الخميس 2025/2/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
روح الأيام واتساع المعنى!! د. عارف الساعدي .. حنين الازمنة
روح الأيام واتساع المعنى!! د. عارف الساعدي .. حنين الازمنة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 إشارة تقديم/شوقي كريم حسن

 

(٢١)

مذ دخل النقالُ البيتَ

اختفتِ الأشياء سريعا

كان أبي "يرحمه الله"

يجلس في ديوانيِّته السمراءْ

كلَّ مساءْ

يتحلَّقُ شيِّابُ الحيِّ حواليهِ

وتدور القهوة بين يديهِ

الدنيا بردٌ

لكنَّ الموقدْ

ممتلىءٌ بدِلالٍ ساخنةٍ وحكاياتْ

نرتشفُ القهوةَ ثانيةً

ونهيم بدخِّان سجائرهم

ونشمُّ القرية في الكلماتْ

صادقنا الانهارَ وكدنا أنْ نغرقَ فيها

لولا بعض الضحكاتْ

لولا ….

لولا ان الدرب بلا عثراتْ

لكنَّ العمرَ قصيرٌ

والحلْم بلا شرفاتْ

ولهذا

صحنا بعد فوات العمر

انتظرينا

أيتها الأيام المنسيِّة

أيتها السنواتْ

الدنيا بردٌ يا ألله

والموقد منطفىءٌ هذي الليلةَ

والديوانيِّةُ خاليةٌ من شيِّاب الحيْ

من يرجعني

ويعيدُ العمرَ إليْ؟

من سيقايضني بالعمر الباقي

ويصبُّ القهوةَ

 نفسَ القهوةِ

بين يديْ؟

منعزلٌ في الصالة وحدي

والقهوة باردةٌ

فيما النقَّالُ بكفيَّ كجنٍّ

والأيام المنسيِّة في شفتي

وأنا وحدي منسياً في هذا البرد

الموحش يا أبتي

أجترُّ الليل

ودفء الموقد والقهوة والدخّان

وكل حكايات الشيِّاب المنسيين

وأغلق نقَّالي في الفجر ولا أغفو

(قصيدة الشاعر الدكتور (عارف الساعدي )تلتقط في سطورها لحظة من الفقد والمغادرة، محملة بذكريات صافية من الزمن الذي يمر بلا عودة. الشاعر يعود إلى تلك الأوقات التي كانت فيها الحياة أكثر حميمية، حيث  يجتمع مع رجال الحي في ديوانية والده، يتبادلون الحديث والضحكات بينما القهوة تدور بين أيديهم، والموقد يعكس دفء العلاقات والأيام البسيطة. هذا العالم الذي يراه الشاعر ضاع، ليحل محله البرد والفراغ، حيث لا أحد يشرب القهوة ولا يدور الحديث.

الفقد الامر ليس غياب الجسد، بل غياب كامل للمكان وروح اللحظات الصغيرة  المليئة بالحياة. تتجلى هذه الفكرة بوضوح عندما يشير الشاعر إلى “النقال” الذي دخل البيت، ليسرق منه تلك التفاصيل الصغيرة التي  تمثل الحياة البسيطة. تتنقل القصيدة بين الحنين للماضي والحزن على الحاضر الذي يعج بالوحدة، ويظل الشاعر محاصراً في صراع داخلي بين اللحظة الراهنة التي لا تلبي تطلعاته وبين أمل مستمر في العودة إلى تلك الأيام التي اختفت.القصيدة تحتوي على عناصر سردية قوية، تجعل المتلقي يشعر بالزمن الضائع، والوحدة التي يخلفها الفقد، والتقدير العميق لتلك اللحظات المليئة بالقيم الإنسانية التي لا تعود. كأنه  يصرخ في وجه الزمن، يسأله عن من يعيد له تلك اللحظات البسيطة التي شكلت حياته.

الشاعر  لا يتحدث عن الزمن بشكل مجرد، بل عن حقيقة إنسانية تمثل قيم الحياة العميقة في تفاصيلها الصغيرة. يبدو أنه من خلال قصيدته يحاول  التقاط الخيط الرفيع بين الذكرى والواقع، مستعيدا اللحظات المليئة بالحياة والدفء. العنوان “٢١” قد يكون رمزًا لسنة معينة أو لحظة في حياته، ولكنه يحمل أيضًا دلالة على لحظة من الزمن لم يعد بإمكانه استعادتها. الفارق بين الماضي والحاضر يتجسد في تباين الأجواء: ديوانية والده التي كانت مليئة بالرجال والحديث والضحكات تتحول إلى صالة باردة ومقفرة، حيث لا شيء يحدث سوى تردد الذكريات في ذهنه.

، ومن خلال سرده، يُظهر الفارق الحاد بين الدفء الذي يشعر به في الماضي، سواء من خلال الحكايات أو الموقد، وبين البرد القاتل الذي يعيشه الآن. يصبح “النقال” ليس مجرد جهاز تكنولوجي بل رمزًا لتغييرات الحياة السريعة التي سرقت منه تلك اللحظات المميزة التي  تشبع روح الإنسان وتجعله يشعر بالتواصل مع العالم حوله. في هذه المعركة الداخلية بين الحنين والمأساة، يكشف الشاعر عن هشاشة البشر أمام الزمن، وعن معاناته في مواجهة قسوة الحياة الحديثة التي لم تعد تحمل العلاقات الإنسانية العميقة.القصيدة تلمس جوانب من الحزن العميق، حيث يتمسك الشاعر بأمل ضئيل في استعادة ما ضاع، ولكنه يدرك في نفس الوقت أنه لا يمكنه أن يعيد الزمن ولا أن يملأ فراغه بشيء آخر. “من سيقايضني بالعمر الباقي” هو سؤال يحمل في طياته الندم على الوقت الذي ضاع من دون أن يتمكن من تقديره بشكل كامل. الشاعر  يتجسد كمن يراقب الذكريات بحسرة، عاجز عن إعادة تشكيل الحاضر ليكون أكثر دفئًا من الماضي.

