
![]() |
كتاب الفردوس وإيقاع الشاعر الساحر |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : شريف هاشم الزميلي (كتاب الفردوس) () للشاعر المبدع عبد الزهرة زكي من الإصدارات المهمة، والحاضرة في ذاكرة المكتبة العربية وروادها . تتصدر ( كتاب الفردوس ) ثلاث عتبات نصيّه ، يشكّل كلّ منها بوصلة للإشارة إلى السرد الروحي / الإنساني في نصوصه ، عبر مفاتيح أدركَ هو أن لا بدّ من تسليمها إلى القارئ ليكون فاعلا في تقصّي ما أبدعه وهو الشاعر الساحر . والفردوس لغةً : « البستان .. الروضة .. وأهل الشام يقولون للبسـاتين والكروم : الفراديس، والفردوس : الجنة . وللشاعر حسان بن ثابت وإن ثواب الله كل موحّد جنان من الفردوس فيها يخلدُ » () . عودة إلى العتبات الثلاث : العتبة الأولى خاتمة نصّ ( رسائل في الألم ): « أنصاف رسائل في الألم يفضّها مجنون ذاهل فلا يجد ما يريد » . لم يكتفِ الشاعر عبد الزهرة زكي بأن يفضّ تلك الرسائل مجنون ، بل أسبغ عليه سمة الذهول والشرود والإحباط لتشتيت إرادته عبر تغييبها عن المشهد. ويرى الدكتور قيس الجنابي في مقالته ؛ صراع المتناقضات وفضاء التأويل في (كتاب الفردوس) وفي هذا المقطع بالذات : « خطابا رؤيوياً حين تحول الإنسان إلى كينونة ذاهلة ملغاة غير قادرة على تجاوز الألم » () .
العتبة الثانية « لقد أصغينا إلى حرياتنا طويلاً فما أقلّ ما دفعتنا إليه الأحلام . » يتجلّى في هذه العتبة تناغم يشفّ عن فضاءات موحية في ( طويلاً ) و(فما أقلّ) لإبراز الاحساس بالخيبة عبر تناغم الأضداد . ويتكرّر ظهور الأضداد عند الشاعر في ( رسول ضائع ) ، سرعان ما ينحسر في سعة المرج الذي يحتويها إلى ما يوحدها ، تشهق هي بالناي إلى السماء، في حين يتوسّل هو بلوغ الأرض ، ويبقى الناي رسولا ضائعاً بين المتأرجحين : « بنايه الفتى العبد يتوسل الفتاة الحرة في المرج * * * هي طائرة بالناي وهو يريد بلوغ الأرض به » . وترد العتبة الأخيرة من نصّ ( الفردوس ) حيث " الأنثى الحزينة الوحيدة الأسيانة أشعلت شمعاتها الثلاث فانهمر عريها على الليل . * * * يا ليل يا عسجد يا زعفران من رقّق ظلامكَ على أهدابها حتى شفّ ؟ من کوّر قمرك على نهديها .. حتى انفجر ؟ " ثمة إيحاء غريب في مفردة ( الليل ) المتماهي مع الشاعر ، كلاهما يمنح معشوقته ما يزيدها عنفواناً : « قلبها يرى العالم .. وشفتاها تنسفانه . » هذا العنفوان المتجذّر بكل ما يتسلل إلى المعشوقة من شفرات : « رسائل سرية إليها .. همساتها تستنهض الغابات والنيران والوحوش ." ذلك العنفوان يتجلّى حتى في همساتها القادرة على استنهاض النيران والوحوش ، عنفوان يسعى العاشق إلى ترويضه مع إدراك ما في المعشوقة من عنفوان : « ضعي شفتيك على الوردة كي تنفجر . » وهذا ما أورده الشاعر بتلقائية غير أنها محسوبة سلفاً كدأبه في التعامل رياضياً مع مفردات نصوصه . تشكّل قصائد الشاعر عبد الزهرة زكي إنجازا فريداً في ميدان قصيدة النثر، حيث منحها القدرة على التعامل مع الواقع عبر عيون نفّاذة ترصد أعماق ذلك الواقع وتسعى إلى تغييره على وفق ما يفرضه الإبداع الروحي من جماليات السرد الوجداني الذي تتغصّن موحياته مع مخيّلة المتلقي ، وليس ذلك بغريب على الشاعر وأسلوبه السهل الممتنع ، الغنيّ بالرؤى الشعرية المعتمدة على ما توفره المفردات من إيقاع سحري لخلق المعنى المتوافق مع الأنساق الداخلية للنصّ . تجسد ذلك الإيقاع في أول نصوص الشاعر عبد الزهرة زكي : ( لم نكن بانتظارك يا ورد ) عبر أكثر من دائرة ، بدءاً من دائرة (الانتظار) التي تضمنت النفي القاطع بـ (لم) المستدرك بـ(الانتظار) المؤكّد بـ( أنّ ) ، ولهذا التضاد ، التنافر ، بين كينونة الانتظار، والإصرار على تحققه أهمية خاصة للنفاذ إلى ما عليه الشاعر لحظة تبنيه حلقة الانتظار التي بدت مفرغة ، بل إن التنافر مسّ مساحة الانتظار ذاته ، إذ كلما اتسعت دائرته ضاقت لتشتد سطوتها وهي تتشظى سياطاً من وجع ويأس وحيرة : « لم نكن بانتظارك يا ورد ، غير أنّا انتظرنا » ولأن ( الانتظار ) وما يتضمنه من وجع ، هو محور النصّ ، تم تأكيده بمقطع منفرد « وانتظرنا . » يواصل الشاعر بث أنساق إيقاع المعنى في دوائر ( الخمرة والكؤوس والندمان) إلى جانب هيمنة سطوة ( الانتظار ) : « فدارت الخمرة في الكؤوس . وانتظرنا ، فدارت الكؤوس على الندمان . وانتظرنا ، الشاعر عبد الزهرة زکي مهندس بامتياز لإظهار نصوصه بما يؤمّن إيصال مضامينها إلى المتلقي ، عبر الدقة في توظيف علامات الترقيم ، حيث وضع النقطة بعد (الكؤوس.) و(الندمان.) للدلالة على نهاية الخبرين الواردين في النص ، لتأمين هيمنة (الانتظار) : « فلم يثمل الندمان ، ولم ينتظروا لآلئهم التي سقطت في الراحات . » يتضح إصرار الشاعر على استئناف النفي ، نفي ( انتظار ) الندمان الذين لم يثملوا و« لم ينتظروا لآلئهم التي / سقطت في الراحات . » ولا يخفى الإيقاع البلاغي المتمثل بالاستعارة التصريحية ، حيث التصريح بلفظ المشبّه به ( اللآلئ ) دون المشبّه ، وتركه لمخيلة القارئ . ويتابع الشاعر تلك اللآلئ التي « سقطت في الراحات . » عبر طرحها مؤكدة بالنفي والاستثناء : « ولم تكن الراحات سوى بحر . » ليعود بعدها إلى مناجاة ( ورد ) وبالأسلوب نفسه : « لم يكُ يركبه إلّاك » في نصّ الشاعر عبد الزهرة زكي ما يبعث على البحث عمّا فيه من صيغ بلاغية ، حيث ( الالتفات ) من الخطاب الذي يرد بما يشبه المناجاة ، إلى الخبر، ليستأنف بعدها توكيد حالة ( الانتظار) و بالأسلوب نفسه : « فانتظرناك يا ورد ، ولم نكُ إلاّ ندير الخمرة في الكؤوس . » . هذا يعني أن يواصل الانتظار بالرغم من أوجاعه ، بعدها يلتفت إلى توصيف كينونة الحياة اليومية ، وما اعتاده هو والآخرون لمواجهة مرارة الواقع عبر اختراق دائرة الخمرة التي لا يُدرى أين طرفاها ؟ ويبقى وجه ( ورد ) متوهجا في كل مفردات الحياة ، بما فيها ( الكأس ) : « ولم يكن وجهك إلاِّ لؤلؤة في كأس . » . يختتم الشاعر عبد الزهرة زكي نصه باستفهام حائر ؛ ربما هو استفهام اليائس، بل هو تساؤل من أسقط في يده وهو يعود إلى دوائر (الانتظار) المفرغة: « ففيمَ انتظارنا .. » وتعني النقطتان المتواليتان أنّ ثمة تساؤلات أُخَر يتركها هي الأخرى إلى مخيلة القارئ بعد أن يطلق غصته الأخيرة : « والكأس شربناها يا ورد ؟ » وما أكثر غصص الشاعر يتجرعها حيرة ووجعاً إزاء ما يخترق حياته من مشاهد تتحول إلى نصوص تشكل صرخات وأصداء موحية بكل ما هو إنساني حميم. للشاعر عبد الزهرة زكي أسلوبه المتفرّد في رصد الوقائع اليومية عبر نهج خاص يعتمد فطنة المتلقي لتتبع مساره الإنساني في تلك الوقائع وقد تعامل معها مهندساً وشاعراً في آن واحد ، مما يتطلب جهداً متأنياً في المتابعة ، وتأمّلاً موحياً في فضاءات ما يكتب . يشكل ما أنجزه الشاعر عبد الزهرة زكي إضافة مميزة إلى قصيدة النثر ، أشار إليها الكثيرون آنذاك ، فقد أورد الناقد علي الإمارة في تجليات قصيدة النثر : « إذا كانت قصيدة النثر نصاً مفتوحا بطبيعته التدفقية ، فإن تكامل الفكرة الشعرية يمكن أن يجعل من هذه القصيدة نصّاً مغلقاً مؤدياً رسالته الفنية .. كما في بعض قصائد الفردوس للشاعر عبد الزهرة زكي .. فضلا عن سمات أخرى أو محاور اشتغل عليها الشاعر كاستخدام ثيمة السحر والتصوّف (4) . وللناقد زعيم نصّار رأيه هو الآخر في تجربة الشاعر حيث يقول : « عبد الزهرة زكي ترك لنا آثاراً تجعلنا نمتلك طفرات هذا الحماس الجمالي الذي حفزه إلى الكتابة وإن شعريته منقسمة بين الأرض والسماء ، فيها لغة الروح والجسد وإن جزءاً أساسيا من تجربته الشعرية معنيّ بما هو وجودي وجمالي وكوني ، ليشكّل الزمن والأشياء والعالم من جديد ، وحسب قوانين جمالية .. فيما الجزء الآخر معنيّ بمشكلاته كإنسان على الأرض بوقائع حياته ويومياته وما يراه في الواقع . " (5) . وترد ظاهرة الأضداد في عنوان أحد نصوصه بوضوح : ( خارج الغرفة داخلها) حيث تتجلى في صورة غرائبية تتمثل بحلول الاشياء : الغرفة في الشاعر لتأطير مساحة الخارج المنفتح على الداخل ، وللتعبير عن الحصار النفسي وبصورة مدهشة تسع الضربة الشعرية في نهاية النص : « كثيرون أولئك الذين كانوا في الخارج من الغرفة المحكمة الإغلاق حيث أنا . ** كنت أسمع استغاثاتهم المتكررة اللجوج .. أن تعال ، تعال ، تعال لئلا تموت . * * وكانت تتعالى استغاثاتهم آناً وتتضرع آناً آخر . وكنت الغرفة التي هي أنا أحكم إغلاقي أكثر وأكثر وأكثر .. حتى تقطعت استغاثاتهم وخفتت توسلاتهم . ولم أعد اسمع سوی حشرجات ميتاتهم أولئك الذين لم يعودوا في الخارج من الغرفة التي لم تعد أنا المحكمة الإغلاق . " إنه السرد الشعري المحكم الإغلاق هو الآخر على مديات إيصاله إلى المتلقي لتقصّي معايشات الشاعر لمعاناة الكثيرين ممّن التزموه عبر استغاثاتهم المتكررة اللجوج : «أن تعال ، تعال ، تعال لئلا تموت . » إنّه الالتحام بين الداخل بما له من صلة مع الخارج بما فيه من تفاصيل مع بيان معاناة الإنسان العراقي . وقد استثمر الشاعر عبد الزهرة زكي مهاراته من جماليات البوح الإنساني المفعم بكل ما من شأنه إيصال تلك المعاناة إلى المتلقي ليستعينا معاً على مواجهة كل صور الحصار النفسي لإنسان العائلة العراقية ، بما عرف عنه من براعة في الأداء وما تشفّ نصوصه من رموز موحية عبر مخياله الخصب لاسيما في مطولته ( يحيى ) وفي (أنا فصّك يتقلب بين يديك ) وفي ( عظام الهدهد ) وكلها تتوهج نصوصاً ساحرة في السرد الشعري المعاصر . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ () عبد الزهرة زکي - باب الفردوس ، دار الشؤون الثقافية ، 2000 . () العلامة ابن منظور – لسان العرب ج7 ، ص55 ، دار الحدیث ، 20۱۳ . (3) الدكتور قيس الجنابي ، المدى ، العدد 148 ، 6 / تموز 2004 . (4) علي الإيمارة – تجليات قصيدة النثر عند عبد الزهرة زكي 10/6/ 2006 عن الانترنيت. (5) زعيم نصار – ثقافة الصباح 30/9/2019 عن الانترنيت .
|
المشـاهدات 238 تاريخ الإضافـة 13/11/2023 رقم المحتوى 33146 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |