
![]() |
الساخر الساحر |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : د.منهل الهاشمي كاتب واكاديمي 18/8/2025
في زمنٍ تتكدّس فيه الهموم والمشاكل والمآسي.. بين اهلي وناسي، كما تتكدّس الازبال والاوحال والاهوال في عراق ما بين القهرين، قهر اللا نظام السابق البالي.. وقهر اللا نظام الحالي. ويعلو فيه عواء السياسيين الفاسدين والمرائين الدجالين.. على صوت المهمشين والكادحين والنزيهين والوطنيين. وتنقلب المعادلة الطبيعية رأسا على عقب تماما، حيث تُضحي الإستثناء قاعدة.. والقاعدة إستثناء.. ويغيّب فيه صوت الشرفاء، فيسكتون عن الكلام المباح واللامباح.. في الليل وفي والصباح.. يطلّ علينا هو بقلمه لا بل بمشرطه الماسي القاسي ليداوي لنا الجراح والنياح. إنه المقدادي كاظم ذلك الكاتب والاكاديمي الكبير الذي خرج من تحت عباءته المئات من الكتاب والصحفيين الذين كانوا في يوم ما من طلابه. خرج علينا بأدبه الساخر.. وقلمه الساحر، حتى انني علقت ذات مرة على احدى مقالاته الرائعة في (الفيسبوك) بالقول : دكتور انت لست بكاتب ساخر.. بل ساحر!. فهو يعدّ بحق مدرسة في الأدب الساخر الناقد، ولا اغالي بالقول بأن كتاباته الساخرة يجب أن تُدرّس أكاديميا كنماذج في الجامعات مثل كليات الآداب والإعلام، لتعلم فن كتابة الادب الساخر الناقد بمفهومه العلمي والفني والأدبي السليم. ويمكن تصنيف مدرسته الساخرة بأنها تنتمي إلى أدب المقامة العربي التي تضرب بجذورها بعيدا في العهود الغابرة، كما في عهد مقامات بديع الزمان الهمذاني، والحريري، ولاحقا في العصر الحديث مقامات اليازجي، والمويلحي الموسومة (حديث عيسى بن هشام) - والذي استعار الاسم من شخصية راوي مقامات الهمذاني - وسواهم. فالمقامة هي عبارة عن ادب نثري يكون مرصعا بالصنعة البلاغية وقائمة، على اسلوب السجع والاستعارة والجناس والتشبيه والكناية والترميز وغيرها من ضروب البلاغة البيانية، كما انها تحتوي على الكثير من الاشعار والحكم والامثال. وهي تحكي حكاية خيالية على لسان راوٍ مختلق تتناول نقد الظواهر السياسية والاجتماعية التي تصادفه بروح نقدية ساخرة من خلال شخصية الراوي التي يحمّلها الكاتب أفكاره ومواقفه ووجهات نظره مستترا خلفها، بادءاً بالقول : حدثني فلان... ثم ينطلق بسرد الموضوع على شكل حكاية قصيرة طريفة تتناول الموضوع المطروح بالنقد والقدح والهجاء. وآية تشابه مدرسة د.المقدادي مع مدارس أدب المقامة العربي في أوج ازدهارها، إنها تتميز بالجمل القصيرة التلغرافية المسجوعة والموزونة في الآن ذاته، والتي فيها الكثير مما ذكرناه من العناصر البلاغية. لكن ما يختلف في مدرسته التي من الممكن أن نطلق عليها وصف او وسِمْ : (المقامة المقدادية الحداثوية) لانها تتناسب وأسلوب العصر في الطرح والكتابة الموسوعية الحداثوية العميقة ذات الخطاب الفكري الجمالي المغلف بالسخرية المرة اللاذعة القاذعة. فما يميزها انها تعالج أخطر وأهم الموضوعات والقضايا السياسية والاجتماعية والاخلاقية بأسلوب وتعابير غاية في البساطة والوضوح والدقة. لكنها ليست بالبساطة السطحية الساذجة الوعظية المباشرة، بل هي البساطة العميقة عمق البحار. ان معناها يكمن في ما بين ثنايا السطور، وهذا الأسلوب الادبي هو ما يعرف ب(السهل الممتنع). وهي لعمري من أصعب واعقد الكتابات على كاهل الكاتب. وانا شخصيا أشعر بها وبمعاناتها لأنني أزعم