الأحد 2024/9/8 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
نيوز بار
دراسة نقدية ذرائعية للقصيدة السرديَّة التعبيريَّة "الكاوليّة الزائرة"
دراسة نقدية ذرائعية للقصيدة السرديَّة التعبيريَّة "الكاوليّة الزائرة"
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

سمر الديك • مدخل: مما لاشك فيه أن الشعر قطعٌ من الأحاسيس، ينقلها الأديب للمتلقي بدلالاتٍ لغويَّةٍ على مرآةٍ من ورقٍ يحدّد ملامحَه بقلمٍ من فكرٍ يستمدُّ مدادَه من روحه ومُعتقده، جاعلاً من تجاربه الشخصية و العامة مخزوناً لا ينضب, يحملنا على بساط من الخيال يطير بنا عبر الأثير, و ينقلنا عبر الأزمان, والأماكن, والأكوان، فنهيمُ مع قائله, وننتشي بروحه من خلال إحساسٍ يتناص مع الحياة, و تجارب المبدعين. وها نحن الآن بصدد قصيدة النثر التعبيرية التي انتشرت حديثاً منذ عشر سنوات على أيدي مُبدعيها: د.أنور غني الموسوي, والأديب كريم العبدالله الذي نحن الآن بصدد دراسة قصيدته التعبيرية بعنوان: الكاولية الزائرة. توطئة للتعريف بالشاعر: الأديب كريم كاطع عبدالله العكيلي، شاعر، وروائي، وناقد، ومسرحي من مواليد العراق بغداد، صدر له العديد من الدواوين الشعريَّة، منها: العشق في زمن الغربة، وجع أشيب وكف عذراء، تصاويرك تستحم عارية وراء ستائر مخمليَّة، بغداد في حلّتها الجديدة، ديوان الشوارع تحيض تمسح أحذية الغزو، ديوان حدقات متثاقلة بتصاويرك الرطبة. والعديد من الكتب النقديَّة، كما له العديد من الكتب في مجال التأليف، والإخراج المسرحي، مثل: مسرحية الغريب، الشيوفرينيا، نائب الموت، الجهل والحرمان، مسرحية ليلة هيثم الأخيرة، مذكرات متقاعد.... ناهيك عن الروايات المطبوعة والمخطوطة، آخرها رواية مالم يقله سيزيف في مذكراته المجنونة. البؤرة الأساسيَّة الثابتة Static Core: وفيها نلمس أيدولوجيَّة الكاتب الأدبية، والفكرية، ونظرته نحو مجتمعه، وهي الرسالة التي تُميّز الشاعر كريم من خلال قصائده السرديَّة التعبيريَّة، حيث أصبحت هويتَه الملتصقة به كبصمته، على الرغم من صعوبتها في الكتابة، كونها كتلة واحدة متماسكة سردياً من حيث تعشيق المفردات بشكل جمالي يبرز صوراً متلاحقةً كقوله: "(فامي) المشحون بعطر معلَّمتي الممتد لحدود الشيخوخة المتبعثر تحت تنورتها (الميني جوب) الأسطورية المُمجَّدة في زمن الأبواب المغلقة..." وكما يقول الشاعر الفرنسي أندريه بروتون: (ما من شيء هذه الأيام أصعب من أن يكون الإنسان شاعر قصيدة نثر). وقول الشاعر الأمريكي مايكل بنديكت: (إنَّ قصيدة النثر هي نوعٌ من الشعر مكتوبٌ نثراً بوعيٍ ذاتي، ويتميَّز بالاستخدام المكثَّف لجميع أنواع الشعر تقريباً) فالشاعر بقصيدته السرديَّة التعبيريَّة يتحدَّى الأشكال التقليدية للشعر، فهو لا يستغلّ المتلقّي بالكتابة السطحيَّة، إنَّما يحاول أن يرفع ويطور من ذائقة المتلقي، ويشاركه في الجمال والإبداع، ولا يجعله مُستهلِكاً، فهو يكتب ما يجده صالحاً للمتلقي، محاولاً أن يُخلَّصه من تفاهات ما يُنشر اليوم باسم الأدب، بغية البحث عن المتلقي المثقف المبدع، لأن المبدع الحقيقي هو الذي يأتي بشيء جديد لم يسبقه به أحد، وهذا يُحسب لشاعرنا المبدع الذي نحن بصدده. المستوى المتحرك الديناميكي: الشاعر كريم من الشعراء المبدعين