
![]() |
الاعتدال .. جسر الهوية والتوازن في عالم يموج بالتطرف |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
كنت يوماً في أربيل بضيافة أصدقائي المسيحيين، ورغبت بزيارة دير مار متي التاريخي شمال الموصل وللتأكد من أن الدير مفتوح للزيارة، اتصل أحد أصدقائي بصديق يزيدي يسكن في المنطقة ليسأله، وقبل انتهاء المكالمة، ابتسم صديقي قائلاً : " والله حلو مسلم يريد يزور دير مسيحي ومسيحي يسأل يزيدي عن دير مسيحي!" فجاء رد الصديق اليزيدي مازحاً : "بالنتيجة كلنا مسلمين!"تلك الروح الجميلة التي تجمع بين أطياف المجتمع المختلفة هي الأساس الذي يمكن أن يبني المشتركات: علاقات الصداقة والعشرة الطيبة والمصاهرة والمشاركة الاقتصادية والمواقف الوطنية. هذه القيّم هي ما يعزز الانسجام الاجتماعي ويمنع الانقسام.وتزامناً مع اليوم الدولي لمنع التطرف العنيف، في عالمٍ تتصارع فيه الأيديولوجيات وتعلو فيه نبرةُ الانقسام والاستقطاب والتطرف، يبرزُ الاعتدال كمنهج حياةٍ فريد، لا يستند إلى الحياد أو التخلي عن المواقف بل إلى التوازن الواعي الذي يتيحُ انتقاء الأفضل من كل الاتجاهات دون الانزلاق إلى الغلوّ أو اللّامبالاة. الاعتدالُ ليس مجرد حالةٍ وسطى بين الأبيض والأسود، بل فنٌ للعيش بوعيٍ واتزان تتجلى فيه الحكمة الإنسانية في أبهى صورها. عند الحديث عن الهوية، يتبين أن التطرف في الهويات المحلية – سواء أكان تطرفاً دينياً أو عرقياً أو ثقافياً – يشكل تهديداً خطيراً للوحدة الوطنية. فالهوّية الوطنية ليست حصناً مغلقاً يُبنى على نبذِ الآخر أو استبعاده، بل فضاءٌ رحبٌ يحتضن التنوع ويجعل منه مصدر قوة، الاعتدال هنا هو القاعدة الذهبية التي تسمح للهويات المحليّة بالتعبير عن ذاتها دون أن تتعارض مع الهوية الوطنية الكبرى بل تكون معززةً لها بتماسكها وانفتاحها مع الآخر تحت مظلة الوطن. لذا فإن الاعتدال ليس مجرد موقفٍ ثابت أو منطقة رمادية، هو قرارٌ شجاع يتطلب وعياً عميقاً بالواقع ويحتاج إلى مهارات تحليلٍ دقيقةٍ لفهم التعقيدات والمفارقات المحيطة بنا، إنه مثل قائدِ سفينةٍ يبحرُ وسط أمواجٍ متلاطمة، يتحكّم بدفته، بحكمةٍ وهدوء، بينما يقف الحياديون على الشاطئ يشاهدون من بعيد. من الناحية الفلسفية، الاعتدال ليس مفهوماً جديداً، فقد تحدث أرسطو عن "الوسط الذهبي"إذ توجد الفضائل بين رذيلتين، فالشجاعة على سبيل المثال، تقع بين الجبن والتهوّر، والكرمُ بين البخل والتبذير. وفي الإسلام نجد أن الاعتدال يمثل أحد المقاصد الكبرى للشريعة، إذ يقوم على تحقيق التوازن بين الإفراط والتفريط واتّباع منهجٍ قيّمي يرتكز على العدل والرحمة فنجد الاعتدال حاضراً في قوله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» [البقرة: 143]، وهو دعوة للوسطية في كل شيء، من العقيدة إلى العلاقات الاجتماعية. وفي كل الأديان السماوية، يتكرر المفهوم نفسه، ففي المسيحية يتجلى الاعتدال في تعاليم المسيح عليه السلام حول المحبة والرحمة ورفض التشدد الذي مارسه الفريسيون. البوذية أيضاً تدعو إلى "الطريق الوسط"، الذي يتجنب الإفراط في الزهد أو الانغماس في الملّذات. هذا الاعتدال الروحي المشترك هو حجر الزاوية لبناء مجتمعاتٍ مستقرة ومتوازنة. من منظور علم النفس الاجتماعي، يظهر الاعتدال كأحد أعمدة الاستقرار النفسي والاجتماعي، فالأشخاص المعتدلين