الثلاثاء 2025/4/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 22.95 مئويـة
نيوز بار
الخطاب السياسي العراقي - صناعة الإدراك وتشويه الوعي الجمعي
الخطاب السياسي العراقي - صناعة الإدراك وتشويه الوعي الجمعي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب ناجي الغزي
النـص :

تقول المنظرة السياسية حنّه أرندت، في كتابها أسس التوتاليتارية “حيثما يفشل الناس في صياغة تصور عقلاني عن واقعهم، يتكفل الخوف والأساطير بملئ الفراغ.” في تحليل المشهد السياسي العراقي منذ العام 2003 وحتى اليوم، تتجلى ظاهرة خطيرة أصبحت جزءاً من البنية الذهنية العامة: هي فقدان الثقة بالعملية السياسية برمتها، وتكريس صورة العراق كـ”ساحة” تُدار إرادتها من الخارج لا كـ”فاعل” مستقل في السياسة الإقليمية والدولية. هذا التصور لم ينشأ صدفة، بل هو نتيجة مباشرة لنوعية الخطاب السياسي الذي ساد الفضاء العام، والذي أدى الى التمزق المعرفي والتشظي الوجداني، حيث أصبح الخطاب السياسي ليس أداة تواصل سياسي فحسب، بل وسيلة هندسة لإدراك مشوه للذات الجمعية. لم يعد السياسي العراقي فاعلًا يسعى لإعادة تشكيل الواقع بما يحترم إمكانات المواطن ومطالبه المشروعة، بل تحول إلى صانع لرؤية تقوم على نفي الفعل، وإعادة إنتاج صورة العراق كـساحة مستباحة لا كـذات سياسية. ومن خلال تحليل هذه الرؤية  يمكن تفكيك المشهد السياسي إلى ثلاثة محاور رئيسية: لغة التخوين، وثقافة التخويف، وآلية التسويف.

 

الخطاب السياسي كمنتج ومُنتِج

 

يعمل الخطاب السياسي عبر آلياته اللغوية والرمزية على تكريس منطق اللاجدوى السياسية. حين يتماهى الخطاب مع التخوين والتخويف والتسويف، والخطاب السياسي ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو أداة لإعادة تشكيله. ففي الحالة العراقية، الخطاب السائد غالباً ما يعيد إنتاج الهزيمة، ويزرع اللاجدوى، ويغذي خيالات المؤامرة والهيمنة الخارجية.والسياسي العراقي حين يستخدم لغة التخوين، فهو لا يسعى فقط لتشويه خصومه، بل يؤسس لبنية عقلية جماعية تستبطن العجز كحقيقة وجودية. كما يُسقط عن خصمه صفة الوطنية، وحين يعتمد التخويف، يحوّل كل مشروع إلى تهديد وجودي، وأداة لتسطيح الرؤية المستقبلية. بينما يتحول التسويف إلى تمرين جماعي، يستهلك الزمن والمطالب المشروعة، مؤجلاً الحلول إلى أفق مجهول.

 

انعكاسات الخطاب على الإعلام

 

الإعلام العراقي، في غالبيته، وقع فريسة لهذا الخطاب، وتحول من أداة تحليل وفهم نقدي إلى صدى يردد خطابات السياسيين دون تمحيص. وكأنه فقد وظيفته الأصلية كمؤسسة نقدية. لقد ارتدَّ عن مهمته كوسيط للفهم والتحليل إلى مجرد مكبر صوت يردد صدى الخطابات الطائفية والشعبوية المتشظية، محولاً كل جدل سياسي إلى طقس تعبوي يشبه الحروب الكلامية في العصور المظلمة.أما البرامج السياسية انحدرت من فضاءات التحليل إلى مستنقعات السجال الفارغ، حيث تحولت إلى ساحات صراع وجدل عقيم بين أطراف تتقاذف الاتهامات، دون أن تقدم للمواطن أي إطار فهم حقيقي للمشهد السياسي، أو استشراف واقعي لمستقبله.  حيث ساهمت في  إنتاج الانقسامات المجتمعية تحت لافتة الحياد، بينما تتم عملية تسميم الوعي العام بطريقة ناعمة لكن عميقة الأثر.بهذا الشكل، أصبح الإعلام يغذي العقل الجمعي بوعي مسموم والإحساس باللاسيادة، ويعزز قناعة المجتمع أن الانتخابات، والحكومات، والمشاريع الوطنية، هي مشاريع نهب وسلب وفشل، وهي ليست سوى استجابات لإرادات خارجية. إنه إعلام يكرس عقدة المفعول به، ويدفن أية بادرة أمل بإمكانية الفعل الذاتي والتحكم بالمصير.