في الوصف السردي التعبيري الذي يُكوّن اللوحة بحسيَّةٍ عاليةٍ، تلك الغجريَّة الكاوليَّة الزائرة يراها، ويتمنَّاها، وكأنه ابن اللحظة، ويجعلنا نراها معه من خلال استخدامه لتقنيَّة الصور الشعرية، وتتاليها، وهذه التقنية تمثل صدى لمشاعر الشاعر، وانفعالاته الحسيَّة، كأننا أمام لوحةٍ شعريَّةٍ استطاعت أن توصل أحاسيس الشاعر بأكبر قدر ممكن من الأحاسيس، والوصف الصوري الموصوف بإطار الصورة الشعرية، وما تحمله من تعبيريَّةٍ جليَّةٍ واضحة. يقول: "يجثو الخيال البريء على (الرحْلَةِ) مُنتشياً مرتبكاً حريرها البرتقالي يدوّي يُطبشر حنطة مزارعها المتعطَّرة بخوفه المجهول، تهربُ بثلاثةِ دراهم مراهقتهُ العاصفة تدسّه في (سينما الرافدين) يقضم أنامل شهوته المكبوتة" هذا المراهق الجالس على المقعد الدراسي هام حبَّاً بمعلمته التي يتضوَّع منها رائحة عطرها المُفضَّل (فامي)، وتثور عاطفتُهُ نحوها مما يضطره إلى أن يشبع مراهقتَهُ هذه بثلاثة دراهم تُدخله إلى سينما (الرافدين)، حيث يطفئ ظمأ شهوته المكبوتة بفيلم سينمائي لمحمود ياسين، ونادية لطفي. المدخل البصري: أول ما يلفت انتباه القارئ ثيمة القصيدة، أي عتبتها الواضحة، فالعنوان موجّه دلالي يستفز القارئ ويحفّز المتلقي لقراءتها بتمعّنٍ وشغف، والغوص في التفاصيل لاكتشاف الدرر، كون العنوان مجموعة من العلامات اللسانيَّة التي توضع على رأس النص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، وبالتالي العنوان نصّ موازٍ، فهو مفتاح جمالي، وعلامة سيميائيَّة تقوم بوظيفة الاحتواء لمدلول النص، كما يساهم في توضيح دلالته فيعيد إنتاجه، وقدرته على تكثيف واختزال الفكرة المحوريَّة فيه. جاء العنوان (الكاولية الزائرة) ضمن جملة اسميَّة، والكاولية هي التسمية الشعبية العراقية الدالة على طبقة خاصة من أبناء المجتمع العراقي، يقوم أعضاؤه بتقديم نوع من خدمات المتعة للمنحدرين من الطبقات الميسورة، ويطلق عليهم أيضاً اسم الغجر. المدخل اللساني والدلالي والجمالي: أي سيمانتيك النص، واختيار الكلمة، أي علم اللغة، وبالتالي اللغة الشعرية التي تغوص في أعماق النفس الإنسانيَّة للكشف عما يختلج في نفسيَّة الشاعر من أحاسيس مختلفة من خلال الإيحاءات، والخيال، والرمزيَّة، والصور الشعريَّة، وعلم البيان، والبديع، والموسيقا. "يَقضُم أناملَ شهوتِهِ المكبوتة، ينحت أحلامَه الشاسعة كلمَّا تزوره (نادية لطفي) تثيرُ غريزةً تفضحهُ" أرى أنَّ الشاعر أحسنَ كثيراً، وأبدع في انتقاء الصورة الشعرية وبلاغتها، تلك الغجريّة الكاولية التي يراها ويتمنَّاها في كلّ لحظة، ويُشعرنا بتوهّجِهِ، وكأنَّنا معه الآن وهو يتكلم، وليس سرداً من زمنٍ بعيد. كما نلاحظ حضوراً مُكثَّفاً لضجيج الحياة، والحرمان، والوجع النفسي المُتخم بالآهات المتمرّدة، من خلال صور شعرية مركَّبة تجمع بين الأشياء، ومدلولاتها أمام واقع يعجّ بالقسوة، والفقر، والحرمان. يقول: "الابتهالات الممنوعة"، "يجثو الخيال البريء على (الرحلة)"، "يقضُمُ أناملَ شهوته المكبوتة"، "ينحت أحلامَه الشاسعة"، "تجرحُ كبرياءَهُ مثل سوطِ أبيه"، "تلتف حوله قصائده الماطرة عشقاً ولوعة"، "يقفلُ راجعاً بلا نعلٍ يهجره مزروعاً بأعماق الطين". لقد حمَّل الصورةَ صفاتٍ محسوسةٍ "حريرها البرتقالي"..."