
![]() |
السرد البوليسي بوصفه كشفاً قراءة في رواية (رقصة تحت ظل فراشة) |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
د. سمير الخليل تمثل رواية (رقصة تحت ظل فراشة) للروائي (عمار نزار) تجربة شبابية في كتابة الرواية البوليسية القصيرة لما أنطوت عليه من غموض وجرائم وصراع خفي بين الشخصيّات ممّا جعل السرد يكتسب ملامح وتوّجهات التشويق، والإثارة واستقطاب المتلقي لمتابعة خيوط وأبعاد الأحداث والشخصيّات لمعرفة الحقيقة الكاملة التي يؤجّلها الكاتب لخلق حالة من التشويق والتتبع والسير مع مسارات الغموض والغرابة التي مثلّت أحد خصائص هذه السردية البوليسية. انطلاقاً من هذه المعطيات والتوصيفات فإن العمل البوليسي ينطوي على دقة، وترتيب على مستوى الحبكة والبداية والذروة والنهاية، وعلى مستوى تقديم الشخصيّات والإيهام بها، وخلق حالة من القلق واللبس والشكوك والبحث عن القاتل أو المجرم الحقيقي وسط هذا الصراع والإيهام واختلاط المواقف والنيّات، ولعلّ هذا النمط من الروايات يتطلّب بطبيعة الحال القدرة على نسج الحبكة وتعميق مسار الفعل البوليسي والأجواء التي تثير الخوف والتوّجس والقلق فضلاً عن التمكّن من رسم تراتبية السرد وعدم الكشف المبكّر عن أيّة معلومة تضيء وتكشف الأسرار، فتوافر الأحداث البوليسية والغموض والأسرار وإثارة ذهن المتلقي، وتوافر التشويق والجذب، وطريقة تقديم الأحداث والشخصيّات وتواتر الأحداث المثيرة كلّها ترتبط بخصائص البناء الفني للسرد البوليسي الذي يختلف اختلافاً كلّياً عن أنماط السرد الأخرى. إنَّ الشكل الفني والبناء الروائي يتحول إلى دال ومدلول، أي أن الموضوع أو الثيمة تتجسّد من خلال البنية السرديّة ويصبح الشكل والمضمون في توحّد وتناغم يعبّر كلّ منهما عن الآخر، وهذا يكشف عن أهميّة ومركزيّة البنية الفنيّة أساساً، ومن ثم يفكر الكاتب بملء فضائها بما يؤيد التركيز أو التوكيد عليه من قيم وأفكار ودلالات، وبما يجعل الرواية البوليسية لا تخلو من تلك السمات، وثيمات انسانية تسهم في الكشف عن الواقع المأزوم والصراع البراغماتي، والاجتماعي والسايكولوجي والطبقي بين الشخصيّات ويصبح المعنى المتوخّى كامناً وراء سلسلة من الجرائم والصراعات وأفعال الشر لكي يكشف العمل في نهاية المطاف عن ثنائية الخير والشر، وغالباً ما يرتكز الروائي البوليسي على قاعدة العدالة الشاعرية حين يتعرض الأشرار للعقاب وينال الأخيار الموقف الإنساني وعمل الخير والسلوك السوي، وعلى وفق هذا المنحى نلحظ أن السرد البوليسي يقوم على تمركز الصراع بين الأخيار والأشرار، وعلى الرغم من قلة تجارب وتوّجهات الكتابة البوليسية في الأدب العربي عموماً، لكنّها بدت في المرحلة الأخيرة تجد من يقصدها ويختارها ويوظفها، بسبب أنّ مأزوميّة الواقع المعاصر تنطوي على غموض وتأزّم وشرور تجعل الكاتب يميل إلى توظيف النسق البوليسي في الكشف عن الاختلال والنكوص والزيف. ولعلّ هذه التوجهات هي التي تجعل السرد البوليسي ليس مجرّد تسلية ومعالجة سطحية ومساحة لحلّ الألغاز، ولعبة للغموض المجرّد، بل حتى أعمال (أجاثا كريستي) لا تخلو من إدانة للشر والكشف عن الواقع الملتبس والتركيز على أن الشر لابُدَّ أن يندحر، ويتحقق العدل، ويسود الأمن، وإن كشف الجريمة يؤكد قاعدة انعدام فكرة الجريمة الكاملة وانعدام استمرار الشر المطلق. قدمنا هذا الإستهلال كمهاد أول قبل تناول أو تحقيق مقاربة تحليلية للرواية التي استخدم الكاتب لمسة أو (ميكانزم) الإيهام في (بنية العنوان) بوصفه الدال المركزي أو الإضاءة الأولى فقد أوهمنا العنوان بنسقه ومدلوله الشاعري، وكأنه عنوان لمجموعة شعرية، وليس لرواية بوليسية قصيرة، وقد عكس صورة شعرية مضمّخة بروح رومانسية، وخيال جامح من خلال الاقتران الدلالي الشاعري بين الفراشة والرقصة، والظلال التي بينهما، مع ملاحظة الخطأ في كتابة مفردة (الظل) بصيغة (الضل) في العناوين الداخلية، والفرق على مستوى المعنى يختلف بين المفردتين بطبيعة الحال. والكشف عن الاشتغال وترسيخ الأجواء البوليسية، بدأت الرواية باستهلال يجسّد حركة هروب، وترقّب ومطاردة تعلنها الشخصيّة الرئيسية في الرواية متمثلة بـ(أنس) وتجسّد أجواء الخوف والحركة والغموض لجذب انتباه المتلّقي منذ البدء، "انطلق بخوف.. القدمان تركضان بتآزر متواصل مع ايقاع شهيق مسموع الأنفاس، تتسابق مع نبضات قلبه المتسارعة، يبدو الزمن قد كسرت عقاربه وتلاشى في بعد غير محدّد، مشهد غمره طقس غريب، عندما اختلطت الأمطار بجريان التفكير، وهمسات المطر تندمج مع همهمات الريح، باغتته نفسه في لحظة غفلة، وأعصابه الخائفة تسبقه". (الرواية: 5). وتتكشف ببطء ملامح اللوحة التفاصيلية سيرورة الأحداث، وتكشف من خلالها طبيعة الشخصيّات المحيطة بـ(أنس) الذي يعيش في قصر كبير في حي اليرموك في بغداد معزولاً في غرفة في الطابق الثاني لا يدخل عليه سوى (جيهان) زوجة أبيه (عبد الله) إنها هي الوحيدة التي ترعاه، وتقوم بحقنه بعلاج لمرضه الجلدي الغامض، وليس في هذا القصر الكبير سواهما، وخادمة وفلاّح يرعى الحديقة. يبدو (أنس) مريضاً وسجيناً معاً وتحت رعاية (جيهان) التي يسميها (خالتي) ويعيش تحت مراقبتها ولا تسمح له بالخروج إلاّ لأمر ضروري، لكنّ شخصية (أنس) تنطوي على غموض فهو يعشق الحياة ويود الخروج والانطلاق والتمرّد على هذا الواقع: "يتخيل أنه يرى عوالم أخرى خارج النوافذ المغلقة، ويتساءل إن كانت هذه العوالم أكثر اشراقاً من الحياة المعزولة التي يعيشها، ويشعر بأنه فريد من نوعه، ولا يمكن لأي شخص آخر فهم ما يشعر به، فيبدو مفقوداً في غابة كبيرة وسط الصمت الهاديء الذي يحيط به". (الرواية: 13). وعلى الرغم من أن طبيعة السرد على وفق البناء الفنيّ قد ارتكزت على السرد الموضوعي أو السارد العليم غير أن الكاتب يتوغل في رسم ملامح الشخصيّة وشعورها وقلقها وتوقها الداخلي، ويبدأ (أنس) بهواجس التخلص من هذا الطوق المحكم ورقابة زوجة الأب الشديدة، فيقرر الخروج إلى الفضاء الخارجي في فضاءات شارع السعدون وأزقته ويلتقي بشخصيّة (جابر) المتسوّل الذي يقوده إلى التعرّف على شخصيّة