السبت 2024/10/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 24.95 مئويـة
البناء النصي للأفكار والعوالم في رواية سفرة سياحية لـ (طه الشبيب)
البناء النصي للأفكار والعوالم في رواية سفرة سياحية لـ (طه الشبيب)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

رنا صباح خليل

الجزء الثاني

تقنية الاستذكار في الرواية

يبدو جليا في الرواية استخدام الكاتب للسرد الاستذكاري كخاصية حكائية في المقام الأول وعلى وفق ذلك فإن السرد يجب أن يحتكم إلى زمن  يؤكده وذلك لأنه من المتعذر حكي قصة ما واحداثها لم تكتمل بعد مع مراعاة أن يكون هناك تباعدا معقولا بين زمن حدوث القصة وزمن سردها، وبعيدا عن هذا المبدأ العام الذي ينطبق على اشكال السرد في مجملها فإن كل رواية يجب أن تتوفر على ماضيها الخاص، مثلما تتوفر على حاضرها ومستقبلها الخاصين بها وهذا الماضي أو سواه من الازمنة لا يمكن فهمه الا في سياق الزمن السردي المتجسد في النص أي من خلال العلامات والدلائل المؤشرة عليه والماثلة فيه، الا أن طه حامد الشبيب في روايته هذه لا يسمح للمتلقي أن يمسك بعصا الزمن ويستشف منها المرحلة التي تتحدث عنها فهو يطلق العنان  لاسذكاراته وتنشيط المخيلة الجمعية بترسبات زمن مضى يحفل بإشارات واضحة الدلالة لما ترمي إليه من مرحلة سياسية عصفت بالبلد ومن ذلك أن يذكر احد الرؤساء محتفلا بنصره وفي فمه سيكار جروت وهو يرقص رقصة الجوبي، وأن هذا السيكار كان يأتيه من بلد المنشأ في طيارة خاصة وقد اصدر امرا بمنعه بعد يومين من وصول شحنته التي تخصه من السيكار، ومن المؤشرات الدالة ايضا أن يصف الزمن الذي يتحدث عنه بأن المعلومة والاخبار تنتشر فيه وتصل بسرعة إلى كل اجزاء البلد على الرغم من تخلفه المتمثل بعدم وجود الموبايل والاجهزة المتطورة، وغير هذا فإن الحرب التي نشبت كان الطرف الآخر له موقفا منها حين يصل قرار الرعية  في البلد المعادى وهو : " وفي غضون الساعات المتبقيات من ذلك اليوم، يقر قرار الرعية في البلد الآخر غير البعيد كثيراً عن بلدنا .. إننا نحن رعايا راعي الشأن في البلد غير معنيين بشؤون قلبه؛ وما خروجنا تحت رايته إلا لدحر المعتدين الآثمين الباغين) وتطهير أرضنا من دَنَسهم .. ولا أبعد من ذلك.. ألا فليعلم الجميع)). هذه هي الترجمة الحرفية لنص قرارهم الذي لم يكن مكتوباً، وقد تناقلته الألسن في جميع أرجاء بلدهم خلل تلك الساعات. بيد أنَّ كمطم لا يعدم الوسيلة .. يحصل على النص ويترجمه المازر ودنهش وميمون الأحمر . وفي الوقت ذاته، تكون ثمة نسخة من النص المترجم أمام شمهورش يبعثها الى أبانوخ؛ ومن خلال هذا تبلغ طيكل الذي سيطير بها، بلا إبطاء، إلى عظيم عشيرتهم"(4)  .

      ولكن الشبيب يصر على العودة إلى احداث سبقت اثارتها داخل الروي برسم التكرار الذي يفيد التذكير، او حتى لتغيير دلالة بعض الاحداث الماضية سواء بإعطاء دلالة لما لم تكن له دلالة واضحة او لسحب تأويل سابق واستبداله بتأويل جديد ومن ثم الانتقال به بشكل خاطف إلى خطاب مغاير، فلا يبقى امامنا والحالة هذه سوى أن نذعن بأن الروي قد انتقل إلى مرحلة زمنية مختلفة قد تكون مرحلة تعددية الاحزاب المتحكمة في البلد مسترشدين بالنماذج التمثيلية المستقاة من نصوص المتن مع الاستعانة بالقرائن المصاحبة لها  على الرغم من أن الشبيب لا يسعفنا بأي دليل يساعدنا على معرفة الفترة الزمنية بشكل يقيني ولا يحدد لنا المكان ايضا ولكن المتلقي بلجوئه إلى التأويل يتضح لديه أن هذا الاستذكار قريب العهد لأنه لا يزال طريا في ذهن من يستعيده بكامل وضوحه وتفاصيله ويكشف من خلاله ما يخالجه من ذكريات وهواجس قائمة وشاخصة، فمن من العراقيين مثلا لا يدرك أن في عهد صدام كان من يعارض وجود الحرب ولا يؤدي الخدمة العسكرية يقضي على حياته ومن منهم لا يدرك أن البلد بعد سقوط نظامه تملكته فئات وميليشيات وانتشرت في شوارعه مقرات حزبية كثيرة ومن منهم لا يستوعب صفة الغيرة والنخوة المتمثلة بالفرد العراقي والتي هي غير مضمونة في بعض الظروف بسبب التقلبات المزاجية التي تحيط بنفسية كل فرد منهم، وهو الأمر الذي دعا ذلك العشيق الراوي لأن يحذر معشوقته المطاردة من الخروج نهارا بعد أن خبأها كي لا تُقتل كونها زوجة عضوا في المجلس الأعلى وهو كان صديقا لمن تولى امر البلد  قبل ساعات ومن ثم كان يكرر انه كان قبل ايام أو اسابيع وفي ذلك التكرار كانت تكمن غاية تفسر تسارع الانقلابات وتشويه المواقف وعدم الاتكال على المعرفة الشخصية للناس في ذلك البلد . 

