الإثنين 2024/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 5.95 مئويـة
الأسى والزوال وإدانة الخراب قراءة في مجموعة (عزلة المبني للمجهول)
الأسى والزوال وإدانة الخراب قراءة في مجموعة (عزلة المبني للمجهول)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. سمير الخليل
النـص :

 

 

يتمركز الخطاب الشعري في مجموعة (عزلة المبني للمجهول) للشاعر (حسن عبد راضي) (الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد 2024) حول ثيمات ومضامين إنسانية وهموم تقترن بمأزومية الواقع، وسؤال الوجود على وفق تأمّلات واستبصارات يستشرف بها الأسى والزوال والقبح والحروب والرحيل والنضوب، وغياب التوق والجمال، ويمزج الشاعر في هذا الخوض العميق بين اليومي والمهمل ومظاهر التأزم وبين الأسى ومعنى الخراب والفقد في تناصّات ذكيّة مع المحمول (الميثولوجي) والوجودي.

ويصبح الجمال والحب والتوق قيماً محاصرة بالخراب الذي يحكمه زوال مهيمن، لكنّ الشاعر (حسن عبد راضي) على الرغم من تقديمه لبانورامية الرثاء الشفيف يبقى يغنّي أساه على وفق تحليق عذب يسخّر له الصور الدالّة وجمال المفردات، والمشهدية التي رغم انطفائها فإنّها تشعل السؤال وتنهض بالتأمّل، وتعيد صياغة الأسئلة على شكل احتجاج وتحريض فهذا المحمول التراجيدي للتعبير يثير كوامن التلّقي ويحرّض على إعادة النظر إلى بؤر ومساحات الفقد، ومن المعذّر أن يمزج شاعر بين متّجهين متضادّين ومتنافرين، لذا فإنّه يضع لنفسه منظوراً غرائبياً تترشح عنه ما يمكن أن نسّميه بالمفارقة السوداء، والنظر إلى العالم من زاوية الزوال والتوّحش والعتمة، وخشية اغتيال الجمال والتوق ووحشية الفراق، وهيمنة الشحوب والرحيل، فما الذي يفعله الشاعر إزاء الخراب الذي يزحف على العالم مثل لعنة خفية؟ أو مثل قدر إغريقي؟ إنه زمن الأبطال التراجيديين الذين تسحقهم سرفات الحروب والفقد والغربة والعزلة والموت البطيء، ويمكن القول إنَّ نصوص المجموعة قد تشكّلت وصيغت بالتماهي والتنافذ مع الثنائيات المتضادة مثل (الحياة والموت) و(الوجود والعدم) و(الجمال والقبح) و(الحاضر والماضي) و(التوهج والزوال) و(الشك واليقين) و(السؤال والجواب) و(الحلم والكابوس) و(الارتكاس والأمل)، ولكنّ مأثرة الرؤية الشعرية عند (حسن عبد راضي) أنّه يراهن على الجمال الذي استحال إلى الحيازة على عذوبة كامنة في أعماق وتضاعيف النصوص التي لامست برقّة أوجاع الواقع بكل محمولاته التراجيديّة، والعتمة التي تحيط بكلّ شيء ولذا فإنه انقذ خطابه الشعري من الإنزلاق في السوداوية والتشاؤم وعتمة المشهد، فضلاً عن إيقاع متلاحم يصل حدّ القصيدة المدوّرة، وهذا التضاد بين اتّجاه الشكل وعمق المضمون هو الذي منح النصوص طاقة من الإيحاء والتأويل، وجدل انتج معاني جديدة ومبتكرة من خلال خلق منظومة جمالية ارتكزت على استراتيجيات الخلق المرتبط بآلية الإنزياحات الدلالية على مستوى اللغة والصورة، واقتناص المعنى المضمر، وتفعيل طاقة لغة الإشارة والإحالة والتجسيد.

استطاع الشاعر أن يمزج بين فكرة الزوال وتمثلاّتها المجدبة وبين جمالية التصوير، وقد يذكّرنا هذا التوّجه بما يعرف باستاتيكا القبح أي جمالية تجسيد الخراب الذي اشتغل عليه (بيكاسو) في لوحة (جورنيكا) التي صوّرت الأشلاء والخراب في قرية مسالمة هي (جورنيكا) إزاء قصف (فرانكو) والنازيين، وظهرت اللّوحة على الرغم من القبح المضموني قطعة من الجمال الفني وامتلكت شحنة التحريض والإحتجاج لصدقها، ولأنها أطلقت السؤال الإحتجاجي الغاضب فتصوير الخراب بكلٍّ تأكيد يدعو إلى إعمال الفكر به وبتجلّياته المعتمة.

