
![]() |
متى نصبح بشراً؟ |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
تخيل عالمًا بلا تصنيفات، بلا "خير" ولا "شر"، فقط أفعال تتحرك دون ميزان، دوافع تتسلل دون اسم، ونتائج لا توزن بأي معيار. في هذا العالم، لا أحد يُحاسب أحدًا، لا أخلاق تُدرس، ولا ضمير يُسمع. ما الذي يتبقى من الإنسان حين تُسحب منه مراياه الأخلاقية؟ حين يُترك بلا وجه يُقابل به نفسه؟لسنا بشرًا لأننا نُجيد الصواب، بل لأننا نحاول. لأننا، رغم قبح العالم، نرتبك كلما أخطأنا، ونشعر بالذنب، ونراجع أنفسنا، ونعود في المساء لنسأل: هل كنت إنسانًا كفاية اليوم؟ نحن لا نرتقي بوجودنا لأننا نملك الحقيقة، بل لأننا نطاردها، ونتعثّر فيها. لا أحد يرى الخير والشر بوضوح دائم. نحن نصنعهما كلما اخترنا أن لا نكون أنانيين، كلما توقفنا لحظة لنرى الآخر لا كأداة، بل ككائن له ألم يشبه ألمنا.حين كتب فريدريك نيتشه "ما وراء الخير والشر"، لم يكن يدعو للوحشية، بل كان يفتح نافذة على حقيقة محرجة: الخير والشر، كما نعرفهما، غالبًا ما يكونان بناءً اجتماعيًا، أنشأته الثقافة، وفرضه التاريخ، لا نتيجة فطرة متعالية. لم يكن يقين الخير عند نيتشه سوى أداة للسيطرة، وآلية تنكّرت بها السلطة. وفي قوله هذا شيء من الصواب: كثيرًا ما استُخدم "الخير" لتبرير الحروب، و"الشر" لتصفية المختلف. لكن السؤال المؤلم يبقى: إذا فككنا الأخلاق، ماذا يتبقى؟ هل نتحرر فعلًا، أم نُفتح على هاوية لا قرار لها؟في الحقيقة، لا يولد أحدنا حاملًا كتابًا للأخلاق. نحن نتعلم الخير مثلما نتعلم المشي: بالسقوط، بالمحاولات الفاشلة، بالمراقبة، بالندم. الأخلاق ليست قالبًا نُصب فيه، بل عملية مستمرة من الخلق الداخلي. الخير ليس فرضًا نطيع به أوامر عليا، بل استجابة عميقة لنداء فينا، لا صوت له، لكنه يُوجّه خطواتنا. والشر ليس دائمًا نية مبيّتة، بل أحيانًا فعل يولد من العمى، من الجهل، من الألم غير المفهوم.فكر في ما حدث أثناء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا عام 2023. كان الناس محاصرين تحت الأنقاض، والخوف سيد اللحظة. ومع ذلك، شاهدنا بشرًا – لا يملكون سلطة، ولا شهرة، ولا حتى ضمان نجاة – يركضون نحو الركام، يحفرون بأيديهم العارية، ينقذون من لا يعرفون. لم يكونوا ملائكة. لم ينتظروا مكافأة. فقط، تحرّك فيهم شيء. شيء لا يُعرف اسمه، لكنه كان هناك. تلك اللحظة كانت أخلاقًا في أنقى تجلّياتها: لا نظريات، لا عقائد، فقط فعل بشري في مواجهة المجهول.الخير، إذًا، ليس فئة أخلاقية جاهزة. إنه قدرة الإنسان على الخروج من نفسه. والشر ليس هو الآخر كائنًا مطلقًا، بل غياب الانتباه، غياب النور الداخلي. لهذا، التمييز بين الخير والشر ليس "المعيار الوحيد" للإنسانية، لكنه شرطها الأولي. لا لأننا نملك هذا التمييز بالفطرة، بل لأننا نتعلمه، نطوّره، ونتعثر فيه. نحن بشر لأننا لا نتوقف عن تصحيح أخلاقنا، عن إعادة تعريفها، عن محاولة إنقاذها من الصيغ الجاهزة.نيتشه قال إن علينا تجاوز الخير والشر. ربما كان يقصد الخير الزائف والشر المصنّع. لكن ثمة خير آخر، لا يُصنّف، بل يُعاش. وخيرٌ لا يمكن تدريسه، لكنه يُشعَر، يُلمَس، يُمارَس عندما نقف أمام الآخر ونفهم هشاشته.في النهاية، قد لا يكون الفرق بين الإنسان وغير الإنسان هو "العقل" كما ظنّ القدماء، بل التردد أمام الاختيار، والحاجة إلى مرآة. ولسنا نملك تلك المرآة إلا حين نسأل، بصدق: هل ما فعلته كان إنسانيًا؟ في هذا السؤال وحده، يكمن ما يجعلنا بشرًا. الباقي تفاصيل. |
المشـاهدات 685 تاريخ الإضافـة 07/05/2025 رقم المحتوى 62617 |