الإثنين 2024/12/30 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
حوار الماء والشعر دراسة في شعرية النص عند الشاعر إياد الأسدي أ.د خالد حوير الشمس
حوار الماء والشعر دراسة في شعرية النص عند الشاعر إياد الأسدي أ.د خالد حوير الشمس
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

    بودي أن أتحدث عن حوار الماء والشعر عند إيَّاد الأسدي، بفعل الحتمية التي أفترضها في تبادل الأدوار، وإحداث الحوار بينهما، تلك الحتمية التي تنص على تأثر الشاعر بمحيطه، ولا نتجاهل نشأة إياد حول ضفاف الماء، في قضاء الجبايش، وقد ازدانت تلك البقعة بماء كثير، ولّد عقلا شعريا، يجعل الماء آخر، يتقابل مع ذات شاعرة، لها القدرة على تسويق تلك الذاتية بلغة الوجدان، فينفذ الماء إلى مفرداته، وجمله، وخطابه، وصورته الشعرية. إلا أن المذهل، والمفارقة لم نر عنوانا لقصيدة يحمل مفردة الماء في ديوانه الأول (طوافٌ حرٌ)، الذي طبعه اتحاد الأدباء والكتاب في العراق سنة 2023 مسيحية، وإنما جاء توظيف الماء في العنوان بطريقة أخرى، تقترب من ذلك، فعنده قصيدة بعنوان: (مُدن الندى)، وعنده قصيدة أخرى (يُشعل ذاكرة النهر)، ويحشِّي ديوانه بموضوعات الماء على مسافات متعددة، قلّ أن تأتي قصيدة بلا ذكر للماء في ديوانه. إذ ذكر أنواع الماء، ومن ذلك النهر، في قصيدته (وطن الجود)، فيتعامل مع هذا الوطن بأنه مجموعة أُنهر[1]، ويرد في شعره من أنواعه (الهور)[2]. أو يكتفي بذكر أحد أوصاف الماء وهو الفرات، في توصيف حبيبته في قصيدة له بعنوان (موسيقا اسمها)[3]، أو يصل به المطاف إلى توظيف مفردات من الحقل الدلالي الذي يخص الماء، من قبيل العطش، والشرب، والإبحار[4].

   بدءا لا بد من تحديد المنهج النقدي، الذي يسيِّر منوال هذه المقالة النقدية؛ لكي لا أقع في المحذور المنهجي النقدي، الذي يحذر منه كبار النقاد؛ إذ تعاني النقدية العراقية الحديثة من أزمة في المنهج؛ بسبب تعدد المناهج، وكثرتها، ولا أريد أن أعقِّد التحليل على شعر شاعر واعد، يصدر ديوانه متأخرا، بعد إلحاح عليه بالطباعة؛ لذا أحتاج أن أقف على مزية شعره في ديوانه على وفق المنهج الجمالي؛ لينبري من عباءة هذا المنحى الجمالي سؤال مهم، هل تُحققُ تلك الجماليات السمة الأدبية في شعر إياد الأسدي؟ الذي رأيته قبل 10 سنوات تقريبا في بعض المحافل العلمية برفقة أصدقائه، وقلت له ولاصدقائه سيتألق إياد شاعرا، وباحثا في قابل الأيام. وبناء على تلك الأدبية نؤسس لحكم نقدي أول، يحكم سمة قصيدته، التي يجعلها مسبوكة بنيويا، وسياقيا، فيقترب من مفهوم النص الأدبي الذي تؤسس له النقدية العربية القديمة، وهذا من ترِكة النقد العربي الذي زاوله إياد في دراسة الماجستير، وكتابته في نقد القصيدة الصوفية.

  يحاكي إياد الواقع، فيصوغه شعرا، مستعملا ريشته، لتزويق لغته بصور مُثلى، ليضع نفسه في مصاف الشعر، وفي مصاف جيله الشعري، على أن وسيلته في التزويق الأقاويلُ، كما يرى الفارابي، فأراه منضما إلى بوتقة الشعرية العالية، التي لن تغيب عن نصوصه المدرجة في ديوانه، الوارد فيه نوعان من القصائد، المقطوعات، وهي أخذت النسبة الأكبر، والقصائد المتوسطة الطول، التي لا تتجاوز السبعة عشر بيتا، إلا قصيدة واحدة جاء طولها خمسا وثلاثين بيتا بعنوان (ترنيمة الإباء).

