
![]() |
قصة قصيرة العودة الى بغاديد |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
حيدر الحجاج في زقاق أمام أحد أسواق بغداد، حيث يتكرم الشتاء بهطول يجعل المطر يبعث الروح بالتراب ليولد الطين من جديد، وتلتحف الجدران بأثر السنين، كرى دكتور نبهان جلسته على حافة الرصيف، ويداه المتشققتين تمسكان بفرشاة عتيقة وقطعة قماش بالية، يُنظف الأحذية كما لو كان يغسل وجوهًا مرّ عليها الزمن، وكأن الطين الذي يزيله ليس سوى غبار العصور العالقة في الأقدام. كان المطر ينهمر بهدوء، لم يغسل الطين بل زاده التصاقًا بالأرض، وكأنهما اتفقا على ألا يتفرقا. السوق يموج بالباعة والمنادين والزبائن العابرين على عجالة، أما دكتور نبهان فبقي حيث هو، يلمع الأحذية برتابة، كأنما كل حذاء هو فصل في كتاب قديم، وكل بقعة طين هي سطر محذوف من حكاية منسية. مرت به أم أحمد، امرأة انحنى ظهرها كغصن حزين، تحمل سلة ثقيلة من الخضار، توقفت للحظة، أزاحت المطر عن وجهها بطرف عباءتها، ثم قالت بصوت تخالطه نبرة عتاب وأسى: • يا دكتور نبهان، المطر يهطل فوقك والطين تحتك، وأنت كما أنت، جالس لا تتحرك. أما آن لك أن تخرج من هذا الوحل؟ ظل دكتور نبهان ينظف الحذاء الأسود بين يديه ببطء، كأن الكلمات لم تصله بعد، ثم قال: • يا أم أحمد، الطين لا يخيف من يعرف الأرض، نحن أبناء هذه الأرض، والطين منا، أما المطر فهو عابر مثل الطيور المهاجرة. زفرت أم أحمد وكأنها سمعت ما لم تفهمه، لكنها مضت تاركة وراءها كلماتها معلقة في الهواء مثل قطرات المطر. لم تمضِ سوى لحظات، حتى تقدم شاب، بملابس نظيفة وعباءة فاخرة، وحذاء لامع يشبه المرآة بزي بدوي ويعتمر العقال، كان هارباً من ورطته التي طرق بابها بوعي نصف غائب، لأنه قدم الى بغداد يبحث عن المتعة التي افتقدها في وحشة البوادي ليقع في يد كبير القوادين ويحتال عليه في سرقة اليسير من أمواله قبل الوقوع في المحظور، وقف أمام دكتور نبهان ، وكأنه ينظر إلى تمثال قديم، وقال بنبرة تحمل استنكارًا مستترًا: • يادكتور نبهان، ما زلت هنا مثل كل مرة تشهد على خيبتي ولم يزل المطر يبلل رأسك والطين يعلو قدميك، والناس يتحركون للأمام، ألا تخشى أن يسبقك الزمن؟ رفع دكتور نبهان عينيه قليلًا، ثم عاد إلى مسح الحذاء وقال بهدوء يشبه رقرقة الماء على الحجارة: • ليس كل من يتحرك يمضي للأمام، يا بني، أحيانًا تركض لتبتعد، لا لتقترب. ارتبك الشاب؛ متوقعاً ان الدكتور استقرأ خيبته المكررة، لكنه شد من نبرته وقال: • الحياة ليست هذا الرصيف، الناس يبنون القصور، يرتقون فوق الأرض، لا يلتصقون بالطين. أعاد دكتور نبهان النظر إلى الحذاء، رأى فيه انعكاس وجهه لا لمعانه، ثم مسح عنه قطرة ماء وسأل: • وماذا تفعل القصور حين يأتي السيل؟ الجدران العالية لا تصمد بلا أساس، والقصور التي تعلو بلا أرض، تهوي بأصحابها أولًا. أطرق الشاب للحظة، لكن صوته عاد متماسكًا، كأنما يحاول انتزاع يقين ما: • الناس الآن لا يفكرون بالأرض، بل بالأفق، الأرض تبقيك في مكانك، لكن الأفق يجعلك تمضي. ابتسم دكتور نبهان، لكنها لم تكن ابتسامة سخرية، بل كانت كمن يتذكر سرًا قديمًا وقال: • الأفق، يا بني، مثل الوعود الكبيرة، يبتعد كلما اقتربت، بينما الأرض لا تخدعك، الطين قد يلوث قدميك، لكنه يحمل جذورك، أما الأفق فلا يُطعم ولا يُسقي. تذكر حينها المشهد الذي قلب حياته رأسا على عقب في صالة العمليات الكبرى وهو يحاول انقاذ حياة زوجته نسرين التي فارقت الحياة بين يديه، اثر حادث مروري مروع، ليعتزل بعدها عالم الطب ويلوذ بالشوارع لجمع شتاته الذي فاض مع روح نسرين ورحه التي هامت مع ولده يقين الذي هاجر خارج البلاد وانقطعت اخباره ليفقد عقله الواسع والمشارط التي كان يتفنن فيها لانقاذ حياة الناس ويتحول الى هذا العالم الذي فتك بأكبر جراح ويتحول الى ذلك الركن الاسود من جادة الحياة الموغلة بالأسى..... سكت الشاب للحظة، عيناه معلقتان بحذائه اللامع، وكأن الكلمات العالقة في الهواء بدأت تترك أثرًا في جلده لا في نعله. ثم قال أخيرًا: • لكن الناس يصعدون، يبنون، يتسابقون، لا يقفون في مكانهم. رفع دكتور نبهان رأسه، وصوته هذه المرة كان أثقل من المطر: • من يبني فوق الطين دون أن يفهمه، سيسقط حين تهب الريح، القمم لا تصمد بلا رواسي، ومن لا يعرف موطئ قدمه، لن يصل إلى الأفق ولو جرى حتى انقطعت أنفاسه. ظل الشاب واقفًا، كأن شيئًا في داخله قد تصدع، أراد ان يعترف لنبهان بسيل خطاياه، لكن رغبة في تجديد رغباته الجامحة منعته ثم استدار ومضى، لكن خطواته لم تكن كما جاءت، كان يجر خلفه طينًا لم يكن موجودًا حين وقف لأول مرة. أما دكتور نبهان، فقد عاد إلى عمله، كأن شيئًا لم يحدث. يمسح الطين بالطين، يغسل الأحذية كما لو كان يغسل وجوهًا غاب أصحابها، يرى في كل نعل أثراً لشخص رحل، وفي كل بقعة طين تاريخًا مدفونًا، وفي كل صمت ظلًا لحقيقة لا تُقال، غير انه نهض مصدوما وهو يرى البدوي التائه يتعرض لحادث سير مطابق تماما للحادث الذي سببه جنونه. |
المشـاهدات 94 تاريخ الإضافـة 05/04/2025 رقم المحتوى 61211 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |