الأحد 2024/12/22 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 9.95 مئويـة
طالب عبد العزيز حديقة رموز
طالب عبد العزيز حديقة رموز
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب ناصر أبوعون
النـص :

 

 

أنا لستُ بناقدٍ؛ أنا فقط مجرد قاريء قَلِقٌ يتجول في غابات النصوص، يبحث عن شجرة تهزّ أغصانه فيسّاقط نبيذه، لينتشي النرجس، وتقع الأفكار على ظهرها ضحكًا، وترفع رأسها للسماء لتحاور نجومًا ملّت من الدوران في أفلاكها، بعد أن سقطت في فتنة التمرّد على المشهدي واليومي والمُعتاد الذي يجترّ اللغة ويَتَبَعَّرُها من المحيط إلى الخليج في بلاد نامت نواطيرها، وزرعت حقول حنطتها نفطا، وخلعت جلد عِفتها، وسترت عورتها بقبّعة راعٍ للبقر يمسك لجامها؛ وهو ينفث دخان سيكارته في وجوه العرب الحُمْر بعد أنّ شربوا خمر سذاجتهم، وصدّقوا أن الدم ينتصر على السيف.

وربّما يبدو هذا المدخل تمهيدا لدخول حدائق الشاعر العراقيّ طالب عبد العزيز الذي برع في هندسة البياض، ورسم بالكلمات عمائر شعرية، بحوائط لغوية ليست سابقة التجهيز؛ والذي لا ينسى مع كل نصٍّ جديد له أن يضع علامات من بِنَىً لُغوية على الطرقات المؤدية للقصيدة، كي لايضل في رحلة عودته من استبطان ذاته الشعرية، بل نراه في كل قصيدة/نص/سردية يركل الألفاظ المُعتادة والمعاني المُستعادة، ويُعيد بناء الجمل الشعرية، ويربط بين الكلمات بحالة شعورية تتشظّى أشعتها في سماء النص؛ فيضيء غوامضه، ويستنطق كناياته، ويعجن الاستعارات صورا بهيّة، ويستقطب المتنافر إلى ساحة النصّ ويَكبسه في قوالب مُتجانسة، ويُخلِّقُ لغته الخاصة عبر توظيف (تقنية الغموض) المحمول على طاقة رمزية مدهشة مضفورة في نسيجه اللفظي الجديد فيتحول الشعر معها  إلى فسيفساء ولوحة جمالية المعنى زُخرفية الشكل؛ وإن كانت تسيل منها دموع القصيدة، تستحيل قاربا يبحر بالقاريء في عوالم تخييلية ساحرة.

وحسنًا فعل طالب عبد العزيز حين وضع تعريفًا للشعر، وساقه كجملة اعتراضية أو شجرة عتيقة تعترض القاريء في طريقه لاكتشاف النص، بل (شفيرة مُرمّزة) فإمّا أن يتخطّاها القاريء دون أن يلتفت لما تتضمنه من رؤى، وإمّا أن يقف عندها ليفك رموزها. يقول في ديوانه (في مديح علبة الألوان):[ليس الشعرُ غرغرةً بالكلمات، هو حضورٌ كاذبٌ، إنْ لم يُقرنْ بغيابٍ على كراهة، وقول فاجعٌ في مجلسٍ للحقِّ،غادرَه غيرُالقادرينَ عليه. قطرةُ الحبر التي تلوّثُ ورقةً الرّياء، القدمُ الراسخة ُفي طينِ الصفحِ والمُواساة، وهو الأبديَة، تمدُّ يدَها لمن لم يبتدئ بعد، مصحفٌ مقدسٌ، وإنهُجرَ، ولم تمسَّسهُ يدُآثمة].

