتها الثقافية)، و مكانتها التي يجب أن تحتلها بوصفها تمثل الحقيقة و الصواب، بلا فرق بين الآيديولوجيات الدينية أو الفكرية أو السياسية الأحادية .إن من الطبيعي أن تشهد المجتمعات تنوعا في القيم و العادات و التقاليد و طريقة العيش، بحكم تنوع الثقافات التي تتشكل في المجتمعات بفعل عوامل متنوعة، فالثقافة هي المضمون الذي يصوغ عقل و سلوك الأنسان فردا أو مجتمعا، و يتجسد في أنماط الحياة كلها، فتشمل الثقافة جميع مفاهيم الإنسان و قيمه و أنماطه الحياتية المتحصلة من تفكيره أو تجربته أو موروثه أو تأثره و تلَقّيه، مهما كان مستوى هذه الثقافة. و في ضوء ذلك، من الطبيعي أن تزخر المجتمعات بتنوع ثقافي مختلف في المستوى و الجدارة. بيد أن طبيعة التكوين البشري و الحياة البشرية، تأبى وجود ماهية ثابتة للثقافات، فنزوع العقل البشري للتفكير و التطوير و الإبداع، و المتغيرات الحياتية التي تسوق البشر نحو التكيف و التغير و التطور، و الحاجة المتأصلة في النفس الإنسانية للكمال، كلها عوامل تدفع نحو التغيير الثقافي . و من هنا تتحول ساحة الحياة، الى ميادين للاحتكاك الثقافي بين المجتمعات، بما ينطوي عليه هذا الاحتكاك من تنافس ثقافي و تأثير متبادل أو أحادي حسب درجة التأثير و التأثر .إن المسار الطبيعي، و المنطقي في كثير من الأحايين، حين تتنافس الثقافات و تشهد المجتمعات احتكاكا ثقافيا، هو أن تحتل الثقافة الأكثر تطورا أو الأجدر مصداقية أو الأقدر على تلبية حاجات البشرية في المقطع الزمني المعين، مكانتها على حساب الثقافات السائدة. و ليس هذا في التحليل المنطقي، استلابا ثقافيا بأي شكل من الأشكال، إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقتين ساطعتين:الأولى: نسبية المعرفة البشرية، فالمعرفة البشرية هي معرفة نسبية قابلة للتغير، و ليست حقيقة مطلقة، الأمر الذي يعني نسبية كل الثقافات البشرية على مر التاريخ. و يترتب على ذلك ليس الحق في الاختلاف و التغيير فحسب، و إنما رفض ما يسمى بالمحرمات الثقافية، لأن وجود محرم ثقافي يعوّق التفكير الإنساني بل يقتله و يسد منافذ العبقرية و الإبداع.الثانية: إن طبيعة الحياة البشرية، ليست طبيعة إستاتيكية جامدة غير متطورة، و إنما هي طبيعة ديناميكية تبعث نحو النشاط الحيوي، الأمر الذي يجعل البشرية تعيش على الدوام، جدلية الواقع القائم و الواقع القادم، لذا تخوض البشرية نضالا للانتقال من الواقع القائم الى الواقع القادم، فتحتاج الى رؤية مستقبلية قادرة على إحداث انتقالة عملية من الواقع القائم الى الواقع القادم، الأمر الذي يحقق حراكا ثقافيا، تتنافس فيه الثقافات لإشباع هذه الضرورة و تحقيق الصيرورة.  في هذا الوضع، تقف المجتمعات أمام رؤيتين و مفترق طريقين:الأول: الانطلاق من العقلانية و التفكير العلمي، للتعامل مع الاحتكاك الثقافي وفق مساره و إطاره الطبيعي الذي أشرنا اليه، فتتعامل بإيجابية و تتقدم الى الأمام.الثاني: الانطلاق من الدوغمائية و تحويل النسبي الى مطلق، فتلتصق بالثقافة السائدة و تعتبرها خصوصية أصيلة لها، و تعتبر الثقافة المنافسة التي تشكلت في سياق تطورات العقل البشري و الحياة البشرية، تحديا للهوية الثقافية، فتتعامل معها بسلبية و انغلاق، و لا ترى في سيطرة الثقافة المنافسة، أن هذه السيطرة أتت في السياق و المسار الطبيعي للاحتكاك الثقافي، و إنما تراه غزوا ثقافيا و استلابا إمبرياليا للهوية.لقد ذكرتُ في مقالي (نظرة موضوعية للعولمة) أن العولمة ليست اختراعا من تيارات فكرية أو قوى دولية، و إنما هي واقع أفرزته سلسلة من التطورات الاقتصادية و العلمية و التكنولوجية و الثقافية و السياسية، و أن جوهر العولمة هو تلاشي حدود الزمان و المكان في حياة البشر، و ما يترتب على ذلك من تأثيرات عابرة للأطر المحيطية المحدودة.إن العولمة التي جعلت كوكبنا ساحة مفتوحة تماما للاحتكاك الثقافي، تحققت في المسار الطبيعي لتطور الحياة البشرية على كوكب الأرض، و بالرؤية العقلانية و التفكير العلمي، لا يصح أن نعتبر الاحتكاك الثقافي الذي حققته العولمة، بما ينطوي عليه من منافسة و تأثير في مسار طبيعة الأشياء، إمبريالية ثقافية و شكلا جديدا من أشكال الإمبريالية المقيتة، و يجب أن نميّز بين التفوق الثقافي للحضارة المعاصرة الذي جاء في المسار الطبيعي للتطور الحضاري، و بين التوظيف الإمبريالي لهذا التفوق و دوافعه السياسية و الاقتصادية اللامشروعة.إن الحديث عن إلغاء العولمة الثقافية للتعددية الثقافية و التنوع الثقافي و يستتبع إلغاء الخصوصيات القومية و الدينية و اللغوية و الأعراف و التقاليد الاجتماعية و نمط العيش و الحياة بسيادة نموذج استهلاكي ثقافي وحيد يكون هو الهوية الرئيسة للجميع، و بالتالي تكون الثقافة طريقا للهيمنة عبر العولمة، هو حديث طوباوي قد يطلقه البعض بجهل و البعض الآخر للتضليل، يصادم حقائق العلم و العقل و الواقع التي ذكرناها في هذه المقالة آنفا، أضف على ذلك، أن العولمة الثقافية لم تلغِ التنوع الثقافي و الخصوصيات المجتمعية في الجغرافيا التي أسستها و انطلقت منها هذه العولمة، فلماذا المبالغة و التهويل و اعتبارها تهديدا يفرض إلغاء جميع الخصوصيات المجتمعية لأمم و شعوب العالم؟إن العولمة الثقافية التي ترتبط بقيم التمدن الحديث و المعاصر، تؤكد على حرية الإنسان في خياراته كلها و منها الثقافية التي يعتبرها هذا التمدن حقا مقدسا، فتقع الإشكالية على عاتق أولئك الذين تحولت خصوصياتهم و عاداتهم و أعرافهم الى أصنام ثقافية، و أولئك الذين لا يؤمنون بالتعددية و التنوع، و يريدون بنحو و آخر فرض ثقافتهم و خصوصياتهم على الآخرين فضلا عن أبناء مجتمعهم، و أولئك الذين لا يستوعبون السنن التاريخية للحركة الاجتماعية، التي تحكم التفاعلات الثقافية بين الأمم و الشعوب.

المشـاهدات 830   تاريخ الإضافـة 05/03/2023   رقم المحتوى 16856
أضف تقييـم