الإثنين 2024/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 5.95 مئويـة
في ظل بيروت.. جمال من قلب بؤس صبرا وشاتيلا!
في ظل بيروت.. جمال من قلب بؤس صبرا وشاتيلا!
فن
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب يوسف الشايب
النـص :

يسلّط فيلم "في ظل بيروت" In The Shadow of Beirut للمخرجين الأيرلنديين ستيفن جيرارد كيلي وغاري كين الضوء على جانب لبنان المعاصر، عبر عيون أربع عائلات تعيش في منطقة مخيّمي صبرا وشاتيلا للّاجئين الفلسطينيين، حيث المجزرة البشعة التي يوثّق عدد من المؤرخين والباحثين وشهود العيان أن قوات "الكتائب" اللبنانية ارتكبتها في عام 1982 بمساعدة من جيش الاحتلال الإسرائيلي. هي التي باتت اليوم جغرافيا فقيرة مكتظة، تعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة، ويقطنها بالأساس أبناء وأحفاد الناجين من المجزرة، من الفلسطينيين الذين نجا من سبقهم من مجازر العصابات الصهيونية في عام 1948، وهُجرّوا قسرًا من ديارهم في ذلك العام، علاوة على لاجئين سوريين، بعضهم فرّ من بطش النظام السوري، وبعض من ظهروا في الفيلم كانوا قد فرّوا من بطش "داعش"، علاوة على قلة من اللبنانيين الذين هُجّروا من قرى الجنوب اللبناني إبان الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني والاعتداءات الإسرائيلية المتتالية.وهذا الفيلم ليس فقط الفيلم الأيرلندي المرشح رسميًا لأفضل فيلم دولي لجوائز الأوسكار، بل رشّح للتنافس أيضًا على القائمة القصيرة لأفضل فيلم وثائقي في أرفع جائزة سينمائية على مستوى العالم، وجرى إنتاجه على مدار خمس سنوات من متابعة حيوات العائلات الأربع.وكشف موقع "فاراييتي" المتخصص أن المخرج ستيفن جيرارد كيلي عمل في إطار تخصّصه بالعاصمة اللبنانية بيروت عام 2015، فتعلّم اللغة العربية وبات قريبًا من بعض شخصيات الفيلم، الذين طلبوا منه توثيق حياتهم، ووجدها فكرة مهمة تقاطعت مع رغبات مضمرة لديه، وقام بالمهمة منذ عام 2018 إلى عام 2023، لكنه، وكما لاحظنا، يبقى خارج شاشة "في ظل بيروت"، ويترك أصحاب الحكايات يتحدّثون عن أنفسهم، وإن ظهرت له بصمات في التعليق الصوتي المرافق لتصوير تلك اللمحات الحيّة من حيوات سكان صبرا وشاتيلا، سواء في المنزل أو في الأماكن المزدحمة، حيث يتجمّع ما يقدر بنحو 30 ألف شخص في كيلومتر مربع واحد.بعد تحرير ساعات من التصوير إلى 92 دقيقة مؤثرة وواقعية، تتنقل الكاميرا ما بين "أيمن"، وهو أب لخمسة أطفال، يحظى بشيء من التشجيع لإتمام خطوبة طفلته لرجل كبير السن، و"عبودي"، المحتال السابق ذي الشخصية المغناطيسية، والذي لا يمكنه العثور على عمل إلا في صالون للوشم، بينما يسعى جاهدًا للتواصل مع ابنه الصغير، و"أبو أحمد"، لقب الطفل السوري، الذي فرّت عائلته من داعش بعد اغتيال والده، وفقدان أربعة من أشقائه خلال رحلة الفرار الانتحارية، وهو شخصية آسرة لكل من يقابله، ولنا كمشاهدين، وهو يشقّ طريقه نحو أكشاك العصائر ومحال البيع العشوائية، والرضيعة سارية ضاهر التي تعاني من مرض جلدي صعب، ولا يمكن لوالديها توفير الرعاية الصحية المناسبة لها.لذا فإننا نلتقي، كما المخرجان، بصبي يعمل بكل الوسائل الممكنة على جلب المال لعائلته، ومراهقة تفتقر إلى أي فرصة لتحقيق أحلامها فيتم تزويجها إلى عامل بناء لبناني يكبرها بكثير. كما يحضر زوجان يكافحان من أجل تمويل العلاج الأساسي للحالة الجلدية المؤلمة التي تعاني منها ابنتهما الصغيرة، فالنكبة المستمرة جعلتهم في مهب الريح، وكأن حالة النهش التي يعاني منها اللاجئ عامة، واللاجئ الفلسطيني على وجه الخصوص، تزداد شراسة كلما ارتفعت وتيرة الحروب وتداعياتها وانهارت معها القيم الأخلاقية وحالة التعاضد المجتمعي، علاوة على الانهيار الاقتصادي.