في نصوص طالب عبد العزيز يبرز الرمز متجذرًا في المتون، وثماره بازغة يانعة في العناوين، والشاعر يتغيّا من وراء تضمين هذه الرموز تحقيق ست وظائف سيميائية؛ يتقدمها أنّ (الرمز يستدعي رموزاً من نمطه), وتستهدف هذه العملية الشاقة بناء صورة شعرية فانتازوية ساحرة, محتواها متين, وفاعليتها ديناميكية، تخاصم الثبات، وتنحت مجراها الخاص داخل نهر النثرية العراقية الحداثوية بعيدا عن التقليد والاجترار. على نموذج قصيدته (خمسُ محاولاتٍ لكتابة قصيدة) الذي يخاطب فيه القاريء من خلال مخاطبة ذاته: [اِكتشف الحديقةَ، اِذهبْ لآخرِ أنفاسِ الورد فيها، وخذ الساقيةَ الصغيرةَ الى حيث تقفُ، في الزاويةِ الظليلةِ تلكَ، هناك ترابٌ لم تطأْهُ قدمُ أحدٍ من قبل، وفي المهملِ من الضوءِ تستريحُ مَنْ ماتزالُ على عُريها، خذْ مُلاءةَ الخوفِ عنها، وتقدَّمْ منها بمُلاءةِ السلام].

أما الوظيفة الثانية للرمز التي يبرع طالب عبد العزيز في تفعيلها داخل نصوصه والتي تتمظهر من إيمانه بالدور الفاعل للرمز في تعميق الوعي ضمن الصورة؛ فضلا عن منحها البعد الدلاليّ على نحو ما نقرأه في قصيدة (الروح غريبة والسماء زرقاء ما تزال) والتي تتداعى فيها الأسئلة عبر عملية استبطان الذات المكلومة:[ما الذي سأفعله بالوقت إذا أخذ أحدُهم الانتظار؟ ما الذي سأفعله بالمطر إذا عبث خنزيرٌ وحشيٌّ برائحة الأرض؟ وما انتفاعي بالجنون إنْ أوثقتَ يديَّ الى السرير، وأخفيتَ عنّي كلَّ أنثى، أَتُسَمّي أصيصَ النرجس قربَ النافذة انتظاراً؟ أوَ تراني سعيداً إذا ما هزمتُ الريحَ بإغلاق النافذة؟].

إذن لم يغفل طالب عبد العزيز عن توظيف الرمز في (توسيع مساحة الزمان والمكان) داخل إطار صُوره الشعرية، والتي قد تبدو للعين الخاطفة والقراءة العابرة ثابتة داخل جغرافية القصيدة ومؤطرة بحدود جامدة؛ ولكن مع تعميق القراءة والبحث في تحت الطبقات الرسوبية للغة النص سنلاحظ أنّ الصورة تتمدد، ويتسع أديمها، ويتدفق نهرها في أرض الشعر التي جفت بعد أن طغى حضور الميديا وتقلصت مساحة الوعي بالشعر عشية المشهد الثقافي العربي جزرا منعزلة تنكمش حدودها وتتآكل هويتها. يتبدّى هذا جليا في قصيدته:(أحتفلُ بالشتاء.. أجرجرُ عربةَ الضوء)[كانَ الهواءُ ينتظرُ تحت كتيبة الباب رطْباً. وأنت تحررُ الفانوسَ من قبضة الظلام خذْ قميصها الى مشجب الوقت، سريركَ مغطىً برائحة زيت الخِروع، ومن ظهرك ينسلُّ غلامٌ لا يُشبهك في الطمأنينة والخوف].

 

وفي الأخير يمكننا القول: إن الشاعر طالب عبد العزيز يوظّف الرموز داخل قصائده لتحقيق ثلاث غايات رئيسة، هي: توحيد أبعاد الصورة الشعرية وضبط استطالتها بعد تكثيفها)، واستخدام الرمز كتعويذة لاستحضار مفردات خاصة وتخصيب الصورة وإغناء مناخاتها ودلالتها واستيقاد الإيحاء في ألفاظها. وهذا ما نقرأه في نصّ له بعنوان: (ما يتهدّجُ في المغيب):[لا يكفي أنْ تستيقظ باكراً ليقال بأنَّكَ ذاهبٌ، لا اللثمُ ولا القبلُ ما يجعلُ الليلَ قصيراً. من الحكمة أنْ تجعلَ سريرَها أبيضَ، ومنها أيضاً أنْ يكون قميصُكَ لزجاً بذكرها. ليست يدُك التي تُفزعك وأنت تومئ. أيها الآيبُ دائماً، لن تبلغَ محطتك الأخيرةَ، وإن جئت بعربةٍ من الابنوس، وحيث لا يتحققُ الشوقُ بموعدٍ عند شجرةٍ بعينِها سأنتظرُك].

المشـاهدات 58   تاريخ الإضافـة 22/12/2024   رقم المحتوى 57262
أضف تقييـم