سوط أبيه"..."أعماق الطين"..."ربابة الغجري العجوز"..."عطر شالها المزركش"... لقد كان شغوفاً بها، غير قادرٍ على أن يسيطرَ على شهوته المكبوتة، والآهُ تفترسُهُ، وليكن احتراق العالم بعد ذلك. لقد أُتخمت القصيدة بالتكثيف، والانزياحات، وجماليَّة التعبير، والصور الشعرية، حيث استطاع بموهبته، وخبرته الشعريَّة رسم أجمل الصور باستخدام علم البلاغة، والبيان، والبديع، كما وظَّف الطباق، والجِناس، والتشخيص بخبرةٍ، ومهارةٍ، وحَرفَنة، واتزان، وهذه الاستراتيجيَّة البارزة في شعره مردُّها إلى اهتمامه الدقيق بصناعة الجملة الشعرية الواحدة، لذلك يَحسُّ القارئ بحلاوة القصيدة، وتأثيرها المباشر في الحس، والوجدان. على سبيل المثال نلاحظ الكناية بقوله: "زمن الأبواب المغلقة الضَّاجة بالابتهالات الممنوعة"، كما نجد الاستعارة بنوعيها المكنيَّة، والتصريحيَّة، منثورة بكثرةٍ في القصيدة، كقوله: "يجثو الخيال البريء على (الرحلة)". شبَّه الخيال بإنسانٍ جاثٍ، حذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنيَّة، وقوله: "الآه تفترسه". الاستعارة التصريحيَّة كما في قوله: "بهدلت خرائطَ شهوتِهِ فعاد يَخيطُ ما انشقَّ من فرحٍ غامرٍ". الطباق كما في قوله: "راجعاً يعود"، "يجثو يهرب"، "الممتد والمتبعثر". والجِناس بقوله: "عطر مُتعطَّرة". لقد أجاد الشاعر في الوصف السردي الجميل الذي يكوّن اللوحة بحسيّة عالية، ويجعلنا نراها معه، وهكذا تتوالى الصور في القصيدة، كلّ صورة تُسلّم للصورة التي تليها، بحيث شكَّل لنا لوحةً ناطقةً بالإبداع والجمال. أرى أنَّ الشاعرَ بهذا السَّرد التعبيري اختزل روايةً بكاملها بزمنكانيَّتها، من خلال التصوير، أو كأنَّنا أمام شاشةِ عرضٍ كبيرةٍ لفيلمٍ سينمائي. الموسيقا: وهنا لابد من الإشارة إلى الموسيقا الداخلية للقصيدة التي جاءت انسيابية، حيث وُفّق الشاعر في اختيار الألفاظ ذات الأصوات التي تملك نبرة إيقاعيَّة: "فامي"، "المُغلقة"، "الضَّاجة"، "الممنوعة"، "المُمجَّدة"، "الأسطوريَّة"، "يدوّي"، "يُطبشر"، "يَقضُم"، "يجثو"، "ينحت"، "يُهيّج"، "يقفل"... لذلك جاءت القصيدة مُمَوسقة من خلال إيقاع موسيقي مُتحقق بحسّية الألفاظ، وتراتبيَّة الأفعال، وقد أكْثرَ من تلك الأفعال المستقبليَّة بصيغة المضارع، وهذا دليل على الاستمراريَّة في الرؤية، والتجدّد في موضوع النص. المستوى الأخلاقي والأيدولوجيَّة الفكريَّة: بعودتنا للقصيدة نجد أنَّ الشاعر حمَّل القصيدة بعداً اجتماعيَّاً، كالفقر، والقمع، وقساوة السلطة الأبويَّة، والحرمان، وازدواجيَّة المعايير الاجتماعيَّة، وبالتالي أستطيع أن أحدّد استراتيجيَّة الشاعر الفكريَّة بأنَّه شاعرٌ ثائرٌ على كلّ أنواع الظلم، والفقر، والتخلّف، شاعرٌ مُتمرّدٌ، على الأعراف والتقاليد البالية، يحملُ فكراً تنويريَّاً حداثويَّاً، مُلتزمٌ أخلاقيَّاً، ينضوي تحت خيمة الالتزام الأخلاقي. أتمنَّى أن أكون مُخلصة، وموضوعيَّة في دراستي هذه، بما يستحقّه من دراسة وقراءة نقديَّة، فأيّ عملٍ من الصعوبة أن يكون كاملاً، فالكمال لله وحده جلَّ شأنه. تحياتي واعتذاري لرائد القصيدة السرديَّة التعبيريَّة المُبدع الأستاذ كريم العبدالله.

المشـاهدات 63   تاريخ الإضافـة 21/07/2024   رقم المحتوى 49817
أضف تقييـم