الأربعاء 2025/2/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 21.95 مئويـة
نيوز بار
خيط الشجن بين العراق واليابان قراءة في رواية (حكاية السيدة آنكي )
خيط الشجن بين العراق واليابان قراءة في رواية (حكاية السيدة آنكي )
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

علي الامارة

..... 

تتسم رواية ( حكاية السيدة آكي ) للمؤلف عبد الكريم طعمة الصادرة عام ٢٠٢٣ عن منشورات الظل ..

بالواقعية ونقل الاحداث كما حصلت في تحربة حب بين امرأة يابانية ورجل عراقي دامت اكثر من خمسين عاما .. ولكن هذا الطرح الواقعي بيّن لنا مواضيع عدة تنفتح على ثيمات متعددة يمكن الدخول اليها من ابواب عدة ..

اولها انها علاقة بين بلدين وثقافتين وحضارتين ودينين وغيرها من الاختلافات في بيئة كل منهما  ..

ويطلعنا المؤلف على ثقافة اليابانيين ومشاعرهم واحترامهم للآخر مثلما هم  العراقيون ..

والحقيقة ان اليابان تختلف عن العالم الغربي بمواصفات عديدة اجتماعية وسياسية وتاريخية يحاول المؤلف من خلال سير الاحداث ان يعلمنا بهذه المواصفات من خلال سير الاحداث وتداعياتها عبر الخيط الواقعي الروائي الذي يبقيه مشدوداً بينه وبين المتلقي حتى آخر الرواية التي يوضح من خلال هذا الخيط او النسغ الدرامي المتصاعد في الروي خصوصية هذا المجتمع الياباني الذي نرى نحن منه الجانب التقني المتطور وبعض الصفات التي يتيحها لنا الاطلاع على هذا البلد الذي نسميه ( كوكب اليابان ) لتطوره وخصوصيته في هذا التطور ولكن المؤلف يذهب بعيداً في وصف هذا البلد ( الكوكب ) من خلال مشاهدات عيانية وهي ليست مشاهدات سياحية بل روائية من خلال واقع لاحداث حصلت وشخصيات تتحرك على مسرح  هذا الواقع بما بجعل المتلقي على قرب شديد من صميم هذا المجتمع لأن الخيط المشدود بين التأليف والتلقي هو خيط عاطفي وقصة حب شادة رغم طول المدة الزمنية ..

والباب الثاني ان المؤلف وهو البطل الذي يمثل حلقة الوصل والشد في الرواية هو رجل دبلوماسي بدرجة سفير ما يضيف للقصة شدّاً آخر لانها جاءت على لسان اهم شخص عراقي في تلك الدولة من الناحية الدبلوماسية معها اي اليابان وسنرى من خلال التصاعد الدرامي بأن المهمة التي قام بها هذا البطل - السفير - ليس بمقدور شخص عادي القيام بها فالسفير هو الحلقة الأقوى بين كل بلدين لأنه يمثل خلاصة البلد ورسالته السياسية والثقافية والانسانية من خلال منصبه

وان هذا البطل السفير مدّ او مطّ دوره السياسي الى افق انساني اوسع عندما تطوع للربط بين عشيقين افترقا منذ اكثر من خمسين عاما وذهب بالمهمة الى آخر شوطها .. وجعل من هذه المهمة هدفاً انسانيا اصر على تحقيقه ليجعل من الدور او المنصب  السياسي يصب في رحاب الهدف الانساني الأوسع والأعمق  ..

ثم نذهب لنفتح الباب الثالث وهو الأصل في الرواية وهو الجانب الأخلاقي فالبطل العراقي البصري - من البصرة - ترك أثراً طيباً في قلب عائلة يابانية حين سافر الى اليابان بمهمة وظيفية عن طريق موانئ العراق وبقي هناك سنة كاملة وتعرف على تلك العائلة اليابانية التي احبته ورأت فيه واحداً منها رغم صعوبة انفتاح العائلة اليابانية على انسان غريب .. وبالذات ترك في قلب فتاة يابانية كان عمرها ١٧ عاماً من هذه العائلة وبعد هذه السنة عاد الى العراق وبقي يتواصل بالرسائل معهم الّا ان الحرب العراقية الايرنية دخلت على خط الحكاية فقطعت التواصل وهذا ما تفعله الحروب غالبا .. ولكن الفتاة بقيت مشدودة بل ان العائلة كلها بقيت على هذا الشد مع ذلك الرجل الغريب ففي مشهد مؤثر ان ام الفتاة وهي على فراش الموت كانت تضع صورة الشاب - بالأسود والأبيض - امامها فأي انشداد ووفاء هذا   ..