 

العقل الجمعي واستبطان الهزيمة

 

تدريجياً، تسرب الخطاب السياسي المأزوم إلى البنية التحتية للوعي الجمعي. حتى صار العراقي لا يتخيل ذاته إلا كـ”مفعول به” لا يمتلك قدرة على تقرير مصيره. الانتخابات باتت تُختزل في صورة سيناريوهات خارجية مُعدة سلفاً، والحكومات تُرى كـ”كومبرس” يؤدي أدواراً مقررة في مسرح إقليمي دولي عابر للحدود. يقول كارل ماركس “الوعي الزائف ليس فقط قناعة خاطئة بالواقع، بل هو بالأساس خضوع لا واعٍ لبنية إنتاج الاغتراب.”هكذا تشكلت في العقل الجمعي ميتافيزيقا الهزيمة: قناعة راسخة بأن الفعل الوطني مستحيل بطبيعته.هذه الشكوك لم تعد مجرد آراء متفرقة، بل أصبحت نمط تفكير راسخ: كل مشروع محكوم عليه بالخيبة، كل إصلاح هو واجهة لخداع أكبر، وكل نصر محتمل هو مجرد استراحة لمؤامرة قادمة. هذا الاستبطان للهزيمة صنع جداراً نفسياً هائلاً أمام إمكانية التغيير الحقيقي.

 

مغذيات هذا الخطاب

 

تتعدد منابع ومغذيات هذا الخطاب السلبي والكارثي، ومن أبرزها: 1- الواقع السياسي الهش: عجز النخب عن بناء مشروع دولة يحترم الحقوق ويحمي السيادة. 2- الفساد السياسي والإداري: الفشل في تقديم نموذج ناجح يزيد من سهولة تصديق أن القرار الوطني غير موجود أصلاً. 3- الاستقطاب الإقليمي والدولي: الواقع الموضوعي لتدخل القوى الإقليمية والدولية يجعل من السهل على الخطاب السلبي أن يجد مصداقية ظاهرية. 4- تراجع الثقافة النقدية: غياب التعليم النقدي وانهيار مؤسسات التثقيف المدني ترك المجتمع عارياً أمام أي خطاب تعبوي طائفي أو تآمري. 5- انعدام التربية المدنية والنقدية: ترك المجتمع نهباً لخطابات التجييش العاطفي دون دفاعات عقلانية.

 

نحو خطاب بديل

 

التعافي من هذه الأزمة يتطلب ثورة إبستيمولوجية في الخطاب السياسي والإعلامي. لا بد من استعادة اللغة كأداة لتحرير الإرادة، لا كأداة لتدجينها. وذلك عبر بناء خطاب وطني يزرع الثقة بين الجماهير دون أن يزيّف الواقع. خطاب يعترف بوجود معوقات داخلية وتحديات خارجية تواجه النظام السياسي القائم، لكنه يؤمن بالإمكانيات، ويحفز الفعل الذاتي بدلاً من التسليم بالعجز. خطاب يعيد الاعتبار لمفهوم “الإرادة الوطنية” لا كشعار بل كخطة عمل.وهذه المهمة مسؤولية النخب السياسية والإعلامية التي يفترض ان لا تقتصر رؤيتها على مجرد "وصف الواقع"، بل تتجاوز ذلك إلى مهمة أعمق،  صناعة واقع جديد. واقع ينبثق من خطاب نقدي وعقلاني، يضع الإنسان العراقي في مركز المعادلة، بوصفه مصدر الشرعية وحامل مشروع التغيير، لا مجرد ضحية دائمة لمؤامرات لا تنتهي.إن بناء مستقبل العراق لن يتحقق عبر شعارات جوفاء ولا بخطابات تغذي الخوف والاتهام، بل يحتاج إلى إرادة نقدية متسلحة بوعي عميق بجذور الأزمة، وإلى شجاعة قادرة على ابتكار السبل لتجاوزها.

المشـاهدات 20   تاريخ الإضافـة 29/04/2025   رقم المحتوى 62255
أضف تقييـم