لعلّ التحليل السيميائي للعنوان وأبعاده الدلالية تكشف عن مدلولات العزلة والمجهول وما تشكّله هذه الثنائية من إحالة إلى معنى الخراب والزوال والأسى الذي يسوّر كلّ التأمّلات ويهيمن على الواقع، وتكون العزلة والمجهول معادلاً رمزياً وصوريّاً للموت والخفوت والتلاشي الذي يسعى الشاعر فيه إلى تجسيد أبعاده وادانته ونفيه توقاً لتحقيق التناغم، وعذوبة اللّحظة المفقودة، ونلحظ هذا التجسيد التراجيدي في نص عميق وانزياحي موسوم بـ(سفر العروج) إذ يغلفه الشاعر برؤية فلسفية بقوله:

يغلب الشّك على اليقين/ فيحتاج هشيم الروح كالبرق

ويستولد نارا / وأرى الحكمة عسراء

فأمضي تاركا زيف النياشين / وأضواء الميادين

وأوهام الحيارى / أحمل المصباح

كي أبحث عن ظلّي نهارا / أأنا الرائي ديوجين

أم الحلاّج إذ شرَّده الوجد / وآوته الطواسين

أم الخالد زارا؟ / يقظتي غيمة أسلاك

وحقل يانع من أسئلة / ومنامي سَفَرٌ / بين ينابيعي وبين المقصلة

ولكم متُّ وعُلِّقتُ مرارا... (المجموعة: 5- 6).

فالنص مكتظ بالأسئلة ورثاء المشهد، وبالموت والفقد يؤطّره بحث وسؤال عن المفقود من الجمال الذي أكله الشك، وغاب اليقين، كما استهلّ النص، ويصبح النص بأسره عروجا باتّجاه هذه الرحلة السيزيفية للبحث عن المعنى في عالم قلق ومضطرب، تسوده (الحكمة العسراء)، فتفرز ذات الشاعر الترك والإستغناء عن زيف النيّاشين التي ترمز إلى المجد العابر والمزيّف والزائل، وتذكّرنا بعبث الحروب وانتصارات الوهم، ولا قيمة لأضواء الميادين، وأوهام الحيارى، ويتناص الشاعر بهذه الرؤية مع رمزيّة (ديوجين) الباحث عن الحقيقة في وضح النهار، وفي العتمة، والحلاج الذي دفع ثمن السؤال والبحث عن الحق أيضاً، فالكبت والقمع هو صورة أخرى للموت بكلّ معانيه الموت البيولوجي، والرمزي والصوفي، وبذا يعمّق الشاعر من فكرة الزوال والأسى والقبح المستشري، وينطوي النص على النزعة الإسقاطية والإنفتاح على التأويل في الكشف عن كلّ أشكال السكون والعتمة والخراب.

والشاعر يكشف في نص آخر عن (كابوسيّة) الموت يحمل عنواناً قصديّاً مباشراً ليعمّق الاحساس بهذا الزوال المهيمن كحقيقة مطلقة، هو (إنّه الموت... إنّهم الدرك) ويرمز بالموت الذي يحدثه الدرك بإحالة جليّة لانتشار القمع السلطوي والاستبداد المقيت:

أين يمضي الدرك / بالحبال التي في ضمائرهم

والثقوب التي في بصائرهم / والدماء التي شربتها البرك؟!

درج أم درك؟ / ذلك الموت لو حال بينك والماء

لو سلبَ الأرض أثوابها الخضر / لو أنّه استل روحك كالخيط

ثمّ ادّعى أنّه حررك / هل تفكرت في شكله ؟!

رُعب عينيه / أو قل حنوّهما وهو يلقاك / مبتسماً

بينما أنت تقطر خوفاً... (المجموعة: 9- 10).

يبدأ النصّ بالسؤال ثم يعرّج إلى تفاصيل الموت وهيمنة الخراب مجسّداً الفكرة بوجود رمزيّة الدرك الذي يجسّد الآخر المستوحش، وهو يلقي السؤال إلى الضمائر والبصائر والدماء التي شربتها البرك، وتلك صورة شعريّة مؤثرّة وطافحة بالألم فيها كثير من الإستفزاز لتجسيد حجم القبح ووحشية الموت، وتحيل الصورة الشعريّة إلى استبداديّة وهمجية الدرك حين يستل روحك وهو يبتسم ويدّعي أنّه حرّرك، وهي إشارة سيميائية إلى اختلاط القيم، وتشوّه الخطاب الإنساني، والوجه المليء بالزيف والزعم والإدّعاء، بينما أنت تقطر خوفاً، ونلاحظ ميل الشاعر إلى تقديم صور حسية بصريّة لتعميق الأثر في معنى الزوال والقبح والرهان على الموت ونفي الحياة، وهو ينعى غياب الحياة ويرثي العالم المتناغم المفقود، وفي النص شفرة الإضمار للإحتجاج، ونقد وتعرية التضخّم الإستبدادي – السادي، وهيمنة القمع ومحو الإنسان في عالم متأرجح، فقد كثيراً من صوابه وحكمته، أي أنّ التركيز على هذا التلاشي والقبح يحيل إلى الصورة المضادّة والغائية، وهذا هو الجدل بين المحسوس والمرصود وبين المحذوف، وذلك لوجود دالّة أخرى لنوع آخر من الموت هو موت الحروب تحت سطوة العبث والبشاعة، والزوال المجاني المقيت وذلك ما يجسده هذا المعنى في نص يحمل عنوان (الحرب والزيتون):

كنّا خمسة / تجمعنا – رغماً عنّا – جلسةٌ

في زيل يركض هربا نحو الموت / لا ندري

هل كان يروم نجاة / أم كان يماطل يأسه

خمسة أرواح تتخطفها غيلان الحرب

وكأن الزيل يدوس على أقدام ذئاب / تعوي

فيطول الدرب / كان العلاّق (علي)... أصبرنا

ويئن أنين ربابة / أتراه تذكّر أحبابه" (المجموعة: 27- 28).

فالنص يرتكز على مبنى حكائي وسردية تدور حول خمسة جنود يأكلهم المجهول في الحرب وهم يجلسون في حوض (الزيل) الذي يرمز إلى الحرب بوصفه الآلية التي تحمل الجنود الى الموت!! وتشيعهم إلى الزوال العبثي!! بنسخة الموت في الحرب.. ويعرّج النص على صورة مؤلمة لمعاناة الشباب وهم يسحقون في الحروب، فهم ينظرون ولا يجدون سوى السؤال، خمسة أرواح تتخطّفها غيلان الحرب وكأن (الزيل) يدوس على أقدام الذئاب كصورة مجازية لأصوات وعويل الحرب المدّوية، فالحرب تعوي أنسنة واستعارة حادة لتجسيد لحظة بشعة، ولحظة غياب مجنون، وكان (علي) أكثرهم صبراً لكنّه يئن أنين الربابة كصورة مجازية لهيمنة الحزن القاتل، أو أنه يرثي روحه التي تستحيل إلى قربان مجّاني، أم تراه في تلك اللّحظة المأزومة يتذكّر أحبابه، ويلجأ الشاعر إلى تقديم هذه اللحظة المتضادة بين أقصى الموت وأقصى الحياة، الحياة مع رحلة (الزيل) السيارة الثقيلة، والحياة أو العودة إلى الأحباب رمز البهجة والضجّة والمسرات، فالنقيض يستدعي النقيض لتقديم صورة جدلية توحي بعمق الفكرة وتشظّيها، ويتخذ الشاعر من سيارة (الزيل) رمزاً تجسيدياً لحركة الحرب القاسية، والرحلة والسير نحو المجهول، وعلى ظهر هذه السيارة يرقد الجنود الذين لا يعرفون إلى أين سيكون المصير؟ فهم يتقدّمون من المجهول إلى المجهول. لعلّ هذا المحمول الصوري يكشف عن الموت، وكان إيقاع النص جنائزياً (فعلن.. فعلن).

يواجهنا نص بعنوان (كيس الأدوية)، وهو من النصوص المؤثرة والدالّة على فكرة الزوال، وقانون الغياب والتلاشي، ورصد الموت في مساحة أخرى هي مساحة عمر الإنسان وتحولاته، ووصوله إلى حالة ترتكز على الأمل بعد نضوب الأنفاس ووهن الجسد، فالإنسان مهما كبر وعظم وامتلك فإنه إلى الزوال المطلق، وإنّه سيعانق (كيس الأدوية) حتماً، وهنا نجتزئ هذا المقطع الدال على الحوار الداخلي وتداعياته:

"ها أنا الآن قطار هرم / أحصي محطّاتي الأخيرات

وأوجاعي الكثيرات / وكم أغنية ناحت على اسمي / في (الشرائط)

كلما حاولت أن أهدأ / أو من ياسمين الفجر أن أبدأ

ماتت أمنية / ليس لي من فرحة حتّى لأغفو..." (المجموعة: 16- 17).

فالهرم هو نوع من الموت البطيء والزوال، إذ يجد الإنسان نفسه أنّه يحصي لحظاته الأخيرة والأوجاع الكثيرات، ويحاول عبثاً أن يستعيد الياسمين والفجر، ولكن من دون جدوى، فالأماني ماتت واللحظات أظلمت، حتّى يصل إلى لحظة مقيتة حيث لا يجد الإغفاءة أو الراحة، فما حياة الإنسان إلاّ موت بطيء، يبدأ في لحظة لكنّه محكوم بلحظة زوال بحجم الفقد المهيمن.

إنَّ مجموعة حسن عبد راضي هي إضافة نوعية في شعرية النص والعمق الفلسفي والشأن الواقعي في المعاناة من الحروب ومأساة العيش

المشـاهدات 29   تاريخ الإضافـة 22/12/2024   رقم المحتوى 57316
أضف تقييـم