ثم نأتي الى الجانب الآخر فنتساءل اي اثر طيب تركه ذلك الشاب العراقي بحيث بقي رمزاً للحنين والتواصل وكسر كل حواجز المكان والزمان والاديان والثقافات .. لقد كان ذلك البطل واحداً من العراقيين قبل أن تدمر منهم الحروب كثيرا من اركانهم الروحية والوجدانية.. كان رسالة مجتمع فاضل .. من هنا انشد السفير المؤلف ليلم شتات تلك الرسالة الانسانية ..

وفي خضم الاحداث المشوقة يدخل السفير في صميم ذلك المجتمع من خلال التواصل مع تلك العائلة او المتبقي منها وهي الصبية التي كان عمرها ١٧ عاما آنذاك وهي الآن بعمر يناهز السبعين مع زوجها واولادها ،  امّا الأبوان  فقد صارا قبرين وذكرى لها حضورها الفاعل في الرواية ايضا.. لندخل الى الباب الرابع من هذه الحكاية وهي ثيمة البطل الغائب فالعاشق الأول غائب بل مفقود  ومهمة السفير البحث عنه في كومة الحروب والحصارت والاحتلالات وفي مدينة البصرة التي هي موقد هذه الاحداث والمكان الاكثر تأثرا منها .. والبطلان الغائبان الآخران هما والدا الفتاة فهما مايزالان يشكلان حضورا لا من خلال زيارة السفير لقبريهما وقراءة سورة الفاتحة على روحيهما ورش الماء بالطريقة الاسلامية على القبرين  بل من خلال وصيتهما لزوج البطلة اليابانية المتشوقة للقاء البطل العراقي .. كانت وصية الأبوين وشرطهما على زوج البطلة ان يسمح لها بالبحث عن العراقي المفقود والتواصل معه فوافق الزوج على هذا الشرط الذي ارتقى لمستوى الوصية المقدسة .. وهنا يسحل البطلان الغائبان حضورها الفاعل في الحكاية مثلما يسجل البطل العراقي الغائب او المفقود حضوره في الحكاية من خلال اثره الأخلاقي الطيب .. فالغائبون يمسكون خيوط الحكاية بقوة ان كانوا موتى او احياء مفقودين ..

ثم نأتي الى باب آخر لا يقل أهمية عن الأبواب الأخرى بل هو النسغ الفني والدرامي الذي جعل الحكاية ترتقي الى مستوى الرواية وهو عنصر التشويق  والشد للمتلقي للذي يجعل منه المؤلف باحثاً عن البطل المفقود من اكثر من خمسين عاماً في دوامة الكوارث الكبرى أولها الحروب  وآخرها الزمن الذي تجاوز نصف القرن ما جعل من البحث عنه مهمة عسيرة بل تكاد تكون مستحيلة .. ومن خلال استحالة العثور والخيوط التي بدأت تتكشف شيئا فشيئا عن امكانية الوصول الى للبطل المفقود يكمن سر التشويق والتولصل عبر كتاب تزيد صفحاته عن ٢٠٠ صفحة .. ولكن اصرار البطلة على محاولتها للوصول للبطل الغائب واعتمادها على السفير العراقي منذ رسالتها الورقية الاولى لهذا السفير الذي أخذ على عاتقه الجمع بين شتيتين تحت مظلة البيت الشعري القديم : عسى يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن ان لا تلاقيا ..

وقد صارت هذه ال.. عسى هي مهمة السفير الانسانية الشاقة وهي عنصر التشويق الدرامي ايضا .

ثم نذهب لنفتح الباب الذي يمثل باب الأمل  الخيط الواصل بين الشتات .. وهو الوفد العراقي البصري المتمثل بوفد محافظة البصرة يرئاسة نائب محافظ البصرة الدكتور ضرغام الأجودي ووفد جامعة البصرة معه برئاسة الدكتور سعد شاهين رئيس الجامعة هذا الوفد كان يحمل معه في جعبته - دون ان يدري - جواباَ على سؤال ظل مركونا على رفوف خمسة عقود من حروب تلد اخرى .. ولكن السفير البطل حلقة الوصل رأى في افق هذا الوفد نجمة تضيء ظلام السؤال وواحة في صحراء هذا السؤال المدوي في اعماق سفيرنا .. فالسفير تعمق في صحراء السؤال ولا بد من واحة يستريح بها المسافر ولا بد من   نجمة يستدل بها في طريقه الصحراوي الطويل ..

ففي لقاء السفير مع هذا الوفد البصري العالي المستوى كان السؤال وكان الجواب وانفتاح باب الياس المغلق منذ عام ١٩٨٠ منذ ان طرقت الحروب ابوابنا واقتحمت بيوتنا واضلاعنا ..

فكان هذا الجواب منعطفاً درامياً في الروايةواشراقة ضوء في نهاية النفق .. ولكن المؤلف يفتح باباً لسؤال آخر كيف الوصول الى البطل المفقود وكيف ترتيب اللقاء  .. وهل بقيت القلوب على حالها بعد كل اكوام السنين والكوارث  وهل بقيت النفوس تشع بالحب القديم والشوق الذي اختبأ خلف سواتر الزمن ..؟!

عثر الدكتور ضرغام على البطل المفقود منذ اكثر من نصف قرن وقد تجاوز هذا البطل الثمانين من العمر ولكنها ثمانين عراقية وليست يابانية فالعراقيون هنا اصبحوا مدبرين عن الحياة  وليسوا كاليابانيين الذين تعرف عليهم السفير هناك المقبلين بشدة على الحياة رغم تجاوزهم الثمانين بل ان البطلة التي تجاوزت السبعين ما تزال تبحث عن مفقودها بروح الصبية التي لم تتجاوز العشرين وهنا يسجل المؤلف هذه النقطة على المجتمع العراقي الذي ينطبق عليه بيت لبيد بن ربيعة :

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد ؟

او بيته الثاني :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا ابا لك يسأم.. 

ان تكاليف الحياة العراقية خلال نصف قرن تختلف عن تكاليف الحياة اليابانية وهذا ما سوف يفسر النهاية الصادمة للحكاية او الرواية ..

 

فحين الوصول الى الشاب المفقود وهو نفسه الشيخ الموجود الذي عثر عليه السفير بعد طرق ابواب المعجزة وانفتحت له فوجده في بيته البصري نفسه ولكن ما الذي حصل بعد العثور على خاتم ضائع في صحراء السؤال ؟

حصل ان  الجانب العراقي من القصة ليس كالجانب الياباني فلا رغبة بالسفر ولا رغبة باللقاء ولا رغبة بالعودة الى الشباب .. الحروب والكوارث أغلقت كل الطرق وفرضت حصارها على القلب القديم العاشق وكان بيت الشاعر القديم ايضا ينطبق على عاشقنا المفقود :

اتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصلٍ حيث لا ينفع الوصلُ

بل ان حتى خيط الوصل الذي تريد ان تمده البطلة الملهوفة من الجانب المشرق لا يريد ان يوصله الحانب الآخر .. وهذا  ما تفعله الحروب وافرازاتها من تغيير المزاجات والرؤى والافكار وتجعل الحب يترسب في اعماق بئر الحياة ..

اما الجانب الآخر فمازال يرمي حباله في هذا البئر عسى فيه بقية من ماء ..

ويكشف لنا المؤلف اسراراً عن المجتمع الياباني لا يكشفها الا المتعايش معه وهو استغراقهم في العمل حتى على حساب امور اخرى ليست اقل اهنية من العمل فيذكر في ص ٢٢ من الكتاب :

( كان بكاؤها هذا لعمري امراً غريباً هنا في اليابان ! فالعواطف عادة تكبح لديهم والمشاعر سجينة في دواخلهم. فليسوا تلقائيين ابداً في ذلك ، حتى كأن البشر هنا قد لبسوا اقنعة بعضها تشبه البعض !وتحجب فيهم ما تكنّ صدورهم وما يختلج في قلوبهم من مشاعر .هكذا تمت تنشئتهم .. فكأن المرء عندهم سجين في سجن مؤبد ..لكن ليس سجن من جدران وقضبان ، بل من ضغط المجتمع ومراقبته ..)

ولأن السفير رسول بلده الى بلد آخر فأنه يخلع هذه الصفة على العاشق الذي ترك اثراً طيباً لا يمحى فيقول  في صفحة ١١٠ من الكتاب ( فشكرني قائلاً أنت سفير طيب ورائع ووطني ، فقاطعته : يا غريب انت السفير  الحقيقي الذي نتشرف بك ، وتفضلت علينا بسلوكك وهمّتك  وذكائك وحكمتك ، وحفظت شرف أهلك .)

ولكن سفيرنا العاشق بقي في سجن الكآبة ولم يحاول الخروج منه بعد ..

المشـاهدات 507   تاريخ الإضافـة 16/09/2023   رقم المحتوى 29124
أضف تقييـم