الجمعة 2024/10/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 32.95 مئويـة
جماليات الفضاء الشعري في (قصائد العائلة)
جماليات الفضاء الشعري في (قصائد العائلة)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

تمثل مجموعة (قصائد العائلة) للشاعر عارف الساعدي، الصادرة عن (دار صوفيا- الكويت بالاشتراك مع دار عدنان، بغداد، 2023)، فضاءً شعرياً يتسّم بتعدد جماليات الأداء التعبيري وتنوّع الرؤية والتمثّلات عبر مضمون مركزي هو (العائلة) إذ تتخذ هذه المجموعة من الفضاء العائلي منطلقاً لرؤية أكثر اتّساعاً ودلالة، وتجسّد الألفة الإنسانية وهي تبحث في خزين الذاكرة عن الصور والمعنى والدلالات، ويتوجه الفضاء الشعري إلى استحضار صور الأب والأخ والأم والجد والأبناء في متوالية البحث عن الأحاسيس الشفيفة في أقصى درجات التوّهج من خلال لغة تمتاز بالعذوبة وعمق الدلالة، وتنوع التوجهات. ولم يكن الفضاء العائلي إلاّ وسيلة للتصدّي لمضامين إنسانية وحياتية تكشف عن صور ومعانٍ عميقة، وتتشابك مع فضاءات أخرى تتجسّد فيها إشارات واحالات تناول الواقع بكل ابعاده الاجتماعية والسايكولوجية، وتحقق نصوص الشاعر تعددّية في أبعاد الصورة ودلالاتها والمعنى البعيد الذي يرمي إليه من خلال هذا التجسيد الشعري.

ولعلّ من أهم خصائص الأداء الجمالي في هذه النصوص أنها تتمركز حول قصديّة فكرية ووجدانية تستقطب المتلقي للمعنى الإنساني من دون تعقيد لفظي أو معنوي، فهي بعيدة كلّ البعد عن التحذلق والتنطع والغموض والتلغيز وطلاسم قصيدة النثر السائدة، وذلك بسبب طغيان الروح الإنسانية فيها والتعمّق في لحظة التوهج الوجداني لاسيما أن الشاعر يتوغل في عوالم العائلة وأحزانها ومآسيها، ومحنة البحث عن الوجوه التي غابت والذكريات التي اندثرت، ويتحوّل الأداء التعبيري من وجع العائلة وتمثلاته إلى وجع الإنسان عموماً وتجسيد وجع الحروب والقمع وعنف السلطة وغربة الإنسان في معترك اللاّحضور واللامعنى.

يمزج الشاعر بين تقمّص روح الواقع وشفافية المعنى واستدعاء الإشارة الترميزية والتوّغل في نقل أدق الأحاسيس والصور التي تحرّض على التأمّل والمعاينة والتفاعل معها، وينتقل من البعد الوجداني إلى البعد الرمزي من خلال استنطاق لحظة شعرية مكتنزة تستقصي الصور البعيدة بتوظيف المتخيّل الأكثر دلالة وعمقاً وإشارة كما في نص (الصديق الوحيد) الذي يستحضر فيه صورة الابن وأُلفته وتوّقعات اللحظة القادمة، ويصوره بعد مشاهد الطفولة والالتصاق به حيث عالم آخر ينفي أو ينسخ الألفة القديمة والصداقة الحميمة:

"ولكنه سيكبر/ وسيجد أصدقاء جدداً ويستبدل صديقه القديم/ وسيدور بنا الزمان وأصعد في المقعد المجاور له/ عندما يأخذ صديقه العجوز إلى المستشفى سوف لا نتحدث معاً/ ولن نضحك معاً/ أو نثرثر/ وسوف لا يعجبه أي شيء من صديقه الشاعر العجوز / سوى انّه قال هذه القصيدة". (المجموعة: 7).

