الإثنين 2025/4/21 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
نوائح سومر… حين ينهض السرد من مقبرة الذاكرة ليحاكم التاريخ!!
نوائح سومر… حين ينهض السرد من مقبرة الذاكرة ليحاكم التاريخ!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

توضيح تحريضي/شوقي كريم حسن

 

**حين يكون السرد فعل مقاومة للزمن، واستعادة لما أريد له أن يُمحى من الذاكرة الجمعية، تغدو الرواية أكثر من حكاية؛ تصبح أرشيفًا موازيًا، وشهادة جمالية على الألم. وفي رواية “نوائح سومر” للروائي عبد الستار البيضاني، لا نقف أمام بناء سردي تقليدي، بل نجد أنفسنا في قلب مختبر لغوي وفكري يعيد مساءلة التاريخ، لا من موقع المؤرخ، بل من موقع الرائي، المتأمل، الذي يدرك أن ما يُكتب عن الماضي ليس إلا مرآة لما نحياه الآن.البيضاني، الذي خبر الكتابة الصحفية والتوثيق الثقافي، يدخل الرواية بوصفها أفقًا لقول ما لا يُقال، وتحريك ما رُكن عمدًا في ظلال الصمت. اختار مدينة الثورة، تلك البقعة الجغرافية التي ما عادت مجرد مكان، بل صارت رمزًا لتقاطع الفقر بالقمع، والانتماء بالخذلان، لتكون الحاضنة السردية لتحولات كبرى بدأت بعد انقلاب 17 تموز، وامتدت حتى بدايات الحرب العراقية الإيرانية.

الرواية، إذن، ليست فقط عن حدث سياسي أو مرحلة، بل عن جدل الداخل المنسي، الهامشي، الذي سُحق تحت وطأة الشعارات الكبرى. شخوص “نوائح سومر” لا تُروى قصصهم ببرود وثائقي، بل ينبضون بالحياة، يتنفسون وجعهم، ويتصدعون في صمتهم. وتمكن البيضاني من خلالهم أن يعيد تركيب الأزمنة، لا بوصفها متوالية كرونولوجية، بل كحالة شعورية متراكبة، تسيل بين السرد والوصف، وتطفو بين الطبقات اللغوية التي تقترب كثيرًا من الشعر، لكنها لا تنفصل عن الوظيفة السردية. لغة البيضاني لا تخضع لإغراء البيان وحده، بل تتعالق مع الوظيفة المعرفية للسرد؛ فهو يحفر، ينبش، ويضع أمام القارئ وقائع لا باعتبارها مسلمات، بل بوصفها شظايا ذاكرة، تتطلب منه أن يكون فاعلًا في التأويل. وهنا تتبدى جرأة النص؛ لا في ما يقوله فقط، بل في الطريقة التي يقول بها: استدعاء الرماد السياسي، مساءلة الأنساق السلطوية، نبش بنية الخوف التي تأسست في ذهنية المجتمع، كل ذلك تم عبر مقاربة جمالية دقيقة، تحرص على ألا تقع في فخ الخطابية أو المباشرة.إن “نوائح سومر” عملٌ يتجاوز حدود الرواية التقليدية، ليقف في مصاف الروايات التي تشتبك مع فكرة “التمثيل السردي للذاكرة الجماعية”. ففي لحظة شحبت فيها القدرة على المواجهة المباشرة، تأتي الرواية كأداة استعادة، وكسر للمسكوت عنه، ومساءلة للخراب من داخله. ليس لأن البيضاني يملك الحقيقة، بل لأنه يملك الجرأة على الدخول إلى منطق الوجع وتفكيك سردياته.وفي زمنٍ تُختطف فيه الحقيقة مرارًا، تبدو رواية عبد الستار البيضاني صرخة بوجه الزيف، ومحاولة لكتابة “الزمن الغاطس” بلغة تتقاطع فيها الشعرية بالمرارة، والحكمة بالتمرد، والحنين بالفقد. “نوائح سومر” ليست فقط رواية عن زمن مضى، بل عن زمن لم يُفهم بعد، لأننا لم نملك الشجاعة لقراءته كما يجب.هكذا يكون السارد نباشًا للتاريخ، لا لينقّب عن المجد، بل ليفضح ما جرى في الظلال. وإذا كان التاريخ الرسمي يُكتب بأقلام الغالبين، فإن الرواية، كما يفهمها البيضاني، تُكتب بأظافر المهمّشين، أولئك الذين لم تترك لهم السلطة سوى الفتات، لكنهم ظلوا يحتفظون بحكاياتهم كخرائط مقاومة. في “نوائح سومر”، لا أحد بريء من الخراب، ولا أحد نقيّ من التلوث السياسي، حتى الأبرياء – في سرد البيضاني – يحملون ذنوب صمتهم، وربما ذنوب نجاتهم.شخوص الرواية ليسوا مجرد أدوات لبناء الحبكة، بل هم تمظهرات لأسئلة الوجود العراقي ذاته: من نحن؟ كيف أصبحنا على هذا الحال؟ ماذا يعني أن تكون عراقيًا في زمن الافتراس السياسي؟ من خلال هذه الأسئلة، يفتح البيضاني ثغرات في جدار الصمت، ليقول، دون شعارات، إن الإنسان في هذه البلاد لم يكن ضحية فقط، بل كان في أحيان كثيرة شريكًا في استمرار القمع، بصمته، بخوفه، وربما بقبوله غير الواعي بالخضوع.

