الجمعة 2024/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
أعمال رائد القطناني: رواية بصريّة ليوميّات الفلسطيني تحت الاحتلال
أعمال رائد القطناني: رواية بصريّة ليوميّات الفلسطيني تحت الاحتلال
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

مليحة مسلماني

 

فنان تكاد تختزل أعماله الإرث البصريّ لروّاد الفن الفلسطيني، إذ هي تذكّر المتلقّي بأعمال عبد الرحمن المزيّن، وإسماعيل شموط، وسليمان منصور، وعبد عابدي، وكامل المغنّي، وغيرهم من الروّاد الذين برعوا في تصوير المأساة الفلسطينية، لتبدو أعمال رائد القطناني وكأنها تُخلص للمسيرة الفنية الفلسطينية ولمن سبقها من أعمال الروّاد موضوعًا ورمزًا وقضية. وعلى الرغم من قدرة أعمال القطناني على هذا الحشد، والتكثيف للذاكرة البصرية للفن الفلسطيني، إلا أنها استطاعت أيضًا أن تصيغ هويتها البصرية الخاصة والمتمايزة أسلوبًا ومعاصَرة، إذ هي أعمال تتواصل مع الواقع اليومي في فلسطين. ولا تقف حدود استلهام القطناني عند التراث البصري الفلسطيني فحسب، وإنما تستلهم كذلك من التراث الكلاميّ الفلسطيني والعربي، كقصائد محمود درويش وغيره، ومن الأغاني الوطنية، والترويدة الفلسطينية.رائد القطناني فنان تشكيلي ومصمّم ومدرّب غرافيك، عمل في مجال التصميم الطباعي لسنوات طويلة، وهو خرّيج جامعة دمشق ـ قسم الاتصالات البصرية في كلية الفنون الجميلة عام 1994. كان يقيم في دمشق، ومع بداية الأحداث في سورية انتقل إلى الأردن. قدّم عبر مسيرته الفنية عددًا كبيرًا من الأعمال الفنية، من بينها الأعمال الرقمية، والكاريكاتير، إضافة إلى اللوحات المرسومة يدويًا، مستخدمًا مختلف الأساليب، ومازجًا بينها، ومن بينها: الواقعية، والرمزية، والمفاهيمية، إضافة إلى الجنوح نحو الخيال والفتنازيا في بعض الأعمال. تمتاز غالبية لوحاته بغناها الرمزيّ والبصريّ والدلاليّ، إذ يحشد في اللوحة الواحدة كثيرًا من العلامات والرموز الدالّة على الهوية والتراث الفلسطينييْن.

 

المرأة أيقونةً وبشارة

 

وإذ يصادف هذا المقال مناسبتين خاصتيْن بالمرأة في شهر آذار، يوم المرأة العالمي (8 مارس/ آذار)، ويوم الأمّ (21 آذار)، فلا بد من الإشارة إلى حضور المرأة الفلسطينية البارز في أعمال القطناني، حيث أبدع في تصويرها في مختلف حالاتها، الوطنية والجمالية والإنسانية، ليصبح ثوبها التقليدي المطرّز رافدًا رئيسًا للعمل الفني، يمدّه بغنى بصري ورمزي وجماليّ. في إحدى اللوحات، تقبض المرأة الشابة بقوة على الخارطة الفلسطينية التي تشتمل بدورها على دالّتين أساسيتين للهوية والمكان الفلسطينييْن، وهما القدس بقبّتها الذهبية، وشجرة الزيتون، في حين يسطع ضوء من مركز اللوحة، حيث القبّة الذهبية لينتشر في وسطها. تصور لوحة أخرى بورتريه للسيدة لطيفة أبو حميد من مخيم الأمعري الملقّبة بسنديانة فلسطين، وهي أمّ لشهيدين أحدهما الأسير ناصر أبو حميد، الذي استشهد في سجون الاحتلال نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمد، وهي أيضًا أمّ لأربعة أسرى في سجون الاحتلال.في لوحة أخرى، تحمل المرأة سلّة البرتقال الذي يبدو العنصر الوحيد المُلوّن في اللوحة التي يغلب عليها اللون الأسود، إشارة إلى البشارة والأمل رغم ظلمة واقع الاحتلال. يعزّز هذا المعنى الحالة الأقرب لصورة السيدة العذراء التي صوّرت بها المرأة. تظهر في عمل آخر امرأة مُسنّة في حالة من الفجيعة تغطي وجهها بكفّيها، وهي لوحة مستلهمة من صورة لأمِّ أو جدّة شهيد في أثناء تشييع جثمانه، وتذكّر اللوحة كذلك بصورة شهيرة من صور النكبة لامرأة تغطّي فمها بكفّيها.وفي مجموعة أخرى من اللوحات، يركّز القطناني على أيادي النساء التي تحيك التطريز، أو تطحن القمح بحجر الرحى، بينما تحمل المرأة سلاح المقاومة بعزمٍ وإصرار، كما في لوحة أخرى.ومن أجمل لوحات القطناني في هذا السياق واحدة تصور امرأة بالزي الفلسطيني تظهر من وراء حبل غسيل، غير أن ما عُلّق على الحبل يبدو أشبه بثلاث لوحات أخرى تضمّنتها اللوحة الأم؛ إذ تشكّل كل منها رسمًا لرمزية دالّة على الهوية الريفية الفلسطينية، وهي: البرتقال الذي يحيل إلى يافا تحديدًا، والزيتون الذي يمثل القدس بشكل خاص، والعنب الذي تشتهر به مدينة الخليل. هكذا تظهر صور متنوعة للمرأة الفلسطينية في أعمال القطناني، فهي عاملة ومقاوِمة وصابرة وصامدة ومفجوعة بالفقد، وهي امرأة عاديّة أيضًا تشرب قهوتها بسلام على شرفتها، وهي كذلك رمزٌ للهوية والأمل والحياة والجمال، وحاملةٌ للبشارات.

 

القصيدةُ والأغنيةُ لوحةً ناطقة

 

لرائد القطناني تواصل خاص مع التراث الكلامي الفلسطيني والعربي، بما يحويه من أغانٍ وقصائد، فالأغاني بذاتها تمدّه بالشحنة والطاقة الوجدانية للرسم، وهي تتحول في دورها إلى أعمال فنية، كما الأغنية الشهيرة "أذكر يومًا كنت بيافا"، للأخوين رحباني، وغنّاها جوزيف عازار، التي تروي سيرة التهجير من يافا إبّان النكبة. تصور اللوحة رجلًا بصورة أقرب إلى المسيح يجّر قاربًا في بحرٍ من خلفه، ويحمل برتقالة كبيرة في يده، إشارة إلى يافا، بينما تلتفّ الكوفية الفلسطينية على صدره وخاصرته. يمثل الرجل معاني الحقّ والتمكّن من استرداده، والإصرار على استرداده، ويمثل كذلك البشارة في العودة إلى يافا.تصور لوحة أخرى امرأة يمتد من بين يديها قماش يغطي مشهديةً لقريةٍ أمامها، ويستوحيها الفنان من قصيدة لمحمود درويش بعنوان "في انتظار العائدين"، يقول فيها "يا أمّنا انتظري أمام الباب.. إنّا عائدون.. هذا زمانٌ لا كما يتخيلون.. بمشيئة الملاح تجري الريح... والتيار يغلبه السفين! ماذا طبخت لنا؟ فإنَّا عائدون". تستلهم اللوحة عادةَ تغطيةِ أثاث البيت بالقماش عند الرحيل عنه، وعند العودة يبلغ المسافر أمّه، أو من يعتني بالبيت في غيابه، بعودته، ليرفع في دوره القماش استعدادًا لعودة المسافر؛ وهكذا تصور اللوحة لحظة استعداد المرأة لرفع القماش عن قباب القرية استقبالًا للعائدين المنتظَرين. وفي العمل إشارة إلى دور المرأة كحارسة للبيت ـ الوطن الفلسطيني، وإلى العودة كحق حتميّ لا رجوع عنه.يستوحى الفنان عملًا آخر من الترويدة الفلسطينية، والترويدة أو الملولة هي نوع من الفولكلور الغنائي الفلسطيني انتشر فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، صيغت كلمات أغانيه لتبدو كشيفرة غير مفهومة، وأبرز ما في الترويدات وضع حرف اللام بكثرة بين الكلمات، وذلك حتى لا يستطيع المستعمر البريطاني، الذي يفهم بعضًا من اللغة العربية، إدراك معناها. واستخدمت الترويدة في نقل رسائل بين المعتقلين وأهلهم، كما استخدمتها النساء في نقل رسائل للمعتقلين تخبرهم بقدوم الفدائيين لتحريرهم. تتحول شجرة الزيتون في اللوحة إلى امرأة تبدو وكأنها ترقص، ليختزل الفنان في اللوحة دلالات عديدة، من بينها الارتباط القوي بين الإنسان الفلسطيني وأرضه، الذي يصل إلى حد التماهي، وأن كل ما على الأرض، حتى شجر الزيتون، يُروِّد، أي يغني الترويدات، بلغة لا يفهمها أعداء الأرض، ويعرفها فقط أبناء الأرض الأصليون.

 

التماسّ مع الحدث

 

لعل أكثر ما ميز مسيرة الفنان رائد القطناني خلال السنوات الماضية تفاعله السريع مع الأحداث المتتالية في فلسطين تحديدًا، وقدرته على إنتاج لوحات ذات قيم جمالية عالية، وقادرة في الوقت ذاته على مخاطبة وجدان المتلقّي، إذ هي تلقى قبولًا واسعًا وتفاعلًا من قبل روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لتماسّها الحقيقي والجماليّ مع  الحدث الساخن موضوع الساعة، كاستشهاد مقاوم، أو تنفيذ مجزرة على يد الاحتلال، أو إضراب أسرى، أو انتفاضة، وغيرها من أحداث يومية في فلسطين. هذا الدور الذي يضطلع به الكاريكاتير عادة، وهو التماسّ والتفاعل السريعان مع الواقع اليومي، تقوم به اللوحة في أعمال القطناني، ليعبّر بها عن رؤيته للحدث الواقع، ومناصرته لشخوصه من ضحايا وأبطال فلسطينيين.لعل واحدة من أكثر اللوحات التي نالت شهرة في هذا السياق تلك التي رسمها الفنان للشاب العشريني عايد أبو عمرو من غزة، والذي كان يشارك في التظاهرات ضمن مسيرات العودة لكسر الحصار الصهيوني على غزة. سرعان ما تحول الشاب إلى أيقونة للنضال الشعبي الفلسطيني، وذلك بعدما التقطت له صورة يظهر فيها عاري الصدر يحمل العلم الفلسطيني والمقلاع، وهو سلاح شعبي يستخدمه الشبان الفلسطينيون في التظاهرات، يتكون من جراب، أو مهد صغير بين حبلين، ويستخدم لقذف الحجارة. يعيد رائد القطناني إنتاج الصورة مستلهِمًا أسطورة القنطور اليونانية؛ والقنطور مخلوق له جسدُ حصانِ وجذع ورأس إنسان، يسكن الجبال والغابات، ويرمز عند اليونان إلى الحب والخمر والجنس، وإلى الروح البرية والقتالية، وقد يشار به الى حب الفلسفة. غير أن للحصان رمزية مغايرة في فن المقاومة الفلسطينية، إذ كثيرًا ما أشار به الفنانون الفلسطينيون إلى الثورة، وهو في لوحة القطناني إشارة الى الروح النضالية للفلسطيني الذي يبقى متأهّبًا للاشتباك من أجل استرداد الحق وعازمًا عليه، عاريَ الصدر أعزلَ من السلاح في وجه الآلة العسكرية الصهيونية.أخيرًا، تمثل أعمال رائد القطناني رواية بصرية ليوميّات الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث يمكّن الاطلاع عليها من قراءة الأحداث التي تشهدها فلسطين من خلال اللوحة، وهي لا تكتفي بتصوير الحدث فحسب، وإنما تعزز حضوره بالإشارة إلى تاريخه الشمولي من الصراع، وإلى الهوية عبر حشد الرموز الدالّة عليها في اللوحة. ولعل الهوية المكانية والطبيعية الفلسطينية حاضرة بمجموعها في أعمال القطناني، بدايةً من قبّة الصخرة والقدس بقبابها وكنائسها وكُلّيتها، والقرية الفلسطينية، وشجرة الزيتون، والبرتقال، وعنب الخليل، وخارطة فلسطين الشاملة. إضافة إلى رموز التراث الفلسطيني، مثل التطريز، والزيّ التقليدي النسائي والرجاليّ. وكذلك رموز المقاومة، كالسلاح، والحجر، والمقلاع، والعلم، والكوفيّة. أما شخوص أعمال القطناني فهم المرأة التي يصورها في مختلف حالاتها الإنسانية والوطنية وكشريكة في المسيرة النضالية، والمقاوِم والفدائيّ، والشهيد والأسير، والطفل الفلسطيني الضحية والمقاوِم كذلك، كما في عمل يعيد إنتاج الصورة الشهيرة للطفل الشهيد فارس عودة يتصدّى فيها لدبّابة إسرائيلية، والذي تحوّل إلى أسطورة رمزية دالّة على مأساة الطفولة الفلسطينية.

 

 

 

المشـاهدات 403   تاريخ الإضافـة 21/03/2023   رقم المحتوى 17111
أضف تقييـم