الإثنين 2025/5/12 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 41.39 مئويـة
نيوز بار
الدكتور وليد جاسم الزبيدي شاعر الذاكرة والمناسبات
الدكتور وليد جاسم الزبيدي شاعر الذاكرة والمناسبات
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

محمد علي محيي الدين

  حين يولد الشاعر في أرض مثل المحاويل، حيث تمتزج البساتين بأنين التأريخ، ويشبّ على ضفاف الفرات، فإن الكلمات تُولد في روحه قبل أن يعرف الأبجدية. وهكذا كان وليد جاسم الزبيدي، ابن بابل، التي تطبع أهلها بالحكمة والحنين، والتي ظلت تتكلم عبره شعراً ونقداً وتحقيقاً، ليغدو واحداً من أعمدة المشهد الأدبي والثقافي في العراق المعاصر.

   ولد الزبيدي في الأول من تموز عام 1956، في قضاء المحاويل، لكنه لم يكن ابن مدينة فحسب، بل ابن نصّ، وأخٌ لقصيدة، وحفيدُ تراثٍ طويل النفس. تنقّل بين فضاءات العلم والأدب، فابتدأ دراسته في الاقتصاد، ثم عاد ليتلبّس برداء الضاد، فحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، ومنها انطلق إلى فضاءات أرحب، فنال الماجستير والدكتوراه في تحقيق التراث الفكري، ليجمع بين رصانة المؤرخ وحنان الشاعر، وبين صرامة الأكاديمي وخيال المبدع.

  إن سيرة الدكتور الزبيدي ليست مجرد توثيق لمسارات أكاديمية ومؤلفات مطبوعة، بل هي خارطة وجدانية، يتقاطع فيها الشعر مع النقد، والتحقيق مع الذاكرة، والحبر مع اللهب. فمن خرافة المرايا إلى الظل ضوءًا، ومن محارتي إلى مرايا الورد، ظلَّ الزبيدي شاعرًا يكتب لا ليقول فقط، بل ليوقظ في القارئ دهشةَ التأمل وندبةَ المعنى. أما دواوينه، فهي ليست مجرد صفحات مرصوفة، بل لوحات شفيفة تقطر من الوجد، وتتنفس بين سطورها أطيافُ بابل وأصواتُ مآذنها وغبارُ مواسمها.

   لكن الزبيدي لم يكتفِ بأن يكون شاعراً يكتب، بل كان باحثاً ينبش في تراب المخطوط، يزيل عنه غبار الأزمنة ليعيده إلى الحياة. أعماله في التحقيق تكشف عن حسّ تراثي عالٍ، وإخلاص لمهمته كباحث، وقد تجلّى ذلك في تحقيقه لمخطوطات مثل جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام وكمامة الزهر وفريدة الدهر وغزل المحبين وغيرها، ليكون بذلك من الحلقات المضيئة في سلسلة الحفاظ على التراث العربي والإسلامي.

  في النقد، انطلق الزبيدي بوعي منهجي، قارئًا الشعر والسرد بمنظار الحداثة دون أن يغادر ضفاف الأصالة. في أوراق ورأي وما قاله النص وفانتازيا النص، يتراءى صوت ناقد ذي نَفَسٍ شاعري وقراءة عميقة، تُحلّل النص لا لتفككه، بل لتعيد تشكيله في وعي المتلقي.

  أما مشاركاته الأدبية، فقد جاوزت حدود العراق إلى صربيا ومصر والإمارات، حيث مثّل الشعر العراقي خير تمثيل، وترجمت قصائده إلى العديد من اللغات، ليكون صوته أحد جسور التلاقي بين ضفاف الثقافات.

 

   في اتحاد الأدباء وكتّاب بابل، وفي مؤتمرات الجامعات والعتبات المقدسة، وفي مهرجانات الشعر والمخطوط، كان الزبيدي حاضراً، لا ليُضاف إلى القائمة، بل ليُثريها، وليمنح الحضور معنى أعمق لوجود الكلمة والموقف والهوية.

  إن تجربة الدكتور وليد جاسم الزبيدي، بتنوعها وثرائها، تؤكد أن المبدع الحقيقي لا يقف عند حدود تخصصه، ولا يكتفي بصدى صوته، بل يُنصت للتاريخ، ويجادل الواقع، ويكتب للمستقبل. إنه شاعر لا تكتمل مرآته إلا بوجوه الناس، وبمآقي المدن، وبندوب الذاكرة، ولذلك جاءت أعماله أيقونات على مكتب الذاكرة، تسجل، وتستنطق، وتستبقي الزمن في سطور لا تموت.

  ففي عالم سريع الزوال، يبقى اسم الدكتور وليد الزبيدي محفورًا في ذاكرة الكلمة العراقية، شاهدًا على أن الشعر يمكن أن يكون سفينة نجاة، وأن المخطوطة يمكن أن تنبض، وأن الإنسان يمكن أن يكون شاعرًا، وباحثًا، ومؤرخًا... في آنٍ واحد.

   كتب الشعر العمودي باقتدار الشاعر وغرد في مختلف المناسبات، وأعتلى منصات الخطابة كشاعر يلهج بالشعر على طريقة الأقدمين محافظا على العمود الشعري، زمن شعره قصيدته المعنونة بـ"بغداد" تتخذ طابعًا وجدانيًا وحنينيًا بامتياز، وهي تمثل نموذجًا رفيعًا من الشعر العمودي الذي يجمع بين صدق العاطفة ورشاقة التعبير، وتحفل بصور بلاغية ولمحات تاريخية وثقافية تعكس عمق الانتماء والوعي بمدينة عريقة مثل بغداد.

   القصيدة تسير على نغمة الحنين والانبهار، وتعبّر عن توقٍ داخلي عميق لزيارة بغداد، وتقديرٍ لجمالها المادي والمعنوي، ولتاريخها الثقافي والحضاري. الشاعر يزاوج بين الحب الشخصي لها، ووعيٍ تاريخي بدورها في صياغة الوعي العربي والإنساني.

وقد استهلها عاطفيا ليقول:

    بغدادُ هلْ لي من مُنىً ورِغاب    إنّي أزورُكِ والهوى متصابي

    الجمال البلاغي: الاستفهام هنا ليس طلبًا لجواب، بل هو تعبير عن الشوق والتمنّي، وهو أسلوب بلاغي يُدخل القارئ مباشرة في عمق العاطفة."الهوى متصابي": استعارة بديعة، فالشاعر يشبّه نفسه بالعاشق الذي عاد إليه فتوة العشق كالصبي، وهي لمحة وجدانية حية.

ويجمع بين التاريخ والمجاز:

    قدْ كنتِ أخبرَ بالخلودِ مهابةً   وبألفِ ليلٍ كُنتِ خيرَ كتابِ

    استدعاء "ألف ليلة وليلة" يوحي بثقافة بغداد السردية والأسطورية، والبيت يعكس تمجيدًا لمكانتها في المخيال العربي. و"الخلود مهابةً": تركيب بديع، يجعل من المهابة وسيلة للخلود.

ويشير لثقافتها وأبداعها بقوله: 

يا ملتقى الأدبِ الأصيلِ ثقافةً    يا خيرَ نادٍ في بديعِ روابـــي

يا منهلَ الابداعِ صفوَ تجاربٍ   يا خيرَ ايقاعٍ لخيرِ جـــــوابِ

وهذه الأبيات تتوسّل التكرار في الاستهلال بـ"يا"، وهو أسلوب إنشائي يوحي بالتقديس والانبهار. ومعانيها تجمع بين الأصالة والتجريب (منهل الإبداع- صفو تجارب)، في إشارة لدور بغداد الثقافي عبر الأزمان.

أما الصورة البصرية والرمزية: فتبدو بارزة في قوله

    بغدادُ والنهرُ الجميلُ كلوحــةٍ    تُنبيكَ فجراً بعدَ ليلٍ كــــابي

فهي صورة فنية رقيقة: بغداد مع النهر لوحةٌ تنبض بالأمل. و"فجر بعد ليل كابي": استعارة تمثل الأمل بعد الألم، وهي صورة ذات طابع رمزي تاريخي وسياسي.

ويستحضر هويتها بقوله:

    وتمدّنٍ وتلوّنٍ وتبغددٍ    وتصوّفٍ في حلقةِ المحرابِ

    وتمرّدٍ وتصعلكٍ في حانةٍ    وغناءِ سكرٍ في انتشاءِ خوابي

وهذه الأبيات قمة في الجمال الشعري، ترسم بغداد كمدينة متعددة الأوجه: التمدّن، التصوّف، التمرّد، الغناء. "تبغدد": نحت لغوي لطيف يعكس التفرّد البغدادي، وكأنه فعل له خصوصية. والتنقل بين "المحراب" و"الحانة" يرسم لوحة شاملة للروح البغدادية المتسامحة والمتعددة.

اما بغداد في ضمير الشعر فقد عبر عن ذلك بقوله:

    بغدادُ والشعراءُ منكِ تعلّمــوا    حُبّ الحياةِ وحَيْرةِ الألبـــــــــابِ

    وتطاردوا وتساجلــــوا في حُسنها  وترقرقوا غزلَ المها برِكابِ

فهو هنا يُنزل بغداد منزلة المعلم والملهم للشعراء." ترقرقوا غزل المها" تعبير عن الرقّة والعذوبة، والمها رمز تقليدي للجمال العربي.

أما ختامها فهو وعد وأمل، ختام مشرق رغم الكآبة التي سبقت، فيه إصرار على اللقاء والنهوض:

وسنلتقيكِ حبيـــــــــــبـةً ونديمـــــــــــــةً  وستنهضينَ برغمِ كلّ خــرابِ

أما سماتها الفنية العامة فلغتها فصحى رشيقة، لا تكلّف فيها، مع ميل إلى التعبير المجازي والرمزي. وايقاعها يتماسك بحر القصيدة العمودي ويعزز النغمة العاطفية. وصورها بصرية وذهنية، تتنوّع بين اللوحة، والظل، والسراب، والمحراب، والخمرة، وكلها تخدم تعددية بغداد الرمزية.

والقصيدة ليست مجرد مديح لبغداد، بل هي تأريخ شعري لروحها، بماضيها وثقافتها وتناقضاتها، وفيها قدر كبير من الإبداع في استحضار المكان بوصفه كائنًا حيًا متعبًا لكنه لا يموت. أوجه البلاغة تتوزع بين الاستعارة، الكناية، الطباق، التقديم والتأخير، الموسيقى الداخلية، وكل ذلك يجعل من النص نموذجًا جميلاً للشعر الوجداني الحديث بلغة تراثية الشكل وروح حداثية.

 

المشـاهدات 22   تاريخ الإضافـة 11/05/2025   رقم المحتوى 62781
أضف تقييـم