التّراث الفكريّ في رواية "حيوات سحيقة" للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص :
صباح بشير الجزء الأول تعرض هذه المقالة جزءا من دراسة نشرتها في كتابي "شذرات نقديّة". مقدّمة: تعتبر رواية "حيوات سحيقة" للرّوائيّ يحيى القيسي رحلة استكشافيّة في أعماق الوعي الجمعيّ العربيّ، ففيها يتداخل الواقع بالخيال، والتّاريخ بالحاضر. تسعى الرّواية إلى فكّ شفرة الهويّة العربيّة المعاصرة، من خلال استحضار التّراث، واستخدام رموز الغموض والماورائيات. في هذا التّحليل، أقوم برحلة في أعماق النّصّ لاستكشاف جوانبه المختلفة، من حيث الشّكل والمضمون، والأفكار الّتي يطرحها، وكيفية ارتباطها بالواقع المعاش. بداية: اعتقَد الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأفلاطون قديما، أنّ هنالك نفسا داخل كلّ شخص فينا تبقى حيّة بعد موته لا تموت معه، وأنّ هناك عودة للحياة، وأحياء من الموتى، وأنّ نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة. من قلب هذه الفكرة، نسج الرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيسي عالم روايته "حيوات سحيقة" الصّادرة عن دار خطوط وظلال عام (2021م)، وتمتدّ على (164) صفحة، مستحضرة المكان كإطار أساسيّ لها، لتقدّم للقارئ فكرة متميّزة بغموضها وجاذبيتها. يطرح الكاتب فكرته الّتي تميّزت بغرابتها، محفّزا قارئها على التّغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظّاهريّة للنّص، باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه. ولعلّ كتابة رواية تحمل فكرة ماورائيّة، تحتاج إلى جرأة شديدة، وكفاءة عاليّة، وذلك لإيصالها إلى القارئ وإقناعه بها على النّحو الأفضل. الإهداء: استهلّ الكاتب روايته بإهدائها "إلى فرسان الأنوار العلويّة في رحلتهم الأرضيّة". يتبادر للذهن لأوّل وهلة أنّ هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن.. عند قراءة النّصّ والتّأمّل في معانيه ودلالاته، يستنتج القارئ ما رمى إليه الكاتب، وبالطّبع فإنّ القارئ المتفحّص، يسعى إلى فهم التفّاصيل الدّقيقة والتّداخلات العميقة الّتي تلقي الضّوء على المعاني الخفيّة في النّصّ، يحاول سدّ الفجوات الّتي خلقها الكاتب عمدا، ويتساءل عن دوافع الشّخوص وكيف تتأثّر بسياق الأحداث من حولها، يحاول أيضا فهم الرّموز الموجودة، وكيف تلعب دورا في تعزيز الفهم للرّسالة العامّة للعمل. بشكل عامّ، يقوم القارئ المتفحّص بجهد لاستكشاف عمق هذا النّص وكشف أبعاده، تلك الّتي تُركَت بشكل مقصود؛ لتفعيل ذهن المتلقّي وتحفيز تفكيره وتشويقه. العنوان ودلالاته: بعد البحث عن المعنى اللّغوي لأصل كلمة "حَيَوات" نجد أنّها في صورة جمع تكسير، وجذرها (حيّي) وجذعها (حيوات)، وهي تشير الى الحياة، النّموّ والبقاء، أمّا كلمة "سحيقة" فهي صفة تدلّ على الثّبوت من سحُقَ وسحِقَ. يقول العرب: الأزمنة السّحيقة، أيّ الغابرة، ومكان سحيق أيّ بعيد، وواد سحيق أيّ واد عميق، من هنا فعنوان الرّواية يدلّ على فكرتها غير النمطيّة وعلاقتها بالمكان، الّذي برز كعنصر مهمّ في صياغة هذا العمل، وذلك لارتباطه