السبت 2025/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
نيوز بار
محمّد مهدي البصير: شاعر الثورة وذاكرة الوطن بين النضال والتهميش النقدي!!
محمّد مهدي البصير: شاعر الثورة وذاكرة الوطن بين النضال والتهميش النقدي!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

اشارات توضيحية/ شوقي كريم حسن

إهمال النقد العراقي للشاعر محمد مهدي البصير يعود إلى عدة عوامل متداخلة. النقد العراقي في النصف الثاني من القرن العشرين تأثر بالحداثة، وتركز على الشعر الحر والتجريب، مما جعله يتجاهل الأشكال التقليدية التي كتب فيها البصير. ظهور روّاد الحداثة مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة جعل الأضواء تسلط عليهم، بينما عُدَّ شعر البصير امتدادًا للكلاسيكية.إضافة إلى ذلك، لعبت التحولات السياسية دورًا في إزاحة البصير عن المشهد النقدي، فقد ارتبط اسمه بثورة العشرين، ومع تغيّر الأولويات السياسية والثقافية، قلَّ الاهتمام به. كما أن النقد في العقود الأخيرة أصبح أكثر اهتمامًا بالسرد، مما جعل الشعراء التقليديين أقل حضورًا في الدراسات النقدية.عامل آخر يتمثل في غياب الدراسات الكافية عن البصير، حيث لم تُكتب عنه دراسات معمّقة كما حدث مع غيره من الشعراء، وربما يعود ذلك إلى ضعف التوثيق الأدبي وعدم وجود مبادرات تهتم بتراثه. كما أن بعض شعره كان ذا طابع سياسي ومرتبطًا بمرحلة معينة، مما جعله أقل جاذبية للنقاد الذين يبحثون عن نصوص تتجاوز البعد الزمني.رغم ذلك، فإن إعادة قراءة البصير ضمن سياقه التاريخي والأدبي قد تفتح المجال لإنصافه، وتسليط الضوء على مكانته كشاعر ترك بصمة في تاريخ العراق الثقافي والوطني. إهمال النقد العراقي للبصير يعكس مشكلة أوسع تتعلق بكيفية تعامل النقد مع الرموز الأدبية التي أسهمت في تشكيل الوعي الوطني، لكنها لم تواكب التحولات الأسلوبية التي اجتاحت الشعر العربي. فقد بقي شعر البصير في إطار العمود التقليدي، ولم يقترب من التجديدات التي أحدثها رواد الشعر الحر، مما جعل النقاد يميلون إلى الأصوات التي قدمت ثورات أسلوبية على مستوى الشكل والمضمون.من ناحية أخرى، فإن المؤسسات الثقافية العراقية لم تولِ اهتمامًا كافيًا لإعادة نشر وتقييم أعمال البصير، فغابت طبعات جديدة لدواوينه، ولم يُدرَّس شعره بشكل معمق في الجامعات، على عكس شعراء آخرين نالوا اهتمامًا نقديًا مستمرًا. هذا الإهمال لم يكن ناتجًا فقط عن تغير الذائقة الشعرية، بل أيضًا عن عدم وجود مشاريع توثيقية تهتم بإعادة قراءة الأدب الوطني ضمن سياقات جديدة.إضافة إلى ذلك، فإن النقد العربي عمومًا يعاني من نزعة آنية، حيث يركز على الأسماء التي تثير جدلًا أو ترتبط بالاتجاهات الأدبية السائدة، بينما يهمل الأسماء التي يُنظر إليها باعتبارها جزءًا من الماضي. البصير لم يكن مجرد شاعر وطني، بل كان مفكرًا وأديبًا يمتلك رؤية سياسية وأدبية واضحة، لكن هذا الجانب الفكري لم يكن مغريًا للنقاد المعاصرين الذين يبحثون عن نصوص تتسم بقدر من الغموض والانفتاح على التأويلات المتعددة.إنصاف البصير اليوم يتطلب إعادة النظر في دوره ليس فقط كشاعر ثورة العشرين، بل كمبدع كان يحمل هموم عصره بلغة قد تكون تقليدية في ظاهرها، لكنها كانت تمثل موقفًا وجوديًا وثقافيًا واضحًا. إعادة نشر أعماله وتحليلها في ضوء التحولات الأدبية والسياسية قد تتيح رؤية جديدة تسهم في استعادة مكانته التي يستحقها في المشهد الثقافي العراقي.