ففي هذا النص نلحظ لعبة الزمن أو تبادل الأدوار بين الأب والابن الذي كان صغيراً تابعاً يجلس بجوار الأب، ولكنه حين يكبر يجلس الأب بجواره وذلك رصد سايكولوجي لطبيعة المفارقة الحياتية والتناقض الذي يمليه تحوّل الابن إلى كائن يخرج عن توصيفات الألفة القديمة باتجاه علاقة ووجود آخر تحتّمه تحوّلات الحياة، وفي الصورة تتعمّق روح المفارقة بين الصورة القديمة والصورة الافتراضية التي ترصد جدلاً لاستباق حقيقي يحمل كثيراً من المعنى والدلالة وطبيعة العلاقة القلقة بين الأب والابن.

ويمكن القول إنَّ الشاعر يميل وفق اشتغالات وأداءات تعبيرية إلى الواقع، ويقترب منه اقتراباً يجعل النصوص تقدّم الألفة العائلية والإنسانية، وهي بحث حميم في الصور الوجدانية، والمشاهد التي توحي بالحنين (العائلي) والبحث عن مدلولات الشخصيّات وظلالها المفعمة بالتوق، ويمزج الشاعر بين وجودها وطاقة الذكريات والنظر إليها بوصفها جزءاً فاعلاً من تأسيس اللحظة الوجودية الباذخة والبحث عن الأب من خلال الرثاء بصيغة لا تميل إلى الحزن أو البكائية التقليدية بل استحضار وجوده بصور وتداعيات تضيء تلك اللحظة، ويقدّم الشاعر خطاباً أليفاً ووجدانياً لشخصية الأب الذي رحل إلى لحظة الأبدية:

هل ما زلت قلقاً علينا/ ألم يمنعك الموت عن التفكير بنا؟ /

لقد كبرنا جميعاً/ أنا شخصيّاً وصلت إلى عمرك أيام الثمانينات لم أصدّق أنني الآن أشبه لحظتك التي تسبقني بخمسة وثلاثين عاما ولكنني الآن أكثر عزلة منك/ معي في الموبايل أغان لـ(داخل حسن) أعرف أنّك تحبّه/

وأذكر أنك تقول كلما سمعته/ أنّ صوت داخل حسن يساعد كثيراً على خفض/ السكر في الدم فلا حاجة للأنسولين بعد (يمّه يا يمّه)"(المجموعة: 16- 17).

ونلحظ توظيف المفارقة في استحضار شخصيّة الأب في هذا الفضاء الذي يستثمر الوجع، وصولاً إلى المعنى العميق والمراد فضلاً عن استثمار ملمح ودالة من دوال الروح الشعبية التي تجسّد علامة على وجود وحياة الأب من خلال الاستحضار بين الأب وعوالمه وخصوصيات التذكر وطاقة الاستدعاء التعبيري والإحالة إلى علامة تدل عليه هي أغاني (داخل حسن) التي ترتبط عادة بوجود وحياة الآباء بوصفها إحدى مهيمنات سيرهم التي تعبّر عن أقصى تفاصيلهم، ويستثمر الشاعر في هذا النص كثيراً من المدلولات والعلامات والإحالات إلى الذاكرة الشعبية بوصفها المعادل الصوري لوجود الآباء وعوالمهم الساحرة والقصيّة ويصبح اللجوء إليها تحريضاً وميلاً إلى خلق لحظة اتزان يشعر إزاءها الإنسان بأنه ازاء فكرة تكبر في داخله وهو يخاطب المعنى الكامن والراسخ في الأبوّة وليس مجرد رثاء أو استدعاء تقليدي على مستوى التذكر العابد.

ولعلّ استحضار صورة الأب وفق جماليات هذا الأداء التعبيري تمنح القصيدة زخماً إنسانياً وعاطفياً وتؤسس لنزعة البحث عن الألفة المفقودة في حياة الإنسان وقد فقد المعنى قبل فقدان شخص يمثّل الألفة الكليّة:

"ربما ستضحك – كعادتك – على اسئلتك القديمة

هل يعقل أن يكون غناء (داخل حسن) حراماً؟

وها أنت الآن تسمعه مع الملائكة والصالحين صافياً كأهوار الحلفاية..

وحنوناً كمشحوف غارق بالحنطة والعنبر..

لقد كبرتُ يا أبي.../هذه هي الحقيقة الوحيدة بعد غيابك"(المجموعة: 17).