بالمكوّنات والعناصر البنائيّة للنّص. تركّز الرّواية على عنوانها الّذي يحمل المعاني المتشعّبة، ومع هذا التّشعّب والتّداخل، نجده يرتبط ارتباطا وثيقا بالقلق الماثل في ثقافة الإنسان العربيّ، وتراثه الفكريّ وارتباكه أمام الحداثة. يحمل العنوان أيضا فكرة التّطلّع إلى التّاريخ، ويؤكّد أنّ الهويّة العربيّة هي نتاج لحياة ودورات تاريخيّة محاطة بالكثير من الجدل. يسعى النّص أيضا إلى التّوضيح وإعادة تفسير ذلك السّياق، ضمن إطار عامّ يقوم على الجدل؛ نتيجة لأسر الماضي وتأثيره على الذّات العربيّة، فكرها ومستقبلها. بين التراث والحداثة: يزخر التّاريخ بالعصور الّتي تميّزت بالصّراع بين التّقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم، بين العقيدة والعقلانيّة، وعجلة التّاريخ مستمرّة، وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرّخون والباحثون الماضي؛ كتجارب للشّعوب يجب النّظر إليها والتمّعّن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصة ما قدّمته الأمم من نشاطات عبر الزّمن في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة. تسعى العديد من هذه الدّراسات إلى اكتشاف السّبب الجذريّ للرّكود المعاصر من خلال الاستقصاءات التّاريخيّة، بينما تسعى دراسات أخرى للكشف عن ديناميكيّة التّراث الفكريّ وقدرته على التّكيّف مع مختلف الأنظمة الاجتماعيّة والأيديولوجيّة. من بين أهمّ مؤسّسي النّهج النّقديّ المفكّر محمد أركون، الّذي رفض الفصل بين الحضارات، وتساءل عن تاريخ المفاهيم المركزيّة، كالدّين والمجتمع، الحلال والحرام، العقل والضّمير، المعرفة التّاريخيّة والعلميّة والفلسفيّة إلخ. وعن مؤرّخي الفكر والأدب فقد تطرّقوا إلى هذه المفاهيم، لكن.. ما زالت الحواجز قائمة في طريق المعرفة، بالإضافة إلى إشكاليّات التّطبيق بين الأديان والتّاريخ والفلسفة، والعلوم المعرفيّة والسياسيّة والأدب، خصوصا ما يتعلّق بالأنثروبولوجيا الّتي لم تزل غائبة عن الأذهان بفروعها، والّتي تدرّس التّصرفات الإنسانيّة وبناء الثّقافات البشريّة، بأدائها ووظائفها في كلّ زمان ومكان، كذلك وتأثير اللّغة على الحياة الاجتماعيّة وتطوّر الإنسان بيولوجيّا، وثقافات البشر القديمة. نستنتج ممّا سبق، أنّ القيسي دخل في روايته إلى موضوع شائك، تتشابك فيه الثقّافة بالتّراث والميثولوجيا والفكر في شبكة معقّدة من التّفاصيل والتّداخلات، ممّا يضفي على الرّواية طابعا خاصّا وعمقا تأمّليّا لصورة معقّدة، تعكس أسلوب التّفكير والثّقافة الشّعبيّة والفكريّة العربيّة، وتستكشف التّأثيرات المتبادلة بين التّراث والفكر والتّغيرات المجتمعيّة. حبكة الرّواية: "صالح" بطل الرّواية الّذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التّدريس ثمّ دليلا سياحيّا، بعد ذلك باحثا في مركز للدّراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيونيّ لتصوير فيلم وثائقيّ عن الرّحالة والمؤرّخ السّويسري "يوهان لودفيك بركهارت"، الّذي وصل إلى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م). يتتبّع صالح مع الفريق الأماكن الأثريّة في