   أجزم أن لا شاعر يقاس إلا وهو ينسج الخيال في شعره، ليضع نفسه في قلب مفهوم الشعر، نسج من الخيال، وضرب من التصوير، فيعاين خطابه الشعري في ديوانه (طواف حر) حلاوةَ المفردة، وسلامة الإيقاع، ويسر التلقي. حتى يصادفنا في قصيدته الموسومة (يشعل ذاكرة النهر)، بخيالٍ وارفٍ، وتصويرٍ خلاق، وعموم ليس له حد، وتعمية بعيدة عن المباشرة، والتصريح، وتأتي الشعرية عبر عدد من المناويل:

  الحوارية بين الشاعر والماء، ثمة دالة في القصيدة عنده، لها حاجة إلى تأويل، وبحث في رمزيتها، إذ تأتي تلك القصيدة على شكل مناجاة مع الماء، من لدنه، ومناغاة، وحوار إذا صح التعبير، فيقدم خطابه مسبوكا بأسلوب النداء، وتكرار ذلك الأسلوب لخمس مرات بحملة (يا أيها النهرُ)، متضمنة هذه الجمل الشعرية الطابع العام نفسه تجاه الوطن، ولكن بمعاني متنوعة، وبمعنى تقريري واضح، يا أيها النهر إني مسني الغرق، يا أيها النهر هذا الجرح والألم، يا أيها النهر قلب نبضه بددُ، يا أيها النهر ماخانوا ولا صبروا، يا أيها النهر يكفي سوف نرتحل[5]. يأتي تكرار هذه الإنجازيات الشعرية في سياق ترسيخ الضياع الذي حل بالفرد العراقي، وببلاده بفعل الدمارات التي حلت به، جراء تراكم الأحداث.

   يفلح الشاعر باستعمال تقنية العدول في الإمساك بالمنحى الجمالي في النص، وقد يدخل استعمال مصطلح العدول في نطاق العمومية، إذ يضم المحاولة التصويرية على أساس التشبيه، والكناية، والاستعارة، والمجاز، وربما يدخل فيه غير ذلك، فيسعى الشاعر في قصيدته إلى بناء الشعرية على مجال الاستعارة في موضوع تقرير مصير العراق، المشار إليه في النص، فأفاد من الاستعارة التصريحية، حينما صرح بالمستعار منه، وهو الزهور، والقصيدة، للمستعار له وهو الإنسان العراقي بعموم أوصافه، بقوله:

هنا بقايا زهور

فات موسمها

وفي حديقة قصْرٍ ربُّه صنم

هنا قصيدة حب

مات شاعرها

ولم يقلها،

ولم يسجد لها القلم[6].

   إذ يشبه حال الأفراد العراقيين كبقايا زهور، لم تخضر، ولم تُزرَع، بسبب إهمال الزُّرَّاع، وكأن الحال بحديقة واليها حجارة لا يقوى على خدمتها. أو يأتي حالهم كحال قصيدة عصماء، كتبها شاعرها، لكنه فارق الحياة، لم يعتل المنصة؛ ليلقيها. فيدخل البيتان في نطاق الاستعارة، المعبرة عن الجدب، والبؤس، الذي يمر بهما العراقيون، من جهات عدة، بعدم توفير معالم الراحة، وسبل السلام، والطمأنينة.

   يسعى الشاعر إلى انتقاء المفردات الدالة؛ ليراهن على استعمال مفاهيم يتشارك بها مع المتلقي، ومن ذلك مفهوم وراثة الألم في بلد مثل العراق، إذ يحضر في تصورات الجميع، شاعرا، وناقدا، ومتلقيا، فينتقي لها نسيجا، ورمزا معبرا، ومتناسقا، على هيئة صيغة (فعيل)، ليترجم ذلك بقصدية أن العراق (وريث) المأساة، فتتحقق الإحالة على المصداق الخارجي في عملية التواصل، بلحاظ المنحى الاجتماعي الذي يعيشه الجميع فيه، بصحبة اختيار الشاعر لهذا المفهوم في ختام القصيدة، ليدلل على أن الذات الشاعرة واحدة من مجموع، قد ورثت السقم، ولا انفكاك عنه:

كنتُ الوريثَ

لحمَّى سُقُم قريتنا

فما برئتُ

ولم يظفر بي الأجل[7].