إنَّ شعرية المعنى الأليف والوجداني وتداعياته تتطلب دراسة استقصائية مستفيضة قد لا تسعفنا المساحة المتاحة التي نحن فيها،

وقد يبدو النص مباشراً لكنه يحمل شعرية المعنى. ونلحظ من الخصائص الفنية في هذه المجموعة أنها لا تمثل مستوى أو موضوعاً محدداً على الرغم من هيمنة التأطير العائلي فإنها ارتحال في مساحات وفضاءات اتسّمت بالعمق والتنوع واستقصاء لحظات وجود قد يوحي تواترها بعدم الاهتمام بها، لكنّ الشاعر يعيد انتاجها ويعيد صياغة حضورها الدال.

وهذا المنحى على مستوى استحضار تعددّية المعنى والصور والاحالات منح المجموعة طاقة إضافية من العمق وتقديم نسق شعري ينطوي على ميل لما هو مثير ويبتعد عن الجاهزيّة والنمط التقليدي أو الأداء المستهلك الذي اعتدناه في تجارب ونماذج عديدة، والمجموعة تؤشّر أهمية استثمار العفوية والبساطة وما تحيل إليه من عمق وجمالية على كلّ مستويات الأداء الجمالي، وهي عفوية لم تكن في عزلة عن القصد بوجود وتوافر قصديّة الوعي بكل قواعد اللّعبة الشعريّة والإمساك بتقنيات الفضاء الشعري والحفر في المتخيّل وإعادة تشكيل الذاكرة وفق تواتر صوري فيه كثير من العفوية والترميز والإنفتاح على التأويل.

تقترب نصوص المجموعة من السهل الممتنع ومن التقاط لحظات حياتيّة تتطلب حساسية مرهفة تؤسس للالتقاط الذكي والمعبّر يقول الشاعر في نص (لوحة الحرب الجديدة):

"قبل أربعين عاماً  / كنت في الصف الأوَّل الابتدائي

في مدرسة اسمها الطليعة العربيّة  / أيام الحرب العراقية الايرانية

كنت فاشلاً في درس الرسم جدّاً / لا أرسم إلاّ دبابات وأسرى مسحولين

وشمساً خائفة/ فوق أكواخ الفقراء /

هكذا كنت لا أجيد إلاّ رسم الجنود الهاربين

والطائرات النازفة فوق القرى والبنايات

كنت أتصور أن الحرب هي اللوحة الوحيدة التي تتكرر في كراسة الرسم". (المجموعة: 27)

وفق هذا الأداء يتناول الشاعر الصورة العفوية واستحضار طاقة التذكّر وبعد التصعيد (الشعري) نجده يحرف المعنى إلى دلالة أخرى وفق اشتغال كنائي ليضع صورة ومعنى آخر يعمّق فيه فضاء الصورة وإحالتها الرمزيّة، عبر طبيعة نصوص عارف الساعدي أنّك لا تستطيع أن تجتزئ منها مقطعاً للتأمّل فالبداية لا تكتمل إلاّ بالنهاية أي أن هناك وحدة عضوية تجمع تفاصيل وتشظيّات الفضاء الشعري ووجود نوع من الاسترسال الذي يقود المتلّقي إلى الضربة الختاميّة التي تحمل كثيراً من ملامح لمعنى جديد تمخّض عن معترك داخلي للنص، فيقول في نهاية النص:

"لكنّي فوجئت اليوم بلوحة لطفلي الصغير

وقد انتشرت فيها الطائرات والدبابات/ فيما هناك قتلى فارّون من اللّوحة

وضعهم طفلي الصغير خارج الإطار وفي زاوية اللّوحة كان هناك ملّثمون

يحملون كواتم ملوّنة بألوان مائية..." (المجموعة: 29).

نلحظ أن النص مكتنز بمعانٍ ودلالات عميقة وإشارات تعكس طبيعة تناسل الخراب والحروب والقمع من جيل إلى جيل، ويمكن الاستدلال على توظيف العلاقة أو الألفة العائلية والخروج بالمعنى إلى فضاء آخر، أي أن علاقة الأب بطفله أدّت إلى تأسيس واجتراح معنى ضمني استثمر ما هو عائلي باتّجاه إدانة الواقع وتعرية الحروب والقتل المجّاني وتطور قوى الجريمة بألوان وأزياء جديدة.