الأردن، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلّت قدمه؛ فسقط في حفرة قضى فيها ليلة قاسيّة صعبة، بعد أن سَدّ التّراب ثغرة الحفرة، فشعر بالإحباط واليأس، وأن لا أمل له بالنّجاة. نظر حوله فاكتشف أنّ الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدّي إلى كهف يقود إلى مكان ما، بعد ذلك وجد إناء من الفخّار يشبه الجرّة؛ فقام بكسره، وجد فيه سائل كثيف، تذوّقه واستشعر حلاوته؛ فانتابته حالة غريبة! وكأنّ شيئا ما قد تغيّر به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى عاشتها النّفوس الأثيريّة وانتهت إلى جسده! غاب صالح عن الوعي، وأضحى بحالة هلوسة شديدة، راح يرى أشياء غريبة، ويتخيّل حياة مختلفة بوقائعها، وكأنّ أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة! في اليوم التّالي تمّ إنقاذه وإسعافه من الكسور الرّضوض والكدمات، وعاد إلى مدينة الزّرقاء حيث عائلته الّتي اعتنت به. انقلبت حياته رأسا على عقب جرّاء ذلك الحادث الغريب، فقد عصفت الأحداث الغامضة به وبأيّامه، انهالت عليه المشاكل وتتالت عليه الأفكار السّلبيّة، بدأ يشعر بالخوف والقلق وفقد الثّقة في نفسه وفي الآخرين، بدأ يشكّ في كلّ شيء حوله، وأصبح ينظر إلى العالم نظرة تشاؤميّة، وجد نفسه في صراع دائم مع نفسه، وأخذ يفقد الأمل في الحياة. اجتهد في البحث عن تفاسير منطقيّة لما يحدث معه، وعن إجابات للأسئلة الّتي كانت تدور في ذهنه، ثمّ لجأ إلى التّفسير الدّينيّ، وانغمس في دوّامة التّطرّف الدّينيّ، ومن خلال بعض الأقرباء وقع فريسة للتطرّف، بحث عن الخلاص، فبدأ يقرأ ويبحث في الكتب والمراجع، علّه يجد فيها بلسما شافيا لما هو فيه، فلم يساعده ذلك، لكنّ عمله مع فريق التّصوير البريطانيّ، وعلاقته مع "أليس" دفعته للتمعّن في الواقع والعودة إلى المنطق والتّفكير بعقلانيّة، والعثور على ضوء في نهاية النّفق. أخيرا.. وبعد المعاناة، بدأ يتعلّم كيفيّة التّعامل مع هذه الأزمة، وراح يستشعر الأمل مرّة أخرى وينظر إلى الحياة بمنظور جديد، أصبح يؤمن أنّ كلّ شيء يحدث لسبب، وأنّ كلّ تجربة، حتّى لو كانت صعبة، يمكن أن تكون فرصة للتعلّم والنّمو، مدركا أنّ الحياة مليئة بالتحدّيات، ولكن.. يمكننا التّغلّب عليها إذا كان لدينا الإيمان والعزيمة. ألهمته "أليس" بالنّظر إلى الأمور بعقلانيّة، فبدأ باستعادة توازنه العقليّ، فوجد النّور وحقّق التّحوّل الإيجابيّ؛ لينجو بنفسه من تلك الأفكار السّامة، وذلك بمساعدة العنصر الأنثوي الفعّال في الرّواية، فعلاقة صالح بأليس لم تكن مجرّد خيوط عاطفيّة زيّنت السّرد، بل كانت المحرّك الأساسيّ في تطوّر شخصيّته، وخروجه من المأزق الّذي كاد أن يؤثّر على صحته العقليّة والنّفسيّة، بدأ تأثير الحبّ الإيجابيّ يظهر عليه بشكل واضح؛ كمحفّز لتغيير نظرته إلى الحياة والمستقبل، وبفضل الدّعم العاطفيّ والتّفهّم والاحتواء الّذي قدّمته أليس، استعاد صالح توازنه العقليّ وشعر بالإلهام لتحسين وضعه النّفسيّ والمعنويّ. أظهرت الرّواية من خلال تلك العلاقة، كيف أنّ الحبّ والاهتمام يمكّنان الإنسان من التّغلّب على التحدّيات