ورغم ذلك، يُظهر الفيلم شخصيات العائلات الأربع مصممة على المثابرة من أجل حياة كريمة، فهذه الأرواح المُقاتلة تبذل قصارى جهدها لضمان مستقبل لأطفالها أفضل من واقعها، حيث العيش بين الفئران، وغابات من أسلاك الكهرباء، بعضها تغمره المياه، خاصة في الشتاء، فتغدو قنابل موقوتة على وشك الانفجار في أي وقت، إضافة إلى القمامة المتكدّسة كتلال.وعلى الرغم من أن الحكايات المروية في الفيلم يمكن أن نجد لها مثيلًا في عدد من جغرافيات الكون، إلا أن "في ظل بيروت" شكّل تكوينًا بصريًا فسيفسائيًا علاوة على كونه سردية روائية سينمائية أيضًا، لم يفقد مغناطيسيّته رغم تصويره قبل سنوات عدة، وهو ما أهّله للمنافسة على أوسكار أفضل فيلم وثائقي لعام 2025. فمخرجا الفيلم، وبينهما غاري كين، صانع الفيلم الوثائقي الشهير "غزة" عام 2019، صنعا فيلمًا قويًّا حقّق معادلة صعبة في انتزاع إعجاب جمهور المهرجانات التي استضافته، كما إعجاب النقاد والمختصّين حول العالم، ربما باعتباره يشكّل إيماءة إلى العالم الثريّ الواقع على بعد آلاف الكيلومترات من المخيّمَين التوأمين الغارقين بالمآسي منذ عقود، صبرا وشاتيلا، بأن ثمة هناك من يعيش في هامش الهامش. لا يعانون فقط من احتمالات فقدان أملهم بالعودة إلى ديارهم التي هجرت العصابات الصهيونية أجدادهم منها في فلسطين، والتي باتت بعد عام 1948 "إسرائيل"، باعتراف العالم، بل يعانون من العيش في الحدّ الأدنى للكرامة الإنسانية.وفي الفيلم حضورٌ قوي للمكان، فالمخيّمان التوأمان صبرا وشاتيلا، يشكّلان عنوانًا للتهميش المجتمعي منذ عقود، وليس فقط للّاجئين الفلسطينيين ولكن لمجموعات الأقليات الأخرى التي شاركتهم الحيّز الضيق للغاية، فهناك ثمة ما هو مشترك بين الجميع تقريبًا، كالحرمان من خدمات الحكومة. فالمواطنون غير اللبنانيين، وحتى أولئك الذين ولدوا بدون أب لبناني، لا يمكنهم التقدّم بطلب للحصول على الجنسية، ناهيك عن أي خدمات مقدّمة من الدولة اللبنانية، كما أن الرعاية الصحية والتعليم بعيدان عن متناول معظم الناس، بمن في ذلك الأطفال، كما لا جمع للقمامة، ما يؤدي إلى المشاكل المعتادة المتعلقة بالصرف الصحي والحشرات والأمراض، والتي تتفاقم بسبب الفيضانات كلما هطلت أمطار غزيرة.وعلى الرغم من أننا نقضي جلّ الساعة ونصف الساعة، أو يزيد قليلًا، في ذلك الحيّز الضيق في المخيّمين التوأمين، إلا أن المغامرات العرضية خارجهما، تجعلنا نرى أن بيروت التي تئنّ بكليّتها، لا تخلو من جماليّات كبيرة، على مقدار حب الحياة في قلوب أهلها وساكنيها، ولعل ذلك يتجسّد بوضوح، حين يأخذ عبودي ابنه إلى البحر، مُتحرّرًا، ولو بعض الوقت من الفوضى المركّزة، فتتسلّل شذرات من الأمل عبر الشاشة، خاصة حين يأخذنا إلى فلسفته العميقة على بساطتها، بالقول: "عندما أكون مع ابني أرى كم هي جميلة الحياة".وإن كان فيلم "في ظل بيروت"، والذي نافس، مؤخرًا، على جائزة "ريشة" أفضل فيلم وثائقي طويل في "مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان" في الأردن، يُظهر لمن لا يعرف واقع شخوصه، أنهم ينهشون لحم بعضهم البعض، عند تزويج فتاة في سن الثالثة عشرة، أو تشغيل طفل في سن العاشرة لأربع عشرة ساعة يوميًا مقابل قرابة دولارات أميركية ثلاثة، أو غير ذلك، إلا أنه يظهر أيضًا رجالًا ونساءً لا يزالون على قيد الحياة رغم ظروفهم المأساوية كحال الكثير من فقراء العالم، وكأن المخرجين الأيرلنديين يؤكدان على كون الحب يدعم إنسانية المهمّشين، في ظل عدم التفات صنّاع القرار في البلاد إليهم، بل يزيدون طينهم بلّة بجملة من القوانين تجعل من حيواتهم تلامس الاستحالة التي يقاومونها بصمود أسطوري جوّاني، كما يقاومون تلك الحلقة المفزعة من الألم، والمعاناة، والجريمة، كما اليأس... لذا فإن الفيلم يولّد تعاطفًا شعوريًّا قويًّا مع الشخوص من دون ادّعاء، فكان كمن عثر على جمالٍ ما من قلب البؤس. 

المشـاهدات 18   تاريخ الإضافـة 22/12/2024   رقم المحتوى 57331
أضف تقييـم