  يسدل في هذا البيت قرارا، يقول فيه إن الشقاء، وهلاكات السياسة، التي يعانيها العراقيون موروثة، ولا خلاص منها، فيسعى إلى أن يؤسلب الحدث في ذهن المتلقي، على أساس القناعات العاطفية، وتحقيق التواصل بمشترك لم يختلف عليه اثنان.

   لا جمالا شعريا بلا حذف، لأن الحذف واحدة من أهم تقنيات الشعرية، التي تصنع الجمالية فيه، عبر ترك مساحة التلقي، والتأويل، والتحديد للمحذوف إلى القارئ، وهذا ما أسس له إياد في بعض حواره مع النهر، في سياق تنزيه أهل العراق، والتوجع عليهم، والتأفف لهم:

يا أيُّها النهرُ

ماخانوا ولا صبروا

ولا أقاموا

ولم يُبحر بهم قدرُ[8].

  لم يلجأ إلى تقنية التعبير السائدة، بل تجاوزها إلى كسر النمط، وحذف المفعولات، ومتعلقات الفعل، ليضع معيارا آخر من معايير الجمالية في نصه، عبر التعويل على الخيال، المتكون من الحذف والتقدير، بعد نداء النهر، فأهل العراق محور القصيدة كلها، ما خانوا عراقهم، ولا صبروا على ويلاته، ولا أقاموا فيه. أي جعل المفعول به مقدرا، لتعدد التقديرات، مبالغة في العبث الذي تمر به البلاد، ومبالغة في ضياع الناس، ومبالغة في الدمار، والغرق، ويتآزر مع البيت التنسيق الصوتي، والأداء الذي يثير الوجدان، عبر التنغيم المموسق، الذي يبعث الحزن، والأسى، بلحاظ التشكيل النحوي في العطف باستعمال الواو، الذي يحصي صفات أهل العراق، عدم الخيانة له، وعدم الصبر على الأذى، وعدم الإقامة فيه، وعدم الإبحار بهم نحو السعادة، إنه بيت يختصر العراق بأحداثه، وثوراته، وحركاته.

 يفيد الشاعر من إيقونة التنكير في صناعة جماله الشعري، بينما تدور أحداث القصيدة على أوضاع العراق، وتختصر حاضره، وماضيه، إلا أنه يتخذ من الرمزية منوالا للإشارة إليه، فلم يصرح به البتة، بل يشكل التنكير علامة دالة على قضاياه، إذ يقرر عدم هناء الذات الشاعرة، وغيرها:

يا أيها النهرُ

قلب نبضهُ بددُ

فلم ير الصبحَ يوما

ذلك الولدُ

ينامُ شوقا

وعيناهُ على بلدٍ

فيستفيقُ على بلوى

ولا بلدُ[9].

  أثناء محاورته الماء، يتمنى وجود بلاد ناهضة، ولا يتحقق له ذلك، وإنما كثرة الويلات، والبلاءات، فيستعمل أسلوب التنكير بالترميز إلى بلده، فلم يحدده، وإنما تركه مفتوحا فاختار لفظة (بلد)، إيمانا منه أن ما يطلق عليه لفظ البلد يكون متكامل الخدمات، البلدية، والصحية، والتعليمية، والاجتماعية.

   وقد أتبنى في هذا المقال انتماء الحبك المنهجي في القصيدة إلى الشعرية، بناء على مقومين، الأول معنى الحبك المنهجي التنظيم الأدائي لمفاصل القصيدة، من جهة المطلع، والمتن، والختام، ثم معنى الشعرية عند ياكوبسون بأنها تتعامل مع ((مالذي يجعل من رسالة لفظية أثرا فنيا))[10]، فقام اياد الأسدي ببلورة قصيدته على ثلاث مراحل، الأولى التمهيد للموضوع بستة أبيات شعرية، تتضمن تحضير ذهن القارئ، أشار فيها إلى الحيرة، والضياع، وافتقاده السعادة، وشيوع الحَزّن، ونشوب الدمع، وكثرة الأحلام، فيبدأ بهذا البيت:

يا أيها النهر إني مسَّني الغرق

والليل  نكَّلَ بالنُّدمان

مذ وثقوا

ثم يختم المطلع بهذ البيت، الذي يحمل المعاني نفسها:

تفضي إليَّ

دروب البؤس تعرفني

ويستدل عليَّ

التيه والعدمُ[11].

