
![]() |
عصبية ابن خلدون |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : ما الذي يجعل دولةً تتسيد عصوراً ثم تذبل فجأةً كالنبتة التي انقطعت عنها أسباب الحياة؟ هل السبب دائماً ضعف داخلي أم انسحاب دعم خارجي ظنّ حكامها أنه حصنها الحصين؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات، بل محاولة لفهم أعماق ما أبدعه ابن خلدون حين شبّه الدولة بالكائن الحي الذي يولد وينمو ويزدهر ثم يشيخ ويموت. رؤيته العبقرية ارتبطت بمفهوم العصبية، ذلك الولاء الداخلي الذي يوحّد أبناء الدولة ويشكّل أساس قوتها. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن ابن خلدون في تحليله لم يذكر العصبية الخارجية، ذلك النوع من الولاء المؤقت الذي قد يُطيل عمر الدول لكنه يحمل معها بذور انهيارها المحتمل.إن مفهوم العصبية عند ابن خلدون ينطلق من فكرة أن تماسك الجماعات الداخلية وولاءها للنظام الحاكم هو ما يؤسس للدولة ويمنحها شرعية البقاء. لكن التاريخ يُظهر لنا أن دولاً كثيرة اعتمدت على ما يمكن تسميته بـ"العصبية الخارجية"، وهي شبكة الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي التي تأتي من قوى خارج حدود الدولة. هذه العصبية الخارجية، التي لم يتطرق إليها ابن خلدون، تمنح الدولة قوة إضافية قد تطيل أمد وجودها، لكنها في الوقت ذاته تُخضعها لرحمة مصالح الآخرين، وتجعلها كياناً هشاً ينتظر لحظة انسحاب الدعم الخارجي ليبدأ في التصدع.خذ مثلاً الإمبراطورية البيزنطية، التي اعتمدت على دعم القوى الأوروبية في أواخر أيامها. ورغم ضعفها الداخلي، أمدّها هذا الدعم ببعض القوة، لكنه لم يصمد طويلاً؛ فحين انسحبت تلك القوى، انهارت سريعاً، وسقطت القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453، مما يثبت أن الدعم الخارجي مؤقت وزائل.إن العصبية الخارجية ليست ولاءً ينبع من الداخل، بل هي تحالف قائم على المصالح المشتركة التي غالباً ما تكون آنية أو مشروطة. وهذا يجعلها أشبه بجهاز دعم الحياة الذي يُبقي المريض على قيد الحياة دون أن يُعالج جذور مرضه. الدولة التي تعتمد على هذا النوع من العصبية تظلّ في وضع ضعف دائم، لأن بقاءها مرتبط بإرادة قوى أخرى. حين تتغير موازين المصالح أو تظهر قوى جديدة تنافس حلفاء الأمس، تبدأ الدولة في مواجهة مصيرها المحتوم.هذه الإشكالية تجعلنا نعيد التفكير في مفهوم الدولة المستدامة. هل يمكن لدولة أن تستمر دون عصبية داخلية قوية؟ وهل العصبية الخارجية، رغم قوتها المؤقتة، يمكن أن تُعوّض غياب الولاء الداخلي؟ الدول التي تعتمد على الدعم الخارجي فقط أشبه بطائر يحلّق بأجنحة مستعارة، وسقوطها يصبح حتمياً عندما تختفي هذه الأجنحة.ابن خلدون، برؤيته الثاقبة، لم يُغفل أهمية العصبية الداخلية كشرط لقيام الدول. لكن رؤيته، رغم عبقريتها، لم تشمل أثر العصبية الخارجية على مصائر الدول. عصرنا الحديث كشف أن قوة الدولة تُقاس بتوازنها بين تماسكها الداخلي وإدارتها لعلاقاتها الخارجية. الدول الذكية هي التي توازن بين ولاء أبنائها الداخلي وقدرتها على الاستفادة من الدعم الخارجي دون أن تتحول إلى أسيرة له.وفي النهاية، يبقى السؤال: كيف يمكن للدولة أن تُطيل عمرها دون أن تفقد سيادتها؟ الإجابة ليست في الاعتماد على الآخرين، بل في بناء قوة ذاتية تجعلها قادرة على الصمود حتى إذا انسحب الدعم الخارجي. الدول التي تتقن فنّ الاعتماد على الداخل وتوازن المصالح الخارجية هي وحدها التي تُكتب لها الحياة الأطول. أما تلك التي ترهن وجودها بإرادة غيرها، فهي تسير نحو مصير محتوم.الدولة، كالكائن الحي، تولد وتموت. لكن الفرق بين دولة تعيش بإرادتها وأخرى تعيش بإرادة غيرها هو الفرق بين الخلود والفناء. فلا حياة لمن تستمد حياتها من غيرها، ولا بقاء لمن تبيع استقلالها مقابل عمرٍ أطول. الدول التي تفهم هذا التوازن تصنع مستقبلها، أما غيرها فتظل عالقة في مصيرها المحتوم. |
المشـاهدات 62 تاريخ الإضافـة 20/01/2025 رقم المحتوى 58293 |