الخميس 2024/11/21 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 24.95 مئويـة
بكائية في رثاء المربي الفاضل والأديب المبدع الأستاذ المرحوم (كامل وناس الخزاعي)
بكائية في رثاء المربي الفاضل والأديب المبدع الأستاذ المرحوم (كامل وناس الخزاعي)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

الدكتور مصعب مكي زبيبة

صاحب القلب الأبيض، النابت في هذه الأرض كالجذر، الذي ما باع دنياه بآخرته، أو بدنيا غيره، ما مسّه الأعياء في مشروع نضاله، وما تربص طمعاً؛ لينال مكسباً من هذه الدنيا الفانية، فبقي نظيف اليد والقلب. ملأ أسماع مدينته التي أحبّها وأحبّته، حقلاً ممرعاً بالنضج والكبرياء، وصوتاً وطنياً أصيلاً، لم يتمايل على إيقاع المرابين والمداهنين، وشذاذ الآفاق، بقي له موّاله الأصيل، الذي يأخذ نغمته من شرف الحقول، وأزهار المروج، وتراب الأرض، فكان أحد الترابيين الذين يعتزّون بذرات التراب، وطين الكرامة والإخلاص.

نبل وجهه المعطّر بفضاءات الروح، وتراتيل الصباح، تعرفها مدينته (الديوانية)، وتباشير الفرح والطيبة التي ما بخل بها عن محبّيه وإخوته وجيرانه، يعرفها كلّ أهله وأصحابه من الوطنيين، والمناضلين، والمخلصين، ليبقى مشرق القسمات، رغم تعب الأيّام، وانحناء الهموم، وتجاعيد الانتظار. انغرس في حنجرته حبّ الوطن، وتعرّشت على صدره ابتسامة أطفال مدينته، لم يدب الموت في خلايا جسمه؛ وهو المسكون بتربية الجيل، وتعليم صغار مدينته أبجدية القراءة والكتابة، ليتخرج منهم الطبيب الذي يعالج الفقراء، والضابط الذي يدافع عن وطنه، والمعلم الذي يكمل مسيرته الحافلة بالإنجاز، والفنان الذي يبهر الناس بجمال إبداعه، ظلّ وفيا لمهنته وإنسانيته وطيبته، لم يغيّر ملامح وجهه زمان الجشع، والتكالب، والطمع، هكذا نشأ، وعاش، ومات، نظيف السريرة طيّب المعاشرة، مرح المحيا.

يحدق فينا نحن أبناؤه ومحبّوه يحذرنا من أن تزل قدم بعد ثبوتها، ما زلنا نسمع صوته الدافئ: أحذركم من هذه الدنيا، من يرد أن يسرق فليسرق، ومن أراد أن يعيث فسادا فليفسد، أما نحن معاشر الترابيين تعلمنا من أبينا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) أن لا نخون وطننا، وأن لا نمد يدا لنسرق، وأن لا نرفع عينا ماجنة على أعراض غيرنا، هكذا تربينا تحت منبره التربوي الأصيل، كان مربيا ومعلما ما زالت تسمع وقع أقدامه مدينته؛ مدينة الزهو، والطيبة، والعفوية، الديوانية المحنّاة بالكرامة والشرف.

كان يلوذ في بعض أيام الزمن الردي بالصمت، لا شيء عنده ليدافع عن الترابيين إلا الصمت، فكان صمته يتدفق في أحداقنا عزما وثباتا، لا انعزالا، وخوفا، أو تزحزحا عن الموقف، حاشاك وأنت من علمتنا الحرف، وقبله علمتنا الصلابة في المواقف، وقد تأتي فترات من الاختبارات الصعبة، أما أن تبيع إنسانيتك، وعزتك بشيء من الفناء، أو تبقى كما كان الأولياء منعزلين عن جوقة الخنوع، والطمع والاكتساب.

فهل أقول هنيئا لك النجاح في هذا الاختبار يا معلمي الأصيل، أم أقول لك ثوبك الذي ما لوثته الأطماع الذي سيبقى مرتسما في عيوننا، يعطينا معالم الوطنية الحقيقية، التي لا تفضل المكاسب الخاصة على المنفعة العامة.

ولكننا اليوم تندلع النيران في نفوسنا، ونحن نفارقك، وتغيب عن عيوننا، وأنت الفارس الذي ما كبا جواده، ونحن الذين كنّا نكبر بين يديك فترانا ننمو يوما بعد يوم، ونحن الذين تعوّدت رئتانا أن تتنفس هواءك النقي الذي يتغنى بمستقبل العراق، وتطوّره وتقدّمه، ولكنّك اليوم تغادرنا بكلمات السلام التي حوتك وضمّتك وشربت من معينك النقي الصافي الرقراق، بأسلاف اليقين وقوارير الروح، فخذ من أعمارنا حتى يضاف لك العمر يوما آخر؛ لتربي به الناشئة جيلا فجيلا، وأنت الذي أنفقت السنوات الطوال على هذا الهم، وهذا الجهد، فهل نبخل عليك ببعض الأيام؟

ولكنك لا تموت، وقد زرعت فينا حب الوطن والتفاني، وهؤلاء أبناؤك باسم ومهند ومسار قد حملوا همك فكأنك تولد من جديد، نعم يولد العزم بضلوعهم المشتعلة فصول إرادة، وهم يتخطون المستحيل بكلمات التصالح والشموخ والبناء، فهنيئا لك معلمنا هذا البقاء وهذا الشموخ والنقاء.

المشـاهدات 93   تاريخ الإضافـة 03/11/2024   رقم المحتوى 55333
أضف تقييـم