والخروج من المواقف الصّعبة، وأنّ تأثير الحبّ على الإنسان ليس محصورا في العلاقات الرومانسيّة فقط، بل يمتدّ إلى تأثيره الإيجابيّ على النّفس والتّفاؤل والنّظرة إلى الحياة. هلوسة أم اضطراب نفسيّ: الهلوسة هي تجارب حسيّة لا أساس لها في الواقع، قد تكون بصريّة أو سمعيّة، وغالبا ما توصف بأنّها "رؤيّة أشياء غير موجودة" أو "سماع أصوات غير حقيقيّة". هناك العديد من الأسباب المحتملة للهلوسة، بما فيها الاضطرابات العقليّة مثل الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب والاكتئاب، وبعض الأدويّة والأمراض الجسديّة مثل الصّرع والأمراض الدّماغيّة والإرهاق الشّديد، أو الحرمان من النّوم، أو التّعرّض لصدمة نفسيّة أو عصبيّة كما حصل مع بطل الرّواية. في بعض الحالات، قد تكون الهلوسة علامة دالّة على حالة طبيّة خطيرة، لذلك، من المهمّ استشارة الطّبيب المتخصّص، وبالطّبع يعتمد علاج الهلوسة على السّبب الكامن وراءها. أدخل الكاتب موضوع الهلوسة إلى روايته بأن جعل أحد الشّخوص الرئيسيّة "صالح" يعاني من الهلوسة، فكشف بذلك عن نفسيّته وصراعه الدّاخليّ، الّذي تعمّق بسبب صدمة نفسيّة وعصبيّة، فجاءت الهلوسة كجزء من عالمه الخياليّ؛ مما خلق بعض الغموض. كما استخدم القيسي الهلوسة؛ كرمز واستعارة لتمثيل شيء آخر كالحلم والخيال أو الجنون، فقد رأى البطل أشياء غير موجودة في الواقع، هذه الأشياء رمزت إلى مخاوفه أو رغباته أو أحلامه كإنسان عربيّ قلق، لديه الكثير من المخاوف، يحاول فهم معنى الحياة والموت، ويعيش واقعه المضطرب في مجتمع وثقافة متناقضة، متحضّرة في خارجها ومنغلقة على ذاتها من الدّاخل، تقليديّة تقاوم التّغيير، وتؤمن بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم والماورائيات، والكثير من الخرافات. وهنا يحضرني ما قاله الشّاعر نزار قبّانى: "لبسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة"! هذه الهلوسة عكست الصّدمة الّتي تعرّض لها صالح، وأضافت الكثير من الغموض والتّشويق، وفي النّهاية فإنّ الطريقة الّتي ربط بها الرّوائي موضوع الهلوسة في روايته، اعتمدت على أهدافه الفنّيّة والموضوعيّة الّتي سعى إليها؛ لتجسيد أفكاره ومشاعره، وأسلوبه ورؤيته ورسالته التّنويريّة. المكان والزّمان: تعامل القيسي مع المكان بشكل جيّد حين اتّخذ منه إطارا مادّيّا للأحداث المتخيّلة؛ فحقّق امتزاجا مكانيّا عجائبيّا بالحدث، الّذي حملت أحداثه حيّزا من السّكون إلى عالم الدّهشة السّرياليّة، فتجلّى المكان كأرض خصبة، امتزجت فيها الطّبيعة الثّقافيّة والتّاريخيّة بتفاصيلها المتشابكة الّتي عكست مركزيّة مكانيّة، ذات عمق تاريخيّ، فمنطقة البتراء النّبطيّة هي جزء من السّاحة التّاريخيّة والتّراثيّة الأردنيّة. أمّا الزّمن فتداخل بالعديد من الأحداث؛ ليرسل القارئ إلى فترات عديدة، بدءا من زمن الرّاوي أو السّارد "صالح" المرتبط بالحاضر، ثمّ زمن رحلة "بيركهارت" وتقنيّة الاسترجاع، ثمّ أزمنة أخرى تُستعاد داخل وعي "صالح"، وتتّصل بالتّاريخ والتّراث العربيّ. |
المشـاهدات 51 تاريخ الإضافـة 24/11/2024 رقم المحتوى 56188 |