الإثنين 2025/3/17 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
نيوز بار
العشائر العراقية بين الهوية والانتماء
العشائر العراقية بين الهوية والانتماء
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
النـص :

 

 

 

لم تكن العشائر يوماً مجرد كيانات اجتماعية قائمة على النسب والانتماء، بل هي حصونٌ تُبنى فيها القيّم، ويُصاغ داخلها معنى الولاء للهوية والأرض ، وفق معنى " أهل گاع ونَخلَّة ". يَفتخر العراقي بنسبهِ الذي يعطي دلاله لانتمائه العشائري " شمّري أو زبيدي أو جَبري أو دليمي او حسناوي او تميمي ، أو يعتّز بأنه من السادة  والقائمة تطول"، وجميعها تتوحد حين يقف أمام مرآة الوطن، إذ يرى نفسه قبل كل شيء ابن الرافدين، وحين يُنادى باسمه مقروناً بالعراق، تذوب كل الألقاب لأن العراق هو الأصل والهوية الأكبر التي تحتضن الجميع.  في بلدٍ متعدد القوميات والمذاهب حيث تتداخل اللغات والتقاليد كانت العشائر القاسم المشترك الذي وحّد العراقيين في المصير والهوية، اذ لم تكن العشائر حكراً على قومية دون أخرى ولا على طائفة دون غيرها، بل كانت امتداداً طبيعياً لحياة الناس، حيث تشابكت فيها العلاقات عبر الزواج والمصاهرة وتوحّدت المصالح عبر التاريخ المشترك والتجارب المتشابهة. وعبر القرون لم تقتصر أدوار العشائر على كونها إطاراً اجتماعياً، بل لعبت دوراً سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً ، وكانت جانب الأمان في الأزمات حين غابت الدولة أو ضعُفت إذ نهضت العشائر لسد الفراغ، وحين استعادت الدولة قوتها عاد دورها إلى وضعه الطبيعي ككيان اجتماعي مساند. العشائر هي شاهد الأحداث وكثيراً ما كانت مؤثرة في المسار، إذ لم يكن التاريخ وحده هو ما منح العشائر احترامها بل مواقف رجالها وتمسكهم بالقيم والعادات النبيلة،  ففي أحلك اللحظات عندما حاولت عصابات الغدر والإرهاب بثَّ الرعب وتفتيت البلاد، كانت العشائر جدار الصّد الأول لحماية الأرض، لم تخشَ المواجهة بل قدمت رجالها مع كافة التشكيلات جنباً إلى جنب مع القوات الأمنية، فكانت حصناً منيعاً ضد كل من حاول المساس بوحدة العراق، ولم تكن هذه هي المرة الأولى فمن مقاومة الاستعمار إلى التصّدي لمحاولات تمزيق النسيج الاجتماعي، كانت العشائر دائماً في الصف الأول، تدافع عن الأرض كما تدافع عن شرفها، وترفض أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات.  ولكن بين هذا التاريخ العريق برزت ظاهرة أساءت لصورة العشائر الأصيلة فكما تُنجب الأرض النخيل قد ينبتُ فيها شوك الطارئين. خلقت البطالة وغياب الدور الفاعل لبعض مؤسسات الدولة بيئةً خصبةً لظهور مدّعي المشيخة أو من اتّخذ من هذه الصفة وظيفة مربحة، أولئك الذين لم يرثوا أو يكتسبوا الحكمة ولا القيادة، بل رأوا في اللقب وسيلة للارتزاق ، فجعلوا من الألقاب العشائرية مشروعاً شخصياً، متاجرين بأسمائها في أسواق المصالح الضيقة، ومستخدمين وجاهتها المزيّفة بالملبس والسيارات الفارهة والزهو بأشعار مدفوعة الثمن وسيلة لتحقيق مكاسب لا علاقة لها بالمبادئ العشائرية الحقيقية.  لكن نمو الشوك قصير الأمد ولا يؤثر على النخيل، فالعشائر الأصيلة برموزها ذلك النخيل الباسق الشامخ الذين لم يفرطوا بتاريخهم ولم يسمحوا بأن يكون اسم عشائرهم سلعة تباع وتشترى، يدركون أن المشيخة ليست تاجاً يُشترى بل مسؤولية تُحمل بثقة عشيرته واحترامها له.  مع تسارع التحديث والتمدن  من الطبيعي أن تكون هناك تحولات في طبيعة الحياة الاجتماعية وقد تتراجع سلطة العشيرة لكنها لا تلغي دورها الاجتماعي بل قد تكون حاضرة بقوة ولا سيّما في الفترات التي تشهد ضعفاً في المؤسسات الحكومية. وهنا تبرز الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها: العشائر لم تكن يوماً بديلاً عن القانون، لكنها كانت مكملاً له ومسانداً فحين تضعف الدولة، تتقدم العشائر لحماية المجتمع، لا رغبةً في السلطة، بل سدّاً  للفراغ الذي يهدد أمن الناس، وعندما تستعيد الدولة قوتها، تعود العشائر إلى دورها الطبيعي كركيزةٍ اجتماعية تعزز الترابط، وتحمي النسيج الوطني. صحيح أن هناك حالات شاذة حاولت استغلال هذه المعادلة لصالحها لكن القاعدة كانت واضحة دائماً : لا دولة بدون مؤسسات قوية ولا مجتمع متماسك بدون قيّم عشائرية أصيلة.  في ظلِّ هذه المكانة الراسخة، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن أن تبقى العشائر ركيزة للهوية الوطنية، لا أن تكون عاملاً في تفتيتها؟ هنا يكمن التوازن الدقيق بين الانتماء العشائري والانتماء للوطن، فالعشيرة تمنحُ الفرد شعوراً بالانتماء، لكنها لا يجب أن تكون بديلاً عن الدولة، ولا يمكن أن تتحول إلى إطار ضيق يختزل الهوية العراقية الواسعة. العراقي قد يكون ساعدياً، خزعلياً ، جنابياً….. ، لكنه قبل كل شيء عراقي، وهذا هو الأصل الذي لا يمكن أن يضيع وسط الولاءات الفرعية. في اللحظات الحاسمة من تاريخ العراق، حين كان الوطن مهدداً، لم تكن العشائر مجرد كيانات قائمة بذاتها بل جزءاً من الهوية الوطنية الكبرى، تقدم أبناءها للدفاع عن العراق لا عن اسم العشيرة وحدها.  وحين يُسأل العراقي عن انتمائه، فهو يعتّز بجذوره، لكنه يدرك أن تلك الجذور لا تُزهر إلّا في أرض الوطن، وإن قوّة العشيرة تكمنُ في كونها داعمًة للعراق لا منافسة له. الهوّية العشائرية متى ما بقيت في إطارها الطبيعي كانت مصدر قوة للمجتمع، أما إذا تحولت إلى ولاءاتٍ ضيقةٍ فهي تُضعف الدولة وتُمزّق النسيج الوطني. العشائر ليست مجرّد أسماء تتردد في المجالس، وليست مجرّد سطور في كتب التاريخ. إنها صدى الماضي الذي ما زال يتردد، وشريك في الحاضر، وعنصر أساسي في رسم ملامح المستقبل، لكنها ليست بديلاً عن الدولة.

المشـاهدات 566   تاريخ الإضافـة 25/02/2025   رقم المحتوى 59816
أضف تقييـم