وتتجسّد صورة أخرى للعفوية وقصديّة الحفر في الفضاء الجمالي واستثمار الألفة العائلية وتجسيد معاني أخرى من خلال الاستحضار والايحاء وصياغة المعنى بصياغة كنائية مؤثرّة في نص (جدّي):

"لم اره في حياتي/ فقد مات منذ ستين عاماً أو أكثر بقليل

بقي أولاده يذكرونه في ليالي الخميس/ يقرأون الفاتحة على روحه

 ويذكرون بعض محاسنه ولكن حين مات أولاده

انقطع ذكره إلاّ من هوية الأحوال المدنية

بقي ثواب ليلة الخميس يُهدى إلى ارواح أولاده/ عاش ستين عاماً/

وحين مات/ بقيت روحه تحضر في ليالي الخميس". (المجموعة: 31).

ويمكن القول إنَّ التمركز حول معطيات وعوالم (العائلة) قد ادّى الى نوع من الأسطرة الناتجة عن قصديّة العفوية وتأطير الخطاب الشعري بمعان دلالات واحالات انسانية تحتفي بلحظة وجود متوّهجة وبألفة ساطعة تظلّ عالقة في الذاكرة مثل وشم عنيد.

وتعكس هذه الاشتغالات تحوّلات الخطاب العفوي والقصدي معاً في تشكيل صور تحفل بالمفارقة والتناقض والسخريّة من التحولات الفادحة ويمكن الاستشهاد بنص (كهف العزلة) لما يتضمّن من ثراء وسطوع واشتغال شعري واستثمار لهذه الطاقة العفوية المنتجة لخطاب جمالي مؤثر:

"يوماً سنخرج من منازلنا / وندفع صخرة رقدت على هذي الكهوف

سنسير في الطرقات/ يحضن بعضنا بعضاً/ يسأل آخرون عن الحقيقة

كم لبثنا في الحكاية؟/ لم نجب شيئاً/ ولا ندري لماذا نحن في هذي الحكاية عالقون/  سنسير/ لكنّا نحاول أن نفتّش عن مدينتنا/ ونفتح باب هذه الأرض ثانية/ لندخل في شوارعها/ ونأكل من مواسمها/ ولكنّا على طرق المدينة خائفون/

كنت اشتهيت سيكارة/ فذهبت للبقّال كي ابتاع تبغاً/ في يدي بعض النقود/

وفي دمي تبغ قديم لم أجده/ وظل يسخر ذلك البقّال من هذي النقود

 ويقول لي/ من أي عصر جئت...؟!

 من أيَّ الكهوف؟!.." (المجموعة: 39- 40).

لعلّ عفوية الخطاب الشعري في هذا النص تعكس استثماراً وتوظيفا لسورة الكهف التي تتحدث عن أهل الكهف وغربتهم بسبب الفارق الزمني، ويتعمق المعنى الكنائي عن طريق تأسيس المعنى لبنية التجاور والعلاقات الأفقية وصولاً إلى فكرة ومعنى آخر يرتبط أو يعكس ويجسد فكرة (الاغتراب) وانفصال الذات عن الآخر، والانفصال بين الذاتي والموضوعي وما يعكس روح المفارقة التي يؤدي إليها وجود التناقض الضمني.

وتعتمد معظم النصوص على هذا النوع من الاسترسال المشهدي بحثاً عن ضربة النهاية التي تقدّم رؤية جديدة وزاوية منظور يحتفي بالمعنى الآخر الدال والموحي، فمجموعة (قصائد العائلة) للشاعر عارف الساعدي تؤسس لنفسها مقترحاً يقترب من روح القصيدة الأليفة التي تؤسطر الفضاء وصولاً إلى المعنى المشاكس المراد وفق استثمار تعبيري لكل الفواعل الجمالية ووضع النصوص في تداولية العفوية المؤطرّة

بالوعي والتحريض وادانة القبح والخراب وانطفاء المعنى

المشـاهدات 395   تاريخ الإضافـة 10/10/2023   رقم المحتوى 30835
أضف تقييـم