الإثنين 2025/2/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غيوم متفرقة
بغداد 3.95 مئويـة
نيوز بار
أسئلة المفارقة وإدانة القبح في مجموعة (بأيّ صيف ستلّمين المطر؟)
أسئلة المفارقة وإدانة القبح في مجموعة (بأيّ صيف ستلّمين المطر؟)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

تتجسّد روح المفارقة وبعض تجلّيات الفانتازيا في مجموعة (بأي صيف ستلّمين المطر؟) للشاعر (غسان حسن محد) ومن خلال هذه المفارقة وأسئلتها يسعى الشاعر إلى إدانة القبح والكشف عن المسكوت عنه في واقع ملتبس، ومحتدم بالوجع والحروب والإغتراب وأفول القيم، ويتجلّى نسق المفارقة وتداعياتها بدءاً من سيميائية العنوان الذي جاء على شكل تساؤل شعري لكنّه ينطوي على فكرة موحية وتجلّ فنيّ قائم على السؤال الاستفهامي الذي يتكرّر كثيراً بين تضاعيف ونصوص المجموعة برّمتها، والعنوان يوحي بوجود المفارقة القائمة على التناقض بين الفعل الذي يحدث في غير أوانه، ويأتي الجواب متأخّراً ولا قيمة له، والتناقض أساساً قائم بين ثنائية الصيف والمطر وعبر هذا فإن الشاعر يستثمر فكرة الثنائيات المتضادّة ليعمّق من اسئلته التي تتخذ سمة الأسئلة الوجودية والإنسانية وأسئلة القلق والبحث عن الصورة والمثال في واقع قلق ومنقوص.

وتأتي نزعة ادانة القبح متجسّدة في إدانة الحروب والخراب والفساد السياسي، وتتعرّض لإرادة الزيف والخداع، ولا يقتصر الخطاب الشعري في هذه المجموعة على هذه الثيمات والمضامين بل يتضمّن رؤى وفضاءات أخرى ترتبط بمواقف كثيرة في الحياة والمرأة والتأمل والبحث عن الذات والمثال، كما اتضحت قدرة الشاعر على التعاطي مع النصّ الطويل نسبياً والقصير المختزل والمكثّف الذي يصل إلى اشتراطات النص (الهايكوي) وقصيدة الومضة السريعة، كما نجد عناية دقيقة وقصدية تعبيريّة في انتقاء العناوين وتعميق دلالتها الإشارية والإيحائية، وقد وظف الشاعر لغة شعرية محلّقة ومستقطبة لوجدان وذائقة المتلقي من خلال تعميق النزعة، أو الإشتغال الانزياحي، وترحيل المعنى من بعده (الإيقوني) والمعجمي باتجاه الانفتاح على تعدّد المعنى والطاقة التأويلية والترميز والاحالة.

بدت نصوص المجموعة على جانب من العمق والرصانة ولم تنزلق إلى النثرية والسردية الفجّة والاسراف الوصفي أو العاطفي، فكل مفردة أو لفظ او جملة ترتكز على أداء سياقي منتج ومعبّر ولذا جاءت النصوص بعيدة من السطحية أو التأمل الانطباعي العابر، وتضمّنت كثيراً من المضامين والثيمات والأسئلة التي لا تكتفي بنسق التساؤل المجرّد فبعض السؤال جواب كما يقال، وعلى وفق هذه المعطيات أصبحت النصوص بعيدة بطبيعة الحال عن المباشرة التقريرية، والوصف المجرّد، في مدوّنات تثير المتلقي باستفزازها وقدرتها على تأسيس رؤية مغايرة، ولا تنعدم النصوص من خاصيّة المتعة الجمالية المرتكزة على انتقاء الألفاظ وصياغة المعنى وتواتر الانثيالات والصور الشعرية المعبرّة والشفيفة، كما لابُدَّ من الإشارة إلى أن المجموعة انطوت على التنوّع في الموضوعات والرؤى والتوّجهات الإنسانية والوجوديّة والجمالية والوطنية والسايكولوجيّة.

ففي نص موسوم بـ(خرائط وأمجاد) نلمس الإشتغال الانزياحي في توظيف لغة شعريّة دالة ومنتجة للتجسيد الصوري وعمق الدلالات.

