الجمعة 2024/12/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 13.95 مئويـة
نيوز بار
احتراق قراءة سوسيولوجية في رواية "ثقوب عارية" للعراقي "علي الحديثي"
احتراق قراءة سوسيولوجية في رواية "ثقوب عارية" للعراقي "علي الحديثي"
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سوسان جرجس / لبنان

 

بعيدًا عن القوالب الروائية الكلاسيكية التي تفرض نفسها وأسلوبها على القارئ العربي عمومًا، يقدّم الروائي العراقي علي الحديثي       ضمن "ثقوب عارية" نموذجًا متميّزًا في الرواية الفلسفية، فهي رواية ثيمتها الجسد، لا، بل العريّ الجسدي ضمن مجتمع أقلّ ما يقال عنه إنّه مجتمع تقليدي عشائري، تسود فيه السلطة البطريركية بمنابعها الثقافية والدينية.

فأيّ أفكار تضمّنتها "ثقوب عارية"؟ لمَن توجّهت؟ كيف؟ وبأيّ رسالة؟ أم إنّها كُتِبت فقط من أجل المتعة الأدبية؟

بدءًا من الإهداء اللافت "إلى أجساد تبحث عن صوتها" ندرك أنّ الحديثي لم يكتب روايته للعامّة، إنّما إلى فئة محدّدة، تدرك لغة جسدها ورموزه، كما تدرك أسوار السجون التي تقمع صوت هذا الجسد وتخفيه وتعيقه عن بناء شبكة علائقية وتواصل اجتماعي بهوية إنسانية.

بين العري واللباس كلمة قالها المجتمع

بطل رواية "ثقوب عارية"، أوس، شخصية عراقية غريبة، لم نعرف كثيرًا عن تنشئتها الأسرية، كلّ ما نعرفه هو أنّه موظّف في الأربعين من العمر؛ ومع أنّ الصورة النمطية السائدة لهذه المرحلة العمرية هي النضج والاتّزان والاستقرار الفكري والحياتي الناتج عن التعوّد، إلّا أنّ اختيار الحديثي لهذه الشحصية لم يكن محض صدفة، إنّما هو مستند لفكرة، مفادها: أنّ الحياة البشرية وجدت بالسؤال وعدم الرضوخ لأوامر البنية القائمة، حتى لو كان السائل بعمر هذه الأرض، ألا تستقي البشرية وجودها- دينيًا على الأقلّ- من معين السؤال والبحث بماهية الشجرة المحرّمة؟ فإن كان آدم وحواء قد عصيا ربّهما، وخاضا رحلة السؤال، أفيُعقل بالناس أن تحيا واقعها المعاش من دون أن تطرح بذور الاستفهام؟ لِمَ اللباس؟ أو ربّما لِم هذه الطبقات اللا متناهية من اللباس التي تثقل بوطأتها فوق الجسد؟ لِمَ لا يحيا الإنسان عاريًا كما ولد؟ لِمَ عليه أن يغادر "الطبيعة" وينخرط عالم "الثقافة"، حيث اللباس قيد للجسد، ليس في حركته فحسب، وإنّما في تأطيره ضمن دوائر انتماء هويّاتي لا تنتهي.

إذا كان بعضٌ من قرّأ رواية الحديثي، قد رأى فيها محاولة البطل الطائشة المجنونة في السؤال عن إمكانية التعرّي لدى أصدقائه وزميلته في العمل، والمارّة على الطريق، لا بل رأى محاولاته لتعرية الموجودات كلّها في هذا العالم... أجل قد تكون رؤيتكم مصيبة، ولكن يحقّ لنا بحكم التأويل الأدبي أن نتساءل عن المعنى السوسيولوجي للتعرّي، أوَليس التعرّي مفهومًا ثقافيًا نسبيًا؟ أليس يحمل دلالات رمزية بعيدة عن صنمية العريّ المطلق للجسد؟ إنّ كلمة العريّ تختلف في معناها وتجلّياتها تبعًا للانتماء الثقافي والديني والمناطقي للناس، فما يراه "شرقيّ ملتزم دينيًا" عريًّا، قد - وأشدّد على كلمة قد- يعتبره غربيّ متحرّر "حشمة"، وفي رأينا أنّ البطل ضمن رواية "ثقوب عارية" قد خاض تجربة العري بمعنييها المطلق والنسبي.