أما المشهد الأخير من القصيدة، “وأغلق نقَّالي في الفجر ولا أغفو”، فيحمل صورة معبرة عن نهاية حتمية للبحث عن شيء مفقود. يعلن الشاعر بشكل ضمني عن عجزه في العودة إلى تلك اللحظات البسيطة والمليئة بالطمأنينة. هو مغلق على نفسه داخل دائرة من الحنين التي لا تفضي إلى أية إجابة.بذلك، تصبح القصيدة في مجموعها رحلة شعورية عن الفقد والندم والحنين إلى الماضي، وعما يترتب على التغيرات التكنولوجية من تباعد إنساني، وهو موضوع يمكن أن يلامس العديد من القراء في زمننا الحالي الذي يشهد انفصالًا تدريجيًا بين الأفراد والمجتمعات بسبب التطور التكنولوجي. وتميزت القصيدة بتكثيفها الرمزي والوجداني، حيث تأخذ المتلقي في رحلة عميقة إلى عالم الذاكرة والتاريخ الشخصي، مشبعةً بحس حنين قوي يطغى على تفاصيل الحاضر. يظهر الشاعر في القصيدة كمن يسعى لانتزاع نفسه من قبضة الزمن المتسارع والتكنولوجيا التي تغير بشكل جذري العوالم الإنسانية القديمة.القصيدة تعتمد على الاسترجاع الزمني بشكل أساسي، حيث ينقض الشاعر على لحظات الماضي المشبعة بالألفة والبساطة. و  ديوانية والده، ليس مجرد موقع جغرافي، بل  رمز للتواصل الاجتماعي، الحميمية، والذاكرة المشتركة بين أفراد الحي. في هذه المساحة المحدودة،  الحياة تنبض بالقهوة والدخان والحكايات التي تنسج الروابط بين الأفراد. في هذا الفضاء،  القهوة ليست مجرد مشروب، بل  وسيلة للتواصل بين الأجيال، تُمزج بها القصص والأحلام، كما لو أن كل فنجان يحمل معه جزءًا من الماضي ورائحته. ولكن حين تدخل “النقال” (الهاتف المحمول) إلى البيت، تختفي الأشياء بسرعة، مما يعكس تأثير العولمة والتكنولوجيا على التفاعل البشري.النقال، الذي يبدو كأداة حديثة في البداية، يمثل في الواقع الوسيلة التي قطعت الصلة بين الإنسان والمكان الذي  يشبع الروح. يدخل النقال ليصبح القوة التي تفصل الإنسان عن طقوسه القديمة، مثل الجلوس في الديوانية، والشرب مع الأصدقاء، والتواصل البطيء والمتناغم مع المحيط. هنا يظهر الشاعر وكأنه يقف في مواجهة الحداثة والتغيير، حيث يُظهر عدم ارتياحه تجاه الانفصال العاطفي والاجتماعي الذي يسببه التقدم التكنولوجي.

إن العلاقة بين الحنين والمأساة هي السمة الغالبة على القصيدة، لانها تتنقل بين صور الفراغ والتفكك، بين رغبة عميقة في استعادة الزمن الضائع. في قوله “من سيقايضني بالعمر الباقي”، لتظهر فكرة الندم والتضحية، حيث يتمنى الشاعر لو يبدل حياته المستقبلية من أجل أن يعود بالزمن إلى الوراء. هذه العبارة تحمل إشارة عميقة إلى العجز البشري أمام الوقت، وعدم القدرة على إيقاف مروره.ثم يأتي السطر الأخير في القصيدة، “وأغلق نقَّالي في الفجر ولا أغفو”، ليعبر عن الاستسلام والتسليم. هو إغلاق لجهاز الهاتف المحمول الذي كان سببًا في عزلة الشاعر وابتعاده عن التواصل البشري. ومع ذلك، يظل الشاعر يواجه الليل والوحدة، في انعكاس واضح للحالة الداخلية التي يعيشها، وهي حالة من التشويش والضياع في عالم لا يمكن العودة فيه إلى الماضي. الليل هنا ليس مجرد ظلمة، بل هو أيضًا رمز للغموض والمجهول الذي يقبع فيه الشاعر بمفرده، مشغولًا بأفكاره وأشجانه.الرمزية في القصيدة تنعكس في تحول “النقال” كائنًا غريبًا يعبر عن الطغيان الثقافي الذي تفرضه الأدوات الحديثة على العالم التقليدي. لكن، على الرغم من سطوة التكنولوجيا، تبقى ذكريات الماضي بمثابة المرآة التي تعكس الذات الحقيقية، حتى لو كانت ذكريات مهملة أو مغلفة بالحزن.

القصيدة تدور حول قيمة الوقت والتعلق بالماضي باعتباره الزمن الذي كان يحمل الحياة بمكوناتها الجميلة والبسيطة، بينما يتحول الحاضر إلى زمن منفى، يغرق فيه الشاعر في وحدته. هذه الثنائية بين الزمنين، الماضي والحاضر، تجعل من القصيدة إدانة لزمن السرعة الذي يحرم الإنسان من الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة التي كانت تضيء حياته.!!

المشـاهدات 34   تاريخ الإضافـة 18/02/2025   رقم المحتوى 59476
أضف تقييـم