بأنني اكتب في ذات المنطقة وهي الأدب الساخر، وادرك وأقدّر تماما كم المعاناة التي يتجشمها الكاتب من أجل تبسيط أعقد القضايا والموضوعات في نص ساخر لاذع تختلط فيها المشاعر ما بين الفرح والقرح.. المتعة والدمعة، فيجعلك تضحك ملء القلب وعيناك مغرورقة بالدموع... انه الضحك من خلال الدموع!!. فالمقدادي ذلك الساخر الكبير والمثقف الموسوعي لا يُضحكك من أجل الضحك فقط، بل يُضحكك لتفكر وتتأمل حالك ومآلك، ويُبكيك وأنت تبتسم. إنّه ابن بيئته، يتكلم بلسان الناس العاديين، لكنه يصوغ معاناتهم ببلاغة الأدباء.. وفطنة الحكماء. مبتعدا عن الاسفاف والاستسخاف، ويظلّ محتفظًا برصانة الأدب والفكر والفن والجمال، فيمزج الجدّ بالهزل كما يمزج الشاعر بين الوزن والمعنى. وبعد ان تم (تصنيف) نصوصه الإبداعية تحت يافطة (ادب المقامة)، جاء الدور على (التوصيف) وهو (الفخامة). فهي حقا نصوص فخمة.. دسمة.. مكتنزة.. بمعنى انها تحمل عمقا ووعيا فكريا وفلسفيا كبيرين، واذا ما اردت تشبيهها على سبيل التبسيط والطرفة والتفكّه، فهي حين تقرأها تشعر بأنك قد تناولت وجبة دسمة (سمك مسكوف !) تملأ الفكر والوعي بوجبة ثقيلة دسمة من المعلومات والتفكير والتحليل والتأويل والحس النقدي. اما بعض كتّاب الادب الساخر او ادعيائهم فحين تقرأ مواضيعهم تشعر بأنك قد اكلت وجبة سريعة (لفة فلافل) سرعان ما ستزول بزوالها ! فمن كتاباته نتعرف على أسماء وآراء سارتر.. وسيمون دي بوفوار.. وفوكوياما وغيرهم من بقية الفلاسفة والمفكرين، رغم أنّ المقال يعالج بروحه اللاذعة الساخرة موضوعا محليا : قضية الفساد المستشري، الطائفية، السلاح المنفلت، تدهور التعليم، تسطيح الوعي المتعمد من قبل السلطة وسياسييها، تفشي المخدرات، فوضى الشوارع وفوضى البلد العامة، أو حتى ظاهرة سيارات (الفاشلستات كما أسميها) الفارهة وتناقضها الصارخ مع شعب يرزح تحت خط الفقر، والتناقض ما بين أغلبية تكدح... واقلية تردح... والباقي بين هذا وذاك يرزح !! ووووالخ من أعقد القضايا واخطرها ليجعل منها مقالا رشيقا خفيفا يفهمه سائق (الكية) قبل المثقف، وعامل البناء قبل الموظف، وبائع الخضار قبل الأستاذ الجامعي. انه نص ابداعي كُتب بأسلوب خاص مميز متفرد يحمل بصمته الخاصة، بحيث ان القاريء الفطن والحصيف يعرف انه كاتب المقال وإن كان يخلو من اسمه !. ولكن هناك في القلب غصة كبيرة، فللأسف الشديد هنالك الكثير او بالاصح الاغلب الاعم، وحتى بين الكتاب والمثقفين من ينظر نظرة قاصرة ودونية نحو الأدب والفن الساخر، فهم يعدونه مجرد كتابة للهو والمتعة والترفيه و(التحشيش) لا غير!. وفي الواقع ان هذه النظرة السلبية الظالمة تجاه هذا الجنس العظيم من الادب والفن تعود جذورها التاريخية الى نظرة الفيلسوف الاغريقي (ارسطوطاليس) في كتابه ذائع الصيت (فن الشعر) حين عدّ الكوميديا اقل مرتبة ومنزلة من التراجيديا. فالاولى (الكوميديا) بحسب وجهة نظره موجهة الى العوام من السوقة والدهماء.. وأراذل الناس باديي الرأي ! في حين ان الثانية (التراجيديا) بهيبتها وفخامتها موجهة الى طبقة الملوك والامراء والنبلاء والوجهاء !!. وقد سرت هذه النظرة منذ ما يقرب 25 قرنا منذ صدور كتابه الى يومنا هذا تجاه هذا النوع او الجنس الادبي في جميع الوسائط الفنية والأدبية المختلفة : الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والاذاعية، المسرحيات... وغيرها، ومنها المقال والادب الساخر. وفي والواقع لو كانت هذه الاعمال الكوميدية الساخرة - ومن أي جنس او نوع كانت - تخلو من قضية مهمة وخطيرة تهم الناس والمجتمع، بمعنى انها كتبت لاجل الضحك لا غير لكان ذلك القول صوابا، (ولو ان الكتابة الكوميدية او الساخرة ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض بل هي في تقديري وعن تجربة شخصية اصعب من الكتابة التراجيدية، لأنها ينطبق عليها القول المأثور في الدراما "من السهل ان تبكي المتلقي.. لكن من الصعب ان تضحكه"). وهذا ما ينطبق تماما على الكتابة الساخرة، بمعنى أن الكاتب الساخر من الممكن ان يكتب مواضيع غاية في الجدية، او نصا تراجيدياً، ناهيك عن ادبه وفنه الساخر والكوميدي. في حين أنّ الكاتب الجاد او المختص بالترجيديا ليس بمستطاعه كتابة النص الساخر او الكوميدي، لأنّ كتابة هذا الجنس الادبي والفني بالذات يتطلب من الكاتب او الاديب والفنان ان يتسم في طبيعته الشخصية الفطرية بالظرف وخفة الدم، وسرعة البديهية، مع الحس الساخر اللاذع او الكوميدي. اما اذا كان يفتقد كل ذلك فصدقوني مهما حاول ان يستظرف او يكون خفيف الدم في ما يكتب فستجد كتابته تأتي سمجة.. مفتعلة.. ومملة، سرعان ما يعافها القاريء. وقد لاحظت ذلك شخصيا لدى قراءتي للبعض من ادعياء هذا الجنس الادبي العظيم. وأقول عنه عظيما عامدا متعمدا لكونه يقارب ويعالج اخطر القضايا والهموم والمشاكل السياسية والمجتمعية المعقدة، بطريقة مبسطة ذات عمق كبير فهي مرمزة مشفرة ومكثفة، أي تلميحا لا تصريحا على طريقة التورية والكناية والمجاز والاستعارة في بلاغة اللغة العربية، او (الحسجة) مثلما يطلقون عليها أهلنا الطيبون في الجنوب المبدعون بالفطرة، بحيث لا يدرك معناها ولا يعثر على اللآليء الموجودة في قعرها الا من كان غواصا ماهرا فيها ... او ذو حظ عظيم !. فالادب الساخر عبارة عن باقة من الشوك مغلف بورق السوليفان !. وهو شراب ظاهره الزُلال والجمال.. وباطنه مر لاذع وقاذع. وهو المعادل الموضوعي لجنس (التراجيكوميدي) او الكوميديا السوداء في عالم الدراما. هو فنٌّ راقٍ يحتاج إلى حسٍ ساخر بالفطرة، وعقلٍ ثاقب، وذخيرة بلاغية ثرية، وامتلاك مهارة لغوية تمكّنه من اللعب بالكلمات، وصياغة الجملة وتطويعها وإعادة تشكيلها من جديد، كمن يعيد تشكيل الطين الاصطناعي بحسب ما يريد من اشكال وهيئات، بحيث تحمل أكثر من دلالة ومعنى : ظاهر وباطن، معلن ومستتر، والكاتب بالطبع يقصد الثاني. فأما من يقرأ الموضوع مرور الكرام فسيضحكه ظاهره، وأما من يتأمله ويتعمق فيه فسيبكيه باطنه !. وكل هذا متوافر في النصوص الإبداعية لكاتبنا الكبير المقدادي، الذي لطالما حارب الفاسدين.. وعرى الدجالين.. وفضح المرائين.. وكشف المزيفين امام الشرفاء والوطنيين. فيا كاتبنا الكبير القيمة.. والقامة، انت لا تكتب بقلم بل بمسمار.. بمشرط، لكن مشرطك يا سيدي لا يؤذي إلا من تسبب بالألم للآخرين، مشرط كم نحن بحاجة اليه كي يستأصل كل الأورام السياسية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية التي نعاني منها في حياتنا في عهد ما بعد (السقوط). فامضِ يا مبدعنا الكبير... امضِ بمسيرتك الابداعية لا حرمنا الله من مدادك.. ويراعك.. وابداعك، فالكاتب الحقيقي الصادق هو ضمير الأمة وصوتها الصادح... الناصح... والمكافح. |
المشـاهدات 10 تاريخ الإضافـة 17/09/2025 رقم المحتوى 66750 |