الإثنين 2025/3/31 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 21.95 مئويـة
نيوز بار
ناهدة الرماح معلمة لم تفقد البصيرة يوما
ناهدة الرماح معلمة لم تفقد البصيرة يوما
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

نادرا ما تُتاح لممثل فرصة أداء دور على خشبة المسرح يماثل أو يحاكي شخصيته الحقيقية في الحياة وإن حدث فلا بدّ أن يكون ذلك الممثل نجما شهيرا وذا مكانة كبيرة في فن التمثيل.تلك الفرصة أتيحت للفنانة العراقية الرائدة ناهدة الرمّاح التي غيّبها الموت في بغداد قبل أيام عن 79 عاماً متأثرة بحروق تعرضت لها قبل ذلك بأسبوعين. كان ذلك الدور في مسرحية “صورة وصوت” عام 2009 والتي أخرجها سامي قفطان وشارك في تمثيلها أيضا إلى جانب الممثلة ميلاد سري. أنتجت المسرحية احتفاء بعودة الرماح من لندن إلى العراق بعد غياب 30 عاما وتدور أحداثها حول امرأة عراقية فقدت بصرها فاضطرت إلى مغادرة بلدها والاستقرار في لندن لتواجه هناك ظروفا قاسية بسبب العوز المالي والمصاعب اليومية. وخلال إقامتها في الغربة يتنكّر لها زوجها وينفصل عنها لكنه يعود إليها بعد تعرضه إلى مضايقات أمنية فتستقبله بكل طيبة خاطر ويبدآن باسترجاع الحياة البسيطة التي كانا يعيشانها معا. وكانت ناهدة الرمّاح قد فقدت بصرها ليلة العاشر من يناير1976 إثر تلف أصاب شبكية العين وهي تؤدي دور “زنوبة” في مسرحية “القربان” التي أعدها ياسين النصير عن رواية بنفس العنوان للروائي العراقي غائب طعمة فرمان وأخرجها فاروق فياض.أرسلها رئيس الجمهورية في ذلك الوقت أحمد حسن البكر إلى لندن للعلاج على نفقته الخاصة، وخضعت إلى عمليات عديدة لترقيع الشبكية إلا أنها لم تجدِ نفعا. وحين عادت إلى بغداد استُقبلت استقبالا جماهيريا كبيراً، وقالت في أحد الحوارات الصحافية معها إنه “استقبال لا يمكن وصفه، رُميت عليّ الحلوى والورود وعُزفت الموسيقى الشعبية ونحرت الذبائح. لا أنسى ذلك الموقف أبداً كان أجمل ما مرّ في حياتي منذ وقوفي على خشبة المسرح أول مرة إلى آخر يوم وقفت عليها فيه، كنت أشعر بأني أسعد إنسانة في الوجود”.

 

بغداد وابنتها

 

ولدت ناهدة الرمّاح واسمها الكامل ناهدة إسماعيل القريشي عام 1938، في منطقة الحيدرخانة ببغداد داخل أسرة سياسية ذات توجه يساري، وكان شقيقها الأكبر مسؤولا عن نقابة عمال المطابع. ونشأت ووعت وهي تسمع كلمات مثل “الحرية” و”الدكتاتورية” و”السلام” و”الاستعمار”، وعانت منذ فترة مبكرة من السجون والمعتقلات في مدن الكوت وبعقوبة والموقف العام ونقرة السلمان وسجن النساء.بدأت خطواتها الفنية الأولى بتمثيل شخصية “معصومة” في الفيلم الروائي “من المسؤول” عام 1956 سيناريو وإخراج عبدالجبار ولي عن رواية لأدمون صبري، مؤكدة من خلاله شجاعتها في عالم التمثيل النسائي في العراق يوم كانت الأعراف الاجتماعية في العراق لا تستسيغ عمل المرأة في السينما والمسرح.تدور أحداث ذلك الفيلم الذي مثّل فيه أيضا كاظم المبارك، سامي عبدالحميد، خليل شوقي وفخري الزبيدي، في إحدى محلات بغداد الشعبية ويتناول قضية اجتماعية واقعية هي مشكلة عامل يحب زوجته حبا جما لكنها تصاب بمرض عضال فينقلها إلى المستشفى في ساعة متأخرة من الليل ويطلب من الطبيب الخفر معالجتها لكن الطبيب يقف موقفا سلبيا ما يستثير غضب العامل ويفقده السيطرة على نفسه فيضرب الطبيب بقطعة موجودة على مكتبه ويرديه قتيلا.

 

على خشبة المسرح

 

صعدت ناهدة الرمّاح على خشبة المسرح لتمثّل في مسرحية “الرجل الذي تزوج امرأة خرساء” لأناتولي فرانس وإخراج سامي عبدالحميد وتقديم فرقة المسرح الفني الحديث. كانت هذه المسرحية هي العمل الأول الذي يخرجه سامي عبدالحميد.واصلت بعدها العمل في مسرحيات عديدة مع فرقتها مثل “أنا أمك يا شاكر”، “المفتاح”، “ستة دراهم”، “إيراد ومصرف” ليوسف العاني، وإخراج سامي عبدالحميد، “الخرابة” إخراج قاسم محمد وسامي عبدالحميد، “مسألة شرف” لعبدالجبار وليّ وإخراج بدري حسون فريد، “النخلة والجيران”، “أنا الضمير المتكلم”، “بغداد الأزل بين الجد والهزل” “نفوس”، لقاسم محمد، مونودراما “الصوت الإنساني” لجان كوكتو وإخراج روميو يوسف، “الخال فانيا” لتشيخوف، “عقدة حمار” لعادل كاظم، “القناع و”حفلة زواج” مع طلبة معهد الفنون الجميلة وإخراج إبراهيم الخطيب، و”القربان” التي فقدت خلالها بصرها. ولا يزال دورها في مسرحية “النخلة والجيران” (1968) مع زميلتها الفنانة الرائدة زينب محفورا في ذاكرة الأجيال.

 

الظامئون إلى العراق

 

في السينما مثّلت فيلم “الظامئون” (1972) للمخرج محمد شكري جميل عن رواية الكاتب العراقي عبدالرزاق المطلبي، مع فاطمة الربيعي، خليل شوقي، سامي قفطان، فوزية عارف، طالب الفراتي، غازي الكناني، غازي التكريتي، سلمان الجوهر، وزاهر الفهد، وطافت مع الفيلم والمخرج في مهرجانات سينمائية دولية منها “برلين” و”موسكو”، وقد فاز الفيلم، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما والمسرح، بجائزة النقاد السوفييت ويصوّر معاناة الفلاح العراقي ومشكلة سقي الأرض البعيدة عن مصادر المياه.مثّلت في فيلم “يوم آخر” للكاتب الدرامي صباح عطوان والمخرج صاحب حداد (1979) مع خليل شوقي، شذى سالم، بهجت الجبوري، عواطف نعيم، قائد النعماني، هاني هاني، وطالب الفراتي. ويجسد الفيلم الصراع بين الإقطاع والفلاحين في العهد الملكي من خلال شخصية الشيخ الإقطاعي الذي يتردد على خيام الغجر فيُقتل هناك، ما يدفع والده إلى الانتقام منهم، فيتصدى له الشاب سعيد ويقتل زوجته ثم يهرب من الإبادة الجماعية التي تتعرض لها قبيلته ويحرّض أبوه الفلاحين على التمرد ضد الشيخ الذي أحرق محاصيلهم وأخذ يستغلهم ببشاعة ويتمكن مع جماعة منهم من القضاء عليه.وأثناء إقامة الرمّاح في لندن أخرجت عدداً من المسرحيات للطلبة العراقيين منها مسرحيتا “الصمود” و”الدراويش يبحثون عن الحقيقة”.أما في التلفزيون فقد مثّلت في تمثيلية “مسألة خاصة في مكتبة عامة”، ومسلسل “الباشا”، تأليف فلاح شاكر وإخراج فارس طعمة التميمي، وهو يتناول حياة الزعيم العراقي نوري السعيد الذي يُقتل إثر انقلاب 14 تموز وتُسحل جثته وتُقطّع أوصالها على يد حشد غاضب متحمّس للانقلاب أو الثورة حسب رأي البعض.

 

في المعترك السياسي

 