ولعل ما يمنح الرواية قيمتها الفنية والمعرفية معًا، هو تلك الموازنة الدقيقة بين الكشف الجريء والتشكيل الجمالي. فالرواية، رغم طابعها التوثيقي، لا تقع في فخ التسطيح أو التقريرية، بل تحتفظ بمستواها الفني من خلال تعدد الأصوات، وتداخل الأزمنة، واستخدام تقنيات الاسترجاع والاستباق لتفكيك بنية الخط الزمني الأحادي، مما يمنح النص كثافة درامية تجعل من كل مشهد – مهما بدا عابرًا – لحظة تأمل في المصير الجمعي.ولا بد من الإشارة إلى العنوان، “نوائح سومر”، بوصفه عتبة دلالية تفتح على عالم رمزي كثيف. فـ”النوائح” ليست فقط تلك التي تندب الماضي، بل هي – في بعد تأويلي آخر – أصوات من لا صوت لهم، صدى الأرواح المعذبة التي لم تجد غير النواح وسيلة للبوح. أما “سومر”، فليست العراق القديم فقط، بل هي الاستعارة الكبرى لبلادٍ استنفدت تاريخها، ولم يتبق لها سوى الأنين.

هكذا، يقدّم عبد الستار البيضاني روايته بوصفها مأتماً لجغرافيا محروقة، وسجلاً سرديًا لمرحلة ظلت معلّقة بين القمع والحرب، بين شعارات الثورة ووقائع السجون، بين الأمل المجهض واليأس المتوارث. وهي، بهذا المعنى، ليست رواية عن الماضي، بل عن هذا الحاضر المشوّه الذي لا يمكن فهمه دون العودة إلى تلك الفصول المنسية.“نوائح سومر” ليست مجرد عمل أدبي، بل تجربة وعي، وتحريض على استعادة ما طُمر عمدًا، بأسلوبٍ يُجيد الموازنة بين اللغة كشعر، والرواية كمعرفة، والتاريخ كجرح لم يندمل. وما يلفت في بناء “نوائح سومر” هو تلك القدرة على تشكيل طبقات السرد وفق بنية تتحدى السائد في الرواية العراقية. لا وجود لبطل كلاسيكي هنا، بل هناك سرد جماعي، تشتبك فيه الأصوات لتصوغ ما يشبه الكورال المأساوي، حيث تختلط الذكريات بالرؤى، والخسارات بالتطلعات المؤجلة. وكأن البيضاني أراد أن يقول إن لا أحد يمتلك الحقيقة منفردًا، وإن التاريخ لا يُروى من زاوية واحدة، بل من شقوق الحكايات المتجاورة والمتضادة.

من الناحية الأسلوبية، تظهر جمالية الرواية في قدرة اللغة على أن تكون أداة كشف لا وصف فحسب. لغةٌ تتلوّى، تحتد، تتورّط في التجربة، وتندفع في لحظات كثيرة لتقارب الشعر، لا عبر التزويق البلاغي، بل عبر التوتر العاطفي والمجاز الحيّ. الجملة الروائية عند البيضاني ليست ممرًا آمنًا، بل فخٌ تأويليٌ، يتطلب من القارئ يقظةً دائمة لفك اشتباك المعنى، والتقاط ما بين السطور من إيحاءات سياسية ونفسية واجتماعية.أما المكان في الرواية، فليس خلفية جامدة للأحداث، بل كائن فاعل في صناعة التوتر. مدينة الثورة، بكل ما تحمله من رمزية تاريخية، لا تظهر كمجرد حيّ شعبي عراقي، بل كمرآة لما آل إليه الحلم القومي حين تحوّل إلى جهاز قمعي. إنها صورة مصغرة للوطن بأسره، حيث تتكثف التناقضات، وتتوالد الخيبات، وتتعايش البطولات الصغيرة مع الخيانة اليومية.

وبينما تتعدد النواحي الفنية للرواية، تظل القيمة الكبرى لـ”نوائح سومر” في قدرتها على استنطاق المسكوت عنه، لا عبر صدمة مباشرة، بل عبر بناء درامي ذكي، يدفع القارئ لمراجعة تصوراته عن تلك المرحلة الحرجة من تاريخ العراق. البيضاني لا يكتفي بأن يكتب عن القهر، بل يعرّيه؛ لا ليكتفي بإدانته، بل ليفهم آلياته، ويتتبع جذوره في بنية العقل الجمعي.

بهذا المعنى، فإن الرواية تندرج في سياق الكتابة التي تسعى لا إلى الترف الأدبي، بل إلى مساءلة جدوى الأدب ذاته، حين يتحول إلى أداة مقاومة فكرية وجمالية. “نوائح سومر” تمثل هذا الطموح النادر؛ أن تكتب لتستعيد، لا لتُجمّل. أن تحفر في الذاكرة الجماعية لا لتؤبّنها، بل لتكشف كيف تشكّلت، ومن شوّهها، ولماذا ما زالت عاجزة عن النسيان أو المصالحة.

إنها ليست رواية عن زمن انتهى، بل عن زمن يتكرّر، بصيغٍ أشد خفاءً. ومن هنا، تأتي أهميتها القصوى: إنها تحذّر، تضيء، وتضع القارئ أمام مرآة التشابهات القاتلة بين الأمس واليوم، لا لتصدمه، بل لتوقظه. وهذا هو جوهر الأدب الحقيقي؛ أن يكون فعل وعي، ومجابهة، واستعادة لما حاول الطغيان محوه… لكن النواح هذه المرة، ليس بكاءً فقط، بل صرخة سردية في وجه النسيان.!!

المشـاهدات 21   تاريخ الإضافـة 20/04/2025   رقم المحتوى 61868
أضف تقييـم