  تتجلى جماليات الأبداع السردي عند الشبيب في مدى حرصه  على إبداء فنياته التقنية في أعماله الروائية، بيد أن جمالية هذه الفنيات تكمن في صقل وبناء منهجية مسطرة تأسيسا على كتابة نص داخلي، كل ما فيه لا يأتي من خارج النص وانما يبنيها النص بإمكاناته السردية المخلّقة التي تندرج في سياقها كل العناصر الأساسية لبناء العمل الروائي، ولذلك فإن زمن الحكي ليس زمن الساعة، وكذلك فان مكان الرواية ليس المكان الطبيعي، فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكانا خياليا له مقوماته الخاصة وابعاده المتفردة، والعالم الفسيح يخضع لمنظومة انسانية عقلية تقسمه الى مناطق وإلى عوالم منفصلة أو متصلة، لكل منها قوانينها الخاصة التي تحكمها. وبالإضافة إلى هذا التصور للمكان فهو حامل لمعنى ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة ؛ فإن ثمة ظاهرة أخرى لها أهمية كبيرة بالنسبة إلى تشكيل عالم الرواية وهي إضفاء البعد المكاني على الحقائق المجردة أي دور "الصورة" في تشكيل الفكر البشري وذلك يتجلى في صيغة عقد الزواج واشتراطاته التي تمت بين عالم الجان والحاكمان اللذان اصبحا في تحارب فيما بعد، وكذلك في طريقة تعامل رئيس المجلس الأعلى مع زوجته الانسية ومع زوجته الجنية، وفي كيفية تفاهمه مع كبير الجان " كمطم".

كما لا نغفل ارتباط عالم الجان كمكان بالإدراك الحسي وقد يقوم بإسقاط الادراك النفسي على الأشياء المحسوسة من تدهور وهدم له صلة وثيقة به في عالم المرأة والرجل الراويان العاشقان، ومن هذا المنطلق نرى ان المكان ليس حقيقة مجردة وإنما هو يظهر من خلال الأشياء التي تشغل الفراغ أو الحيز، واسلوب تقديم هذه الأشياء له دوره  كحرص الاهالي على تهيئة اماكن لاستكمال المنهج الدراسي لابنائهم بعد سقوط دولتهم هو الوصف الذي يتضح فيه ان مقاطع السرد لا تأخذ معناها الحقيقي سوى بارتباطها بغيرها من المقاطع السردية لكشف مسار الحكي واثبات ان مقاطع الوصف تتميز بنوع من الاستقلال النصي وتقف بمفردها لوحة ثابتة يمكن استخراجها من الرواية كوحدات مفردة، ولكن هذا لا يعني ان هذه المقاطع لا تنتمي إلى البناء الكلي للرواية فبالرغم من استقلالها فإنها توظف توظيفا جماليا في خدمة محور الرواية وفي اضفاء الظلال والدلالات على مسار الروي. 

  ومن آثار جماليات الروي عند الشبيب ما نجده من تقنيات تتوافق مع معطيات ما يريده كروائي محترف لمهنته من خلال ضبطه وتنسيقه لعمله الروائي، ولا شـك أن تجـاوزه للمقتضيات البنائية التي توجه السرد التقليدي منحه إمكانات عديـدة لتشـكيل المادة الحكائية، وأسهم في تحرير الشكل الروائي من خطيته ونمطيته ومما يلاحـظ أن السـرد فـي هـذه الرواية تميز بتماسك بنيانه وتراكيب مستوياته، وتنوع إيقاعاته وتداخلها، مما سمح بالانتقال من الخارج إلى الداخل، كما كشف عن تخليق أزمة غرائبية ساعدت الشخصية الساردة على تشكلها بكل تناقضاتها وأسئلتها وعلاقاتها الملتبسة مع الذات والآخر، إن هـذا الـتوزيع في البناء السردي – رغم قيام شخصيتين بسرد اغلب احداثه – لا يعني توزيعاً بحسب الأهمية، أو القرب من مركز الحدث، أو القرب من الحدث الجلل بسقوط الدولة او بزواج الانس من الجن ومآلاته التي ادت إلى فناء كل شيء، بقدر ما يعنـي قـدرة الشخصـية على كشف بعض جوانب الغموض في شخصية الحاكم بشكل عام، ومحاولة للكشـف عـن سر اختفاء الحاكم لذلك البلد بشكل خاص، ومع ذلك  تبدو الشخصيتان(المرأة والرجل) مستقلة عن بعضها البعض، فلكل منهما اغترابه في الرواية وعالمه الخـاص، ورؤيـته الذاتية للكون والأشياء، ولكنها تلتقي حول موضوع واحد، وهو لا معقولية نشوء الدول وفنائها وتلك الغرائبية  التي تصبح بهذا المعنى نقطة التماس تلتحم عندها الشخصيات، ثم تتوزع في اتجاهات مختلفة، وهذا يؤكد أن البناء الفني في الرواية لا يقوم فقط على مبدأ الـتكافل والتقارب بين الشخصيات، بل على مبدأ التباين والاختلاف وصولاً إلى الحقيقة التي يتم البحث عنها .

المشـاهدات 204   تاريخ الإضافـة 06/07/2024   رقم المحتوى 49009
أضف تقييـم