أقبض على جمرتك.. / فالماء يبحث عما يطفئ اللّهيب...

رجل يقف على حافة البحر / في عنقه حجر .. يحلم بالقاع

وسمكة تنظر إلى النجوم / تسعى لقطف الضياء..!!

كلاهما قصّة البحر / فكم ذهول يحتاج أهل الأرض

ليفيقوا من سكرتهم؟! / هذه علامات المرور

شواهد على اختلال الموازين / الأصفر يزدهر على خدود الناس

ولا يُنضج الثمار؟؟! / الأحمر .. يسيل على لوحة الوجود

يسخر من اخضر ركب القطار / ولم يعثر على ربيع

حينما غيّرت السمكة مساراتها..! / وغدا الوصول إلى محطّة الأمان

محض حلم لا يهبط من الرأس / يا صاحبي..

لم تضع النقطة آخر السطر؟ / ولم تبتدئ الحكاية أوّلهُ..

جئت بالنهايات دفعة واحدة / كنت مولعاً بالخرائط

لذا أكلت التفاحة من خاصرتها... (المجموعة: 7- 8).

اجتزأنا من النص هذه المساحة لكي نقف على تحولاته وطبيعة اللغة الانزياحية المهيمنة فيه، وتوافر روح المفارقة والترميز بين هذه التحولات، ويبدأ النص وكأنه ينطلق من روح الوصايا والدعوة إلى التحمل إشارة إلى تعسّف وضراوة الواقع الذي يكشف عن تناقضاته (اقبض على جمرتك..)، ثم يتوغل النص في تواتر صوري للكشف عن مساحات أخرى للتناقض والأسئلة الوجودية، وتجسيد منطق المفارقة المهيمن على المشهد، والتوكيد على المحاولة لإيجاد الذات عنوة (وسمكة تنظر إلى النجوم، تسعى لقطف الضياء!!).

ويقدّم توكيداً لهذا الإختلال الوجودي "هذه علامات المرور.. شواهد على اختلال الموازين..."، ويمكن الاستدلال على توظيف اللّون ودلالاته للكشف عن هذه التناقضات، "الأصفر يزدهر على خدود الناس..."، ويوظف الشاعر دلالة الألوان الأصفر والأحمر والاخضر للإشارة إلى البعد الإحالي والترميزي وكشف التضادات في (لوحة الوجود) عبر هذه الصور التي تكشف عن أسئلة الإنسان الوجودية، وسعيه الضاري لاقتطاف الثمار البعيدة والعصيّة في أحيان أخرى.

ويصبح الوصول إلى (محطة الأمان محض حلم لا يهبط من الرأس)، فالصور المتواترة تكشف عن معنى (سيزيفي) للوصول إلى اليقين والثبات الضائع، وكأن الشاعر يومئ إلى أن لوحة الوجود الإنساني تقوم على مجرد محاولة لإيجاد التوازن والتناغم والقبض على الحلم، ونجد نهاية النص وقد قدّمت رؤية وجودية وسايكولوجية، واختزال يشبه روح المفارقة في توكيد الذات، والبحث عن الطريق الذي لا وجود له إلاّ في أعماق الذات القلقة نفسها التي تبحث عن الآخر: عندما أُدرك أن الطريق / لا تؤدي إلى غيرك..!! (المجموعة: 8).

ويمثّل نص (أصنام) تجربة في إدانة القبح وفضح الصنميّة بكل أشكالها وتمثلاّتها، ونجتزئ هذا المقطع الدال:

فسرنا إلى الصوامع باصنامنا / صنم للمال يسلب الفقراء كسرة من شبع

صنم للقسوة / يشدّ الوردة إلى حنان شائك.. / لا يبرحها حتى آخر العطر..

صنم للذات تضيّع الجهات / وتنحو باللائمة على البوصلة..!

صنم للفصول / تقف على أبواب دور (الموضة) بانتظار أن من يمنحها مسمّى..!!

صنم للعبث، وللزيف، وللغربة / أصنام أصنام / تحشد فينا..