محورية أخرى هي (ريحانة) التي تدير محلاً لبيع الزهور وما لبث إن وقع في حبّها والتعلّق بها. ويكتشف أنها فتاة طيبة ورقيقة وتدمن قراءة الكتب، لكنها تعيش واقعاً مأساوياً بسبب شخصيّة الأب القاسي والمضطرب نفسياً لكونه يدمن المقامرة حيث أضاع كل شيء بما فيه البيت الذي كانوا يملكونه، وهم الآن يعيشون في شقة ضيقة مع أمها المستلبة: "رجع إلى غرفته وهو يفكر بأمر يجب عليه تنفيذه، الأمر الذي قد يؤثر على مسار حياته، كان حمل الأفكار ثقيلاً جداً، فهو يعرف أنه وسط كون من الألم والتناقضات، في عالم مليء بالأشواك، يحمل في صمت عميق مشاعره الجامحة تجاه (ريحانة) والسر الذي يخفيه في أعماق قلبه، ففي كل مرّة يلتقيها يبذل قصارى جهده ليخفي حبه خلف وجه اللامبالاة المزيف، يتحسّس أنس كل حرف وكل كلمة يتبادلها معها، ويراقب تعابير وجهها بدقة...". (الرواية: 49)، وحين يفصح عن حبّه لها ويصارحها بشكل مباشر وصادق تقف هي في لحظة تأمّل وارتياح، ولكنها لا تعرف كيف تجيبه عن الواقع الصعب والشائك الذي تعيشه مع أب قاس، ووضع أسري مرتبك مما يجعلها تكسب العيش ببيع الزهور، أو أنها بالحقيقة تهرب إلى عالم الكتب والزهور من مأساة هذا الواقع الاجتماعي المحتدم بالصراع والتناقض والخواء. ويحدث ما لم يكن بالحسبان حين تسمع أم (ريحانة) حواره الصريح واعترافه بالحب لابنتها فتمسك به وتساومه على أمر خطير وإلا فإنها ستفضحه وتشكوه إلى الشرطة، وبعد أن شرحت له حالتهم من العوز والفقر وقسوة الأب ورغبتها بالتخلص من هذا الزوج بأيّة طريقة: "أطلقت حسرة تدلّ على أنها لم تتخذ القرار إلاّ بعد تفكير طويل، وقالت: - اقتل زوجي عندما سمع أنس طلب أم ريحانة، شعر بصدمة عميقة تجلّت في تجمّد جسده وكأن الزمن قد توقّف". (الرواية: 59)، ولكنّه لشدة حبه وتعلّقه بريحانة يوافق على هذا الأمر ويخبرها بأنه سيقتله بطريقة غريبة وسهلة أي بمجرد لمسة فإنه مصاب بمرض وسينقله إليه وسيموت بعد اسبوعين، وعليك أن تعامليه بطريقة حسنة حتى تنجح خطة الخلاص منه، وتتصاعد الأحداث المؤطرّة بالغموض والغرابة، وبحسب النسق البوليسي المعهود، فيتم قتل المتسول (جابر) وتشير أصابع الاتهام إلى (أنس) حيث كان معه قبل موته، ومن خلال فحص بصمات السكين التي قتل بها وجدوا أنها تطابق بصمات (أنس) مما جعله يساق إلى الشرطة واثبات الاتهام وإحالته إلى المحكمة، ويقع الخبر على مسامع زوجة الأب التي تتحرك مع حركة الأحداث الدراماتيكية، وقبل هذا الحدث كان هناك حدث آخر تمثّل بوجود شخص غامض يلاحق أنس اينما ذهب ويطارده، ويحدث الصدام بينهما، ويتصاعد حدث غير متوقع، وهذه خصيصة من خصائص السرد البوليسي حيث شعرت أم ريحانة بالندم على التفكير بالتخلص من زوجها لاسيما وأنه بعد أن لمسه أنس قد عاد إلى سيرته وطيبته وتعامله الحسن معها ومع ابنته، مما جعلها تفكّر بالذهاب إلى المحكمة ورؤية أنس واخباره بأنّها عدلت عن قتل زوجها وتتمنى أن يعيش معها، ومع ابنتها بعد أن تغيّرت طباعه وعاد إلى سلوكه السوي، لكنّ أنس لم يخبرها بشيء، وظلت