ففي الصفحة 7، يقول "عدت مسرعًا إلى الصالة، وفي طريقي كنت أخلع ملابسي قطعة قطعة، أرميها حيثما كنت، لأصل الأريكة عاريًا تمامًا"، وهنا يحمل العري معناه التامّ المطلق، وإن كان يخفي بين طيّاته رسالة فلسفية اجتماعية يريد الكاتب إيصالها للقارئ بأسلوب أدبي، وهو ما سنتحدّث عن دلالاته لاحقًا، ولكن إذا نظرنا في الصفحات 13- 15، فسوف نرى أنّ دعوة أوس أصدقائه للتعرّي لا تحمل المعنى المطلق للمفهوم، إنّما هي مجرّد دعوة إلى هدم حجر في سور التابوهات، بدليل أنّ ما قام به في المكتب هو فكّ الأزرار العلوية من قميصه، والغاية المخفية في هذا الفعل هي أن يبرز شعر صدره، فتراه علياء عن طريق الخطأ، لكنّه يكون الحافز الأوّل لإقامة علاقة حميمة عاطفية بينهما، والتساؤل هنا: هل إظهار شعر صدر الرجل تابو محرّم في الثقافات كافّة؟ هل حقًّا أنّ رؤية بضع شعرات من صدر الرجل تشكّل عامل غواية وإغراء بين الجنسين في أيّ مجتمع من دون استثناء؟ ألم يلحظ مالينوفسكي في دراسته لقبائل التروبرياند أنّ النساء يسرن عاريات الصدر، لأنّ نسق التصوّرات لديهم مبنيّ بطريقة أن نهد المرأة ليس بعورة يفترض إخفاؤها!

إنّ ما يثيره الحديثي من أسئلة - سواء كانت بينه وبين نفسه، أو بينه وبين علياء التي هو على علاقة حميمة بها، أو بينه وبين أصدقائه- يحيلنا إلى ما كتبه  ميشيل فوكو من أنّ الجسد ليس مجرّد كيان طبيعي، وإنّما هو كيان يُنتَج اجتماعيًا من خلال نظم المعرفة والسلطة، حيث يصبح جسدًا ليّنًا طيّعًا تحت تأثير قوى متعددة تساهم في إخضاعه وترويضه، فمَا هذه السلطة؟

السلطة الدينية ولجم الجسد في "ثقوب عارية"

بالعودة إلى الصفحات 7- 8، يربط الحديثي بحنكة ومهارة أدبية موضوع العري واللباس بالايديولوجيات الدينية، أو حتى أساطيرها، مبيّنًا أنّ اللباس، تبعًا لأسطورة الخلق، كان أشبه بعقاب إلهي فرضه الله على آدم وحواء حينما عصيا أمره، فأخرجهما من حالة العري المتلائمة مع البيئة الإلهية، حيث الجنة وكمال أهلها، وأنزلهما إلى العالم الدنيوي/ الأرض، حيث لا بدّ من اللباس لملاءمة البيئة البشرية وما فيها من تقلّبات مناخية وتحوّلات اجتماعية وتاريخية.

إذًا فقد فرض الله اللباس على آدم وحواء، ومن ثَمّ جاءت الأديان السماوية لتبتدع طبقات لباس أخرى، من الواضح أنّه قد كان لها أهدافها في التمايز الجندري والطبقي والاجتماعي المتلائم مع مكانات وسلطات اجتماعية متباينة، وفي هذا الصدد يحدّث بطل الرواية شريكته/ حبيبته علياء عن ما ذكره الدين في إطار خمار المرأة وزينتها وجلبابها، والغاية منه، مبيّنًا أنّ هذا كلّه قابل للتأويل والقراءات الدينية المتجدّدة التي تأخذ بعين الاعتبار تباين الثقافات والبيئات وما حَكَمها من ظروف مجتمعية، ولمّا كان قد عُرِف عن الروائي الحديثي جرأته في طرح الأفكار التي تضع الكليشيهات والمسلّمات تحت مجهر المساءلة الأدبية النقدية، فإنّنا نراه في الصفحة 70، وفي إطار نقاشه مع صديقه محمد، يلمّح إلى أنّ عري البشر لم يجلب للمجتمعات البلاء، إنّما كان السبب هو اللباس بكلّ تفاصيله وتوابعه التي صنّفت الناس، وحدّدت، ليس فقط انتماءاتهم الدينية، وإنّما أيضا درجة الالتزام نفسه داخل الدين الواحد، وراحت تحلّل لباسًا، وتحرّم آخر.

المشـاهدات 151   تاريخ الإضافـة 24/07/2024   رقم المحتوى 49971
أضف تقييـم