في عام 1963 خرجت ناهدة الرمّاح مع المتظاهرين المتوجهين من شارع الرشيد ببغداد إلى وزارة الدفاع لنصرة الزعيم عبدالكريم قاسم الذي أطاح به البعثيون في فبراير. وعن تلك التجربة تقول “في ذلك اليوم خرجت مع الناس إلى شارع ‘الرشيد’ تجرفني الجموع التي زحفت إلى مبنى وزارة الدفاع من أجل نصرة الزعيم. شاهدت بأم عيني الجثث تتساقط كأوراق أشجار الخريف، عندما فتحت الدبابات النار على المتظاهرين ليسقط منا الكثيرون. بعدها لاحقني (الحرس القومي)، فاضطررت إلى تسليم نفسي إلى أحد مراكز الشرطة لأنها أرحم بكثير من الدخول إلى أقبية ومعتقلات الحرس القومي. مكثت في سجن النساء أكثر من ثلاثة أشهر بتهمة انتمائي إلى منظمة أنصار السلام ورابطة المرأة العراقية. وكنت أمثل شخصيات مسرحية وراء القضبان ما جعل السجينات معي ينظرن إليّ باحترام”.فصلت ناهدة الرمّاح بسبب مشاركتها في التظاهرة من وظيفتها التي كانت تشغلها في أحد البنوك لكنها ظلت متعلقة بالمسرح فرجعت إليه بعد إعادة تشكيل فرقة المسرح الفني الحديث وأعيد تعيينها بعد عام 1968 موظفه في مصلحة السينما والمسرح حيث شملها قرار إعادة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم الذي صدر عن الدولة آنذاك. كما عملت في قسم برامج الأطفال في إذاعة بغداد وكانت تعدّ نصوصا تمثيلية. وفي عام 1970 مُنعت من دخول مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لأنها تجاهلت صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك ولم تسلم عليه أثناء حضوره إلى المؤسسة ومروره من أمامها.ومع تأزم الوضع السياسي في العراق إثر تفكك الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي وتزايد اعتقالات الشيوعيين غادرت البلد في بداية عام 1979 رفقة أسرتها بقلب مجروح وعين دامعة بعد تعرضها إلى مضايقات كثيرة، وتنقلت بين لبنان وسوريا ودول أوروبية إلى أن استقرت في بريطانيا عام 1983. ورغم فقد بصرها فإنها لم تفقد بصيرتها وواصلت مسيرتها الفنية في بلاد الغربة.حفّزت معاناة ناهدة الرمّاح الكاتب والمخرج العراقي جواد الأسدي على كتابة نص مسرحي عنها بعنوان “آلام ناهدة الرمّاح”، نُشر أولا في مجلة “نزوى” العُمانية سنة 2002، ثم صدرت في كتاب عن دار “كنعان” السورية في السنة التالية.في المسرحية التي تدور أحداثها في بيت قديم بثرياته ومراياه وجدرانه وشخصيات ينتابها جوع قديم إلى دروب البلاد التي اقتلعوا منها تظهر الممثلة بسنواتها الست والستين من دون زوج تنظر إلى ماضيها المسرحي بفرح والى حاضرها بسخط وتتفرج على التلفزيون بشكل دائم، وتنتظر ابنها عبدالله الذي ذهب إلى الحرب ولا تزال تمني نفسها برجوعه.أما ابنتها “شفيقة” التي تعيش معها فكان يُفترض أن تصبح مغنية مشهورة لكنها تفشل بسبب تردّي ظروفها ونفسيتها وينكسر حلمها ويُطلقها زوجها، كما أمها، فتغدو امرأة مهزومة تكاد تعجز عن رعاية ابنتها الصغيرة “نورا” التي تنتصب كملاك في فضاء بارد الأبواب.هكذا يبدو بيت الممثلة الرمّاح في لندن جامعا لثلاثة أجيال من الإناث بوجود الجدة وابنتها وحفيدتها تحت سقف جليدي واحد من دون رجال. فهؤلاء إما تائهون معذَّبون (عامر عشيق شفيقة)، أو غائبون (زوج ناهدة)، أو في طريقهم إلى الغياب بسبب جرّهم عنوة للمشاركة في الحرب (الابن عبدالله).إنه التيه كما يقول عشيق شفيقة متألماً. لكنّ دخول المخرجة السينمائية “ماريا الفاجر” على حياة الأُسرة يفجّر مواجع عتيقة، فهي تريد أن تشرك الممثلة المنسية في فيلم تلعب فيه دوراً يبوح بأحاسيس امرأة فقدت ولدها في أتون الحرب. وبينما تتهيأ ناهدة لاستقبال المخرجة التي ستخرجها من ظلمة العمى والعزلة تهزّ ابنتها شجرة البؤس الكامنة فيها فيختلط لديها التشاؤم مع أمل بزغ وطال انتظاره. وفي أثناء الصراع المحتدم يصل خبر وفاة ابنها، فتنتحر أخته “شفيقة” وتبقى مع الحفيدة ليس لها غير ذكرى “رائحة العجين” والغرق في صوت كورس يأتيها من بعيد وصدى موسيقى وغناء، وفي البال “نخلة وجيران” ومسرح جميل كان ذات يوم في بغداد.حاول الأسدي المسكون بعذابات الاغتراب والضياع والجحود أن يبتعد في المسرحية عن السيرة الذاتية لناهدة الرمّاح إلى كتابة متخيلة ذات منحى سوداوي يغلق كل النوافذ والأبواب ويحكم الخناق على شخصياته في حلكة مرهقة مدمرة توجد قواسم مشتركة مع المنفيين في الصقيع والموت بحثاً عن البلاد المستحيلة.

 

عواد علي

المشـاهدات 74   تاريخ الإضافـة 24/03/2025   رقم المحتوى 60919
أضف تقييـم