هي تفكّر بقلق وهي تراقب زوجها الذي لم تظهر عليه علامات الضعف أو الموت بعد، وتجد (ريحانة) نفسها في موقف مأزوم وصعب وهي ترى الإنسان الذي أحبّها وأحبته وقد سيق إلى المحكمة لينال العقاب وقد أدركت بعقلها وحسها ومعرفتها بأن (أنس) من الإستحالة أن يكون هو القاتل، مما جعلها تغامر وتذهب إلى الحي الذي يسكنه، وتدخل إلى البيت في ساعة لم يكن فيه أحد، وهنا تكتشف أسراراً وأموراً تثير الرعب والاستغراب، وتكون المفتاح الرئيسي الذي يكشف أسرار الأزمة وغموض الموقف، وكل ما يتعلق بحياة (أنس) في قصره وما يعانيه من وحدة أو مرض أو رقابة (جيهان) الغريبة، وعثرت على صندوق خشبي غريب: "كان بداخل الصندوق قاطع خشبي يقسم حوضه إلى نصفين: الأوَّل مليء بقفازات تشبه تلك التي يرتديها (أنس)، وقطع قماش من الصوف، وقفازات طبيّة أيضاً، أمّا القسم الثاني فكان يحتوي على حقن مرتَّبة في أكياس تذكّرت حين قال لها أنس أنه يأخذ دواء عن طريق الحقن ليحمي نفسه من يديه...". (الرواية: 77)، وتكتشف أن في مطبخ القصر هذه المواد الكيميائية التي تحتوي على مستحضرات قاتلة وتدرك بعقلها أن العقل المدبّر لكل هذه الألغاز والقتل هي زوجة الأب. وتنتظر يوم المحاكمة لتقدّم الأدلة الواضحة على كل أسرار هذه المرأة القاتلة التي تريد التخلّص من ابن زوجها (أنس) لكي تنعم بالميراث والقصر، وفي يوم المحكمة تتضّح معالم هذه الأسرار بعد حوار وجدل مع القضاة، وتطوّع (ريحانة) بالدفاع عن (أنس) واثبات البراءة ويحضر الفلاح والبستاني ويشهد بأنّه قد شهد في يوم ما حريقاً في البيت قبل سنوات واكتشف أن زوجة الأب قد اقدمت على حرق أخت (أنس) (مريم الصغيرة) ثم خططّت لإيهام أنس بالمرض، ولتجعله يرتكب جريمة، ورتبت وضع السكين والبصمات، وكل ذلك بمساعدة الشخص الغامض الذي كان يلاحق (أنس) ويُستدعى هذا الشخص ويعترف بكل الأسرار والتفاصيل، وعلاقته مع زوجة الأب وتزويدها بالمواد والمستحضرات الكيميائية. ويلجأ الكاتب إلى وضع النهاية السعيدة أو تحقيق قاعدة العدالة الشاعريّة باندحار الأشرار وبقاء وسعادة الأخيار حين تبرئ المحكمة (أنس) وتطلق سراحه بمساعدة (ريحانة) والبستاني واعترافات الشخص الغامض. وتكون المفاجأة حين يخبر (أنس) أم ريحانة بأن زوجها لن يموت لأنه قد اتفق معه على حدوث هذه الفكرة ممّا جعل الزوج يرتدع ويرتد إلى طبيعته الأولى. وبذلك يضع الكاتب الحلول السحرية السريعة لكي ينهي الرواية، ويفكك أسرارها، بايقاع سريع وباختزال يجعله يبتعد عن المسوّغات والتبريرات والتحليلات التي قد يتطلبها منطق الأحداث ومنطق الحياة والواقع، وتنتهي الرواية حين يشرح (أنس) لريحانة معنى الرقصة تحت ظل الفراشة، وبما يفضي بأن الحب والصدق والرومانسية تنتصر على الشر والخوف وكل أشكال الكراهية والاستغلال وبذلك حاولت الرواية المزاوجة بين النسق البوليسي وبعض القيم والمضامين ذات الطابع الإنساني. |
المشـاهدات 27 تاريخ الإضافـة 20/04/2025 رقم المحتوى 61805 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |