الثلاثاء 2025/5/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 22.72 مئويـة
نيوز بار
أقبلك على العسل.. بين الحنين والخراب
أقبلك على العسل.. بين الحنين والخراب
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

فارس الذهبي

 

قُدمت في العاصمة الفرنسية باريس خلال الفترة من 5 آذار/ مارس إلى 5 نيسان/ أبريل 2025 مسرحية T'embrasser sur le miel ("أقبلك على العسل") كمحاولة لالتقاط ما يُمحى: الحميمي، العابر، والذكريات الصغيرة. قُدمت المسرحية في "المسرح الصغير" بمسرح لا كولين، ضمن سلسلة عروض تسلط الضوء على فنون الشرق الأوسط، إلى جانب أعمال أخرى مثل "Golem" لعاموس غيتاي و"Journée de noces chez les Cromagnons" لوَجدِي معوّض.العمل هو أول تجربة إخراجية مسرحية لخليل شريتي على الخشبة، بعد اشتغاله سينمائيًا، والذي يجمع بين ممثليْن بارزيْن في المسرح السوري المعاصر: ريم علي وعمر الجباعي.في زمن تتزاحم فيه صور الخراب، وتُختزل فيه الحروب بمشاهد الدمار الكبرى، تأتي مسرحية T'embrasser sur le miel لتلتقط ما تمحوه الحرب أولًا: التفاصيل الصغيرة، الحياة اليومية، والذكريات التي بلا قيمة استراتيجية، لكنها وحدها تحمل نكهة الوجود.على خشبة Théâtre de la Colline، أحد أبرز المسارح الوطنية الفرنسية، قدّم المخرج السوري خليل شريتي أولى تجاربه المسرحية، بعد مشواره السينمائي، بمرافقة ممثليْن استثنائييْن. العرض يقوم على بنية بسيطة ومرهفة: رسائل فيديو متبادلة بين شخصيتين، سيوام وعماد، في بلد تمزقه الحرب، وهما يحاولان، عبر هذه المراسلات، خلق عروض صغيرة، مسرحيات خاصة بهما، كأنهما يقاومان النسيان بالتمثيل. تبدو الشخصيتان في غاية القرب والالتصاق ببعضهما البعض، وفي ذات الوقت هما تعيشان في عزلة كاملة حتى وإن فصلهما جدار هش عالٍ. هذه هي ثيمة المسرحية التي تحاول أن تخبرنا عبر السينوغرافيا الجميلة بأن الغربة والعزلة في الأوطان ممكنة حتى بين العشاق. ولا تزول هذه الغربة إلا عبر تهديم كل شيء.

 

بين المراسلة والتمثيل

 

سردية الدراما في المسرحية لا تشكل عرضًا بالمعنى التقليدي، بل كولاج من لحظات، محاولات مسرحية داخل العرض ذاته، كأننا نشاهد كيف يولد المسرح في ظروف قصوى. هنا، لا يُروى الحدث، بل تُعرض طريقة روايته. نتلقى العمل كمرآة مزدوجة: نتفرّج على شخصيات تتفرّج على ذاتها. وتوثق عبر عدد من المشاهد سيرة هاتين الشخصيتين الشاهدتين والمشاركتين في قصة الحب الطويلة التي يشكل الصراع الدموي في البلاد خلفية لها."بين عرضين منفصلين وجمهورين مختلفين، تنهار الجدران لتكشف لعبة المخرج خليل شريتي: لسنا سوى مرايا لبعضنا في زمن الغربة والعزلة داخل الأوطان"تؤسس هذه البنية لعلاقة مدهشة بين الواقع والخيال، بين الشخصي والعام، بين الحياة كأرشيف حي، والمسرح كمساحة مؤقتة للنجاة.عماد وسيوام يتحدثان العربية، فيما تظهر الترجمة الفرنسية على خلفية المشهد. لكن المفارقة أن الترجمة ليست مجرّد أداة تواصل مع الجمهور الفرنسي، بل هي عنصر مسرحي في حد ذاته، تشكّل طبقة إضافية من المعنى، تذكّرنا بأننا نشاهد عملًا ذاكرته الأصلية ليست فرنسية، بل مستعادة.اللغة هنا ليست حيادية. إنها حاملة لهوية، لحنين، لضحكة قديمة أو نداء في زقاق. وفي ظل هذا التوازي بين اللغتين، تُطرح أسئلة كبرى حول الانتماء، الاغتراب، وما يعنيه أن تحكي بلغتك الأصلية في فضاء لا يتكلمها.