نحن الوجود المنزاح إلى عدم!! (المجموعة: 10).

ويمكن القول إنَّ هذا النص يختزل كثيراً من المضامين والثيمات والإشارة البليغة إلى مأزوميّة الإنسان والواقع المتداخل والمرتبك بالسؤال الوجودي وهيمنة (العبث والزيف والغربة)، وتحوّل الإنسان والوجود إلى حالة (صنميّة) وهي إشارة إلى البعد الأحادي، والتمركز السلبي حول بعض القيم الكميّة في الحياة واختزال الحياة في السعي لوجود الأصنام، ويقدّم الشاعر لوحة تزدحم فيها الأصنام كبديل للتوّهج أو القيمة الإنسانية الغائبة، في ظل هذا الإجتياح الصنمي، بعد أن تحوّل الوجود إلى ما يشبه التسليع والتشيؤ، وفقدت الظواهر الإنسانية معناها ونضارتها، ودلالة الصنم توحي بشيوع هذه الجاهليّة والضلالة ليس بمعناها الديني، ولكن بقصديتها الإنسانية وعلى وفق هذا فإن توظيف الصنم كعلامة سيميائية للإستدلال على فقدان المعنى وتحوّل الحياة إلى لهاث مطلق باتّجاه الزيف والعبث بعد أن فقد الإنسان كينونته الحقيقيّة باتّجاه عالم قلق وعدمي ويقترب من المعنى العبثي واختفاء الصدق والنقاء.

ويتوّج هذه المعطيات على شكل صياغة تقترب كثيراً من روح تمثلاّت (الفنتازيا) الساحرة في نص (أطراس الذاكرة):

في مباراة كرة القدم / تناثرت جثث / وسالت دماء...!!

لا لشيء سوى أن المدرب / أخبر اللاّعبين – أنها معركة...!!

البارود يحلّق في الأجواء / والحكم رسم دائرة للخطر / ورمى على الجمهور يمين الشتات / أشهر البطاقات الحمراء / بوجه البلابل / فتركت الأشجار الأرض ينقصها اخضرار الروح.. (المجموعة: 11).

في النص هناك استعارة دلالة كرة القدم لوجود اللّعبة الدموية، وقتل الجمال، وتحوّل المساحة إلى جثث، وسواق من الدم وتحوّل لعبة كرة القدم إلى معركة فاصلة يسودها الموت والبارود، حين رسم الحكم دائرة الخطر، (ورمى على الجمهور يمين الشتات وأشهر البطاقات الحمراء.. بوجه البلابل...) وذلك توظيف فنيّ للغة انزياحية، واستعارة طقوس كرة القدم وترحيلها إلى لعبة الموت، والقتل والاستهداف، فحتّى (الأشجار تركت الأرض ينقصها اخضرار الروح).. وهي إشارة صوريّة ذهنية وإحالية إلى هيمنة الجذب والجفاف والزيف وكل أشكال الموت والأفول على وفق رؤية فانتازيّة فيها كثير من التهكّم والسوداويّة التي ترتكز على نظرة وجودية تدين القبح والزيف وتكشف عن دراما الوجود الإنساني الذي ينطوي على نوع من العدميّة والتناقض، فالنص يحتكم إلى رؤية وجودية تحاول أن تفكّك جانباً من الوجود الإنساني وهيمنة هذا اللّون من معاني العبث واللاّمعنى واللاجدوى في ظلّ شيوع العنف وكلّ أشكال الموت بمعناه البيولوجي أو الرمزي أو الوجودي، وغياب اللّون الأخضر في روح اللّحظة الإنسانية الغائبة، ممّا يؤدي إلى هذا القبح والذبول ومظاهر الاستئثار.

وتواجهنا ظاهرة استخدام علامة التعجّب في نهاية كلّ سطر أو وحدة لسانية للتوكيد على وجود التعجب والاستغراب من قوّة المفارقة والزيف والواقع الملتبس الذي يحتاج إلى إضمامة من الرؤى والأسئلة والتمثلاّت للكشف عن اختلالاته وعدميّته وارتكاس المعنى فيه، ولم تكن هذه الكابوسيّة لمجرّد استعراض لأجوائها وطقوسها ورمزيتها، بل إنَّ الشاعر يسعى لتوكيد معنى أن الوجود يحتاج إلى رؤية مضادّة لإستكمال التوازن والتناغم، أي أن التركيز على هذه المعاني واشكال الترّدي يعكس الرغبة في البحث عن البديل المضاد وإدانة الواقع، أو إدانة فيها كثير من القصدية، والتوكيد على غياب المعنى. وبراعة الشاعر تكمن في استعارة طقوس كرة القدم وتحويلها إلى طقوس تنطوي على العنف والقبح والأفول من خلال تحريك الطاقة التأويلية والرمزيّة وصولاً إلى المعنى المراد، والتركيز على مفهوم اللّعبة ودلالاتها، أي أن الواقع والوجود هو عبارة عن لعبة عدميّة مهما اختلفت ألوانها وأشكالها ودلالاتها.

ويتوّج الشاعر رؤيته للقبح والخراب من خلال الإشتباك مع موضوعة الحرب، وما تخلّفه من وجع وضياع وموت وحرائق باعتبار أن الحرب هي ذروة العبث والزيف وموت المعنى، ويتجلّى هذا القصد في نص (ألعاب اليد):

بعد حلم عظيم / أفقنا على ترانيم حروب..

يغشانا رصاصها جمعاً / احرقت المراكب والبحر..!

بعد أن لم تعد اليابسة / تقلّ قدماً ... أو تخرج حيّاً

فبين حجر يتهاوى من علٍ / وآخر إليه تركن الأجساد

كانت اليد تحترف ألعاب المحو...! / كانت عصيّة على الحياة..

بذرة اللّوز هذه... / لم يتسنَ لها أن تلتحف الأرض

نمت في مقبرة لا اسم لها... / على صدر طفل..! (المجموعة: 23).

والنص يعكس تنويعاً آخر لوجود المفارقة الفادحة وعدميّة الحروب وشيوع الفقدان بكلّ أشكاله ويبدأ النص بالتضاد الثنائي بين الحلم والحرب التي يغشى رصاصها الجميع.. وتنتشر الحرائق لتنال المراكب والبحر ولم تعد هناك من أرض يابسة، وليس سوى حجر يتهاوى من علٍ..، ويصل النص إلى ذروة التعبير على مستوى تشكيل الصورة الشعريّة، وتجسيد محمولها الدلالي: (كانت اليد تحترف ألعاب المحو...)، فالحرب في حقيقتها وقبحها تشبه ألعاب المحو.. بكلّ دلالاته ومعانيه.. محو الإنسان والأرض والوجود وهيمنة العبث والحرائق والإستلاب.

وتتشكّل رؤية باتّجاه المرأة ورمزية وجودها بالتناص مع الجذر الميثولوجي لوجود الخطأ والخطيئة والغواية التي تبحث عن معنى في نص (امرأة وجرّة ماء وظمأ)، فالعنوان يكشف عن تناقض دال باتّجاه تمثّل الثيمة:

امرأة لا شأن لها بالغواية / فأبونا آدم .. قد زلّت به القدم

وهوى إلى الأرض الحرام / مأخوذا بتأليف نفسه...

آدماً تلْو آدم...! / هي ترسم خرائطها

وتحلم بالفارس الذي ما إن يجيئ / حتى تقفُ كالبلهاء.. لا تجيد قراءته

ولا تفهم هبوب رياحه... (المجموعة: 28).

فالنص ينطوي على دلالات ومعانٍ متعددة تجسّد نوعاً من قراءة الذات الأنثوية أو الحقيقة القلقة وتحوّلاتها بين وجودها بمعناه (الوجودي) واقتران الثيمة بالجذر الميثولوجي، ويبرع الشاعر بتشكيل الرؤى التي تثير المعنى من خلال تفكيك الواقع والظواهر والتركيز على ثنائية المعنى واللاّمعنى وثنائية القبح والجمال وثنائيات متناسلة أخرى، والمجموعة في مجملها لوحة شعرية جميلة لشاعر موهوب.

المشـاهدات 42   تاريخ الإضافـة 17/02/2025   رقم المحتوى 59370
أضف تقييـم