إعادة الاعتبار لمحمد مهدي البصير ليست مجرد مسألة نقدية، بل هي استعادة لصوت شعري كان يمثل وجدان العراق في واحدة من أهم محطاته التاريخية. لم يكن البصير مجرد شاعر تقليدي ينظم في إطار العمود الشعري، بل كان شاعرًا ثوريًا حمل هموم العراق في قصائده، وجعل الشعر وسيلة للتحريض والتعبير عن روح المقاومة. إن إهمال النقد له يعكس خللًا في قراءة الشعر الوطني الذي لم يكن مجرد توثيق للأحداث، بل كان صرخة تعبر عن وجع شعب بأكمله.

في قصيدته المشهورة عن ثورة العشرين، كان البصير صوت الجماهير التي خرجت ضد الاحتلال البريطاني، إذ يقول:

“ثـارَ العراقُ ونحـنُ كنّـا ألسُـنًا

تَنقُـلُ الأنبـاءَ للأُذْنِ الصَّمَـمْ”

هنا يتحدث عن دور الشعراء في إيصال صوت الثورة، فالكلمة لم تكن مجرد تعبير أدبي، بل كانت وسيلة نضال. في هذا البيت، يختزل البصير مفهومه للشعر كقوة تغييرية، لا كترف لغوي.

ويؤكد في موضع آخر:

“هُـبّي فِـدَاءَكِ دمُ الشهيـدِ وقـد حَـبـا

بِـدِمَـائِـهِ حَـدَبَ الفُـراتِ وَسَـامِـهُ”

هذا التصوير الملحمي يعكس رؤيته للشهادة والوطن، حيث يتحول الفرات إلى شاهد على التضحيات، وتصبح دماء الشهداء وسامًا يُوشِح جسد العراق.لكن البصير لم يكن فقط شاعرًا ثوريًا، بل كان أيضًا شاعرًا تأمليًا، عبر عن هموم الإنسان العراقي ومعاناته مع الاحتلال والاستبداد. في قصيدته “شكوى الأعمى”، التي كتبها وهو يعاني من فقدان البصر، يعكس إحساسه العميق بالمأساة:

“يا منصفَ المظلومِ لا تَنسَ العُمى

إني إلى نورِ الهدى مُحتاجُ”

هذه الأبيات ليست مجرد شكوى شخصية، بل تأمل في الظلم والمعاناة، سواء كانت معاناة ذاتية أو معاناة وطنية.إهمال النقد للبصير ربما يعود أيضًا إلى أن شعره بدا وكأنه محصور في مرحلة معينة، لكنه في جوهره يحمل قيمًا إنسانية خالدة. إنصافه اليوم يتطلب إعادة قراءته بعيدًا عن التصنيفات الجاهزة، والنظر إليه كشاعر كان يحمل رؤيا، وكان شعره تجسيدًا لصوت العراق الذي ما زال يبحث عن الحرية. إعادة قراءة محمد مهدي البصير تكشف عن شاعر لم يكن مجرد صوت ثورة عابر، بل كان ضميرًا يعبر عن وجدان العراق في لحظات تحوله الكبرى. إن إهماله نقديًا لم يكن بسبب ضعف في تجربته، بل بسبب مزاج نقدي مال إلى التجديد والتجريب، متجاهلًا الأثر العميق الذي تركه الشعر الوطني في تشكيل وعي الجماهير.البصير، الذي فقد بصره في شبابه، لم يفقد رؤيته الشعرية العميقة، بل تحولت تجربته إلى مزيج من التحدي والمقاومة، جعلت شعره يضج بالقوة والإصرار. في قصيدته “رثاء الشباب” يعبّر عن هذه الروح:

“يا ليتَ شعري، هل يعودُ شبابُهُ

فأراهُ يزهو في الوهادِ وفي الذُرى”

في هذه الأبيات، يتجاوز البصير البعد الشخصي لفقدان البصر، ليجعل من الشباب رمزًا للحيوية والحلم الذي يسعى لاستعادته، تمامًا كما كان يسعى لاستعادة حرية العراق من الاحتلال.

المشـاهدات 33   تاريخ الإضافـة 19/04/2025   رقم المحتوى 61784
أضف تقييـم