 

الجسد في الغياب

 

تبدأ متاهة العرض المسرحي الذكية منذ لحظة دخول المشاهدين إلى المسرح، بدون أن يدركوا أنهم باتوا داخل لعبة سردية نسجها المخرج بخفة ودهاء. في مدخل المسرح، يُقسَّم الجمهور إلى قسمين، كلٌّ يُقاد إلى صالة مختلفة دون تفسير. هذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل هو امتداد لسينوغرافيا قُسمت إلى فضاءين مستقلين: أحدهما خاص بسيوام (ريم علي)، حيث نشاهد شقتها، حياتها اليومية، وانفعالاتها النفسية والوجدانية وهي ترسل رسائلها إلى عماد (عمر الجباعي)، الذي لا يظهر مباشرة، بل من خلال الشاشة.لنكتشف في نهاية العرض لعبة المخرج الكبيرة بأن (عماد) يقدم عرضه الخاص، سرديته، وجهة نظره، في الجهة المقابلة للمسرح ومع جمهور مختلف، إذًا نحن هنا أمام عرضين منفصلين سيلتحمان معًا في نهاية المسرحية ليشكلا عرضًا واحدًا، وأن هنالك جمهورين مختلفين لذات العرض، حيث تلتقي أعين هذين الجمهورين في نهاية المسرحية ليشكل كل طرف مرآة للآخر في تذكير مستمر بأننا لا نشاهد سوى أنفسنا. يندفع المتفرّج بدايةً إلى الاعتقاد بأنه أمام عرض مونودرامي مدعّم بتقنية الفيديو، حيث يكتفي طرف بالتفاعل الأحادي مع طرف غائب. لكن الانقلاب المسرحي يحدث في المشاهد الأخيرة: الجدار الفاصل بين الفضاءين ينهار فجأة، لتتوحّد الخشبة، وتكتشف القاعة الأولى أنها ليست وحدها، بل هناك جمهور ثانٍ شاهد العرض من وجهة نظر معاكسة، بالتزامن ذاته، وبالزمن المسرحي ذاته.هذه اللحظة تحمل طاقة كشف مزدوجة: درامية، وبصرية. إذ تلتقي العوالم، وتلتحم الحكاية بين العاشقين المشبعين بالكدمات النفسية، في مشاهد عالية الكثافة والرمزية. هنا، يتحوّل العرض من لعبة بصرية إلى حدث شعوري، يحمل المتفرّج إلى ذروة وجدانية غير متوقعة.يبدو العرض في هذا الجانب استعراضًا بارعًا لخيال المخرج وقدرته على إدارة الفضاء والزمن المسرحي بطريقة مغايرة، لكنه أيضًا يبرز أداء الممثلَين في أعلى درجات الإقناع، ما بين اللعب والصدق، بين الانفصال والالتئام. أداء ينوس بين مقاربات متعددة: من اللعبية الخفيفة إلى تقنيات ستانسلافسكي في الغوص بالعاطفة، إلى كسر الإيهام في لحظات تعرية الذات. لا يوجد منهج ثابت يُمسك الأداء، بل تيارات متناوبة تعكس التحوّلات النفسية العميقة التي تمر بها الشخصيتان. على الرغم من وجود الممثليْن جسديًا على الخشبة، إلا أن العرض يُبنى على التباعد. لا تواصل مباشر. لا حوار حي. بل مشاهد مُسجّلة تُعرض وكأنها تُشاهد للمرة الأولى. ووسط هذا الغياب، تنشأ حميمية من نوع مختلف. حميمية لا تحتاج إلى لمس، بل إلى تذكّر اللمس.ريم علي وعمر الجباعي يقدّمان أداءً شديد الحساسية، يحمّلان الصمت معاني، ويمنحان النظرة والجملة العابرة قوة درامية مضاعفة. إنهما يمثلان الفقد لا بصراخ، بل بتقشف، كأن الفجائع الكبرى لا تحتاج إلا إلى همسة.ليست هذه المسرحية عن الحرب، بل عمّا محته الحرب. عن ذاكرة منهكة بالصور والتسجيلات والأغاني، الأحلام والأماني، عن عقد ونصف العقد عاشهما العاشقان انطلاقًا من الأحلام الوردية مرورًا بالتحولات الكبرى وصولًا إلى الخراب الكبير، رغم وجود مشاهد الدمار الصادمة والقاسية إلا أن الدمار الداخلي بين العاشقين كان لا يقل قسوة، ورغم أصوات الحرب والانفجارات إلا أن انفجار الألم الداخلي حتى لدى المشاهدين كان طاغيًا، فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يمر بمثل تلك التحولات من عاشق يحمل زهرة في يده إلى مقاتل مع بندقية على كتفه، لا مكان للخراب بل لندوبه فقط، لغيابها البلاد الثقيل. إن مسار التحول لدى تلك الشخصيات هو مسار البلاد ذاته، مسار مختلط عنيف، عاش كل سوري تجربته الخاصة معه، "أقبلك على العسل" لا توثّق الجحيم، بل ما حاول الناس الاحتفاظ به رغم الجحيم: لحظة قرب، طيف ابتسامة، مقطع مسرحي مشترك.وهكذا يتحول المسرح من فعل درامي، إلى فعل نجاة. طريقة للبقاء. للمقاومة الناعمة. للقبلة المؤجلة التي نؤمن بها حتى وإن لم تصل.«T'embrasser sur le miel» ليست مسرحية عن مأساة فقط، بل عن هشاشة الحياة. عن الأشياء التي غالبًا ما لا تجد مكانًا لها في الأخبار أو الوثائق أو الحكايات الكبرى. وفي هذا الصمت المسرحي البليغ، تقف الذكرى كفعل مقاومة، والقبلة كبيان حب في زمن الانهيار.

المشـاهدات 19   تاريخ الإضافـة 05/05/2025   رقم المحتوى 62580
أضف تقييـم