يتمتعون بمرونة ذهنية أكبر وقدرة أعلى على تقبّل الآخرين والتكيّف مع التغيّرات، كما اوضحت التجارب العلمية ان الأفراد المعتدلين كانوا أقلّ عرضةً للتأثر بضغط الجماعة، مما يعكس نضجاً فكرياً وانفتاحاً على التعددية. التاريخ مليء بالدروس التي تؤكد أن الاعتدال هو مفتاح النجاة للحضارات، فالحضارات التي انجرفت إلى التطرف السياسي أو الديني انتهت إلى الانقسام والدمار، وهذا ما تتبناه الدول المستعمرة بانظمتها الحديثة القائمة على الاستعمار الافتراضي بما تتسبب به من افتعال أزمات وصراعات إيدلوجية واقتصادية تعود عليها بالهيمنه والتسلط، ففي دراسةٍ أجرتها جامعة هارفارد عام 2020 كشفت أن 75% من الحروب الأهلية الحديثة نشأت بسبب الاستقطاب الأيديولوجي والديني، وهذا ما حذّر منه النبي محمد ﷺ بقوله: "إياكم والغُلُوَّ في الدينِ ، فإِنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بالغُلُوِّ في الدينِ" ، وهو مصداق قوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] فالاعتدال هو الفهم العميق للنصوص الدينية بروحٍ مقاصدية، كما ظهر في مواقف العديد من الشخصيات التاريخية التي قدمت المصلحة العامة على التشدد في تطبيق النصوص دون مراعاة الظروف. أما في الاقتصاد، فالاعتدال هو التوازن بين رأسمالية متوحشة تهدد العدالة الاجتماعية، واشتراكية متشددة تقضي على روح الابتكار، فنموذج "اقتصاد السوق الاجتماعي" الألماني خير مثال على الاعتدال الاقتصادي، حيث حققت ألمانيا معجزةً اقتصادية دون المساس بالعدالة الاجتماعية. حتى على صعيد الهوّية، الاعتدال يمثل المسار الآمن لتحقيق توازن بين الانفتاح على العالم والتمسك بالخصوصية الثقافية. "ماليزيا مثلاً استطاعت أن تحافظ على هويتها الإسلامية مع تبنّي قيم التعددية والانفتاح، مما جعلها نموذجًا حيًا للتعايش الثقافي والديني." الاعتدال يتفوق أيضاً على العديد من المناهج الاجتماعية الأخرى ولا سيما عند التطرف فيها فتبنى الأرستقراطية مثلاً على التمايّز الطبقي واستعلاء القلّة، بينما البرجوازية تغرق في النزعة المادية والأنانية الفردية، أما البراجماتية، سترّكز فقط على تحقيق النتائج ولو على حساب القيّم الأخلاقية، في المقابل، الاعتدال في كل المناهج يضمن تحقيق التوازن والاخذ بإيجابيات كل منها لبناء المفاهيم بما لا يتعارض مع القيم الأخلاقية والواقع العملي. لكن لماذا يُهاجم المعتدلون؟ السبب ببساطة أنهم يقفون في منطقة وسطى بين طرفين متنازعين، المتطرفون يرون في الاعتدال ضعفاً وتخاذلاً، بينما يعدّه الليبراليون المتشددون تمسكاً بالقيّم التقليدية بشكلٍ غيرِ مقبول. ومع ذلك، أثبت التاريخ أن الاعتدال هو المسار الأكثر استقرارًا واستدامة. الحضارات التي تبنّت الاعتدال ازدهرت وحققت التقدم، بينما انهارت تلك التي غرقت في مستنقعات التطرف أو الفوضى. الاعتدال ليس مجرد فكرة تجميلية، بل منهجُ حياة يتطلب تعليمًا يعزز التفكير النقدي، وإعلامًا يروّج لثقافة الحوار بدلًا من الاستقطاب، وقوانين تحمي التنوع وتجرّم خطاب الكراهية، وكما قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: «الحكيم يبحث عن الانسجام لا التماثل». فهل نختار أن نكون هذا الجسر الذي يوحّد المختلفين، أم نسمح لعواصف التطرف أن تبتلعنا؟
|
المشـاهدات 238 تاريخ الإضافـة 17/02/2025 رقم المحتوى 59377 |