   ثم يباشر الشاعر بسرد معاني النص، عبر عناصر المكان، باستعمال الظرف (هنا): هنا زهور، هنا قصيدة، إشارة إلى دلالة العراق، ثم عنصر الزمان الحاضر، وقت كتابة النص شهر آب من عام 2017مسيحية، مع مقارنة هذا الزمن بالزمن السابق، حينما يقارن بين الحاضر، والماضي، ويجعل الحاضر امتدادا للماضي. مع وجود عنصر الشخصية المتألمة، الذي مر عليها القحط، والظلام، والغربة، وعدم تمتعه ببشارات الخير، ولا اخضرار ولا جمال. حتى يصل إلى الختام بثلاثة أبيات استعارية تحمل المضمون نفسه:

لا ورد في الحقل

لا طيرٌ على شجر

يبدي ظماه وينعى صبره الجمل

تبكي النجوم

فلا ليلٌ يهدهدها

و لا النهار ضحى

ينتابه الخجل

كنت الوريثَ

لحمَّى سقم قريتنا

فما برئت

ولم يظفر بي الأجل[12].

  يبقى الأمر في صياغته النصية، وتحقيق الشعرية مرهونا بالنموذج الذي يحيط بنصوصه، ولاسيما قصيدته (يشعل ذاكرة الماء)، وأقصد بالنموذج مكونات الموقف التي تهيمن على كتابة نصه، فجاء موقفا سياسيا مهزوزا، واجتماعيا مسخوطا عليه، ومنهارا في توجهه الاقتصادي، ولم يتجاوز ذلك البلد الغربة التي تناله، ولم يتجاوز أهله التيه الذي يعانونه، بمعنى يعاني العراق من ويلات، وحروب، ودمارات، وأوجاع، لا منتهى لها، يبلورها الشاعر من ذهنه إلى نص شكوى، وتذمر، وتأمل في النجاة.

  ما انماز به حواره الشعري الرمزية العالية، والخيال الذي ينده فيه معلومات، وثقافة يشترك فيها مع المتلقي، بوصفها معرفة مسبقة، وافتراضا مسبقا بتعبير التداوليين، فلم يلجأ إلى المباشرة في المعاني، بل جعلها مطروحة في رموز، تقترب من ذائقة المتلقي أولا، وتقترب من مفاهيمه أيضا، ليكون النص سياحة مفتوحة، على التأويلات، لا مثقلا بالمعاني المباشرة، ولعل هذا التكوين للقصيدة، بوصفها صندوقا، مداخله اللغة، والثقافة هو الأنجع في المعرفة النقدية، التي تؤسس لها بوصفها معارف، وسياقا، ولغة، وتأويلا، فانمازت قصيدته بأسلوبها المجازي، والخيالي، مما يحرك بوتقة التلقي، ليتقولب في نصه معنى الشعرية الصُوَريَّة التي يريدها القرطاجني.

 

 

[1] ينظر: طواف حر، اياد الاسدي، منشورات اتحاد الادباء، ط1، 2023م. : 98.   يقول: قد مِتَّ من ظمأ وجلُك أنهر                  فلتنتبذ لكَ مصرعا شرقيا.

[2] بنظر: طواف حر: 69،   يقول بصدد الهو: ومن طينة الهور خذ قبلةً        ومن قصب البوح ما سطرا.

[3] ينظر: طواف حر: 88،يقول في الحبيبة: فراتية حوراء من كرم سومر      أعدت لتحتل القلوب مُدامها.

[4] بنظر: طواف حر 6- 61،فيقول:هامسته وشربت لذة صوته                  نشوان حيث دمي يدندن لكنَتَه.

                       ويقول: أبحرت فيه إلى نهاية شهقتي                أيقنت أني  لن أقاوم موجته.

[5] ينظر: طواف حر: 5- 11.

[6] طواف حر: 7.

[7] طواف حر: 11.

[8] طواف حر: 9.

[9] طواف حر: 8.

[10] اللسانيات الشعرية السيميائية، رومان ياكوبسون، ترجمة رعد زامل، ط1، دار شهريار، البصرة- العراق، 2021م: 40.

[11] طواف حر: 6.

[12] طواف حر: 10- 11.

المشـاهدات 331   تاريخ الإضافـة 28/07/2024   رقم المحتوى 50317
أضف تقييـم