الأحد 2025/6/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 23.95 مئويـة
نيوز بار
أبو الضيم!!
أبو الضيم!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

احلام قهر ممسرحة

 

شوقي كريم حسن

 

{ دون اهداء……!!

 

{الشاعر لا يموت، فقط يغلق فمه، لكن صمته يصرخ في كل قصيدة.}

 

{توماس هاردي}

 

(ضوء خافت يتسلل شيئًا فشيئًا، يكشف مساحة ضيقة تتوسطها حفرة ترابية مفتوحة، حولها بعض الأحجار الجافة، وقطعة خشب مسنّدة على طرف الحفرة… لحظة صمت ثقيل، لا صوت سوى أنين بعيد كأنه صدى قادم من جوف الأرض. يدخل موفّق محمد بخطوات مترددة، يحدّق في الفراغ، ثم يقترب من الحفرة ويجلس على حافتها، متأملاً.)

 

موفّق محمد:(يغمغم كمن فقد حسّ السمع والبصر)هاهنا…هاهنا نصلُ جميعاً…عجبي عليك يا قبر، كل هذا الفراغ ولا كرسي واحد؟

 

(ينظر حوله، يشمّ التراب، يضحك)

 

رائحة الطين العراقي… آه يا حسن، لو تدري!كنتَ تقول: “ماكو عتاب بين شاربين، الخمرة تصفّي الحساب.”

 

وينك هسه؟

 

قلت راح تزورني، بس نسيت تجيبلك دورق، نسيت المزة…(ينظر للأفق، يلوّح بيده)يا حسن! الجلسة ما تكمل بلاك… ولا بلا شي بيه طعم…

 

(يصمت، يخرج من جيبه قنينةصغيرة، يتفقدها، فارغة)حتى آخر قطرة… راحت!

 

(يدخل رجلان بملابس بيضاء ناصعة، وجوههما بلا ملامح واضحة، يتحركان دون صوت، يقتربان من موفق، يقف فزعًا للحظة ثم يضحك)

موفّق محمد(يهمس)منكر ونكير؟

وين السجلات؟ لا دفتر ولا قلم؟

شنو يعني؟ الحساب صار رقمي؟

(يتقدم بخفة، يحاول النبش في جيب أحدهما، الرجل لا يتحرك)

سؤال وجواب؟

ها… اسألوني!

أنا ما قتلت، ولا سرقت، بس كنت أحيا… بالحسرة!(يصرخ فجأة)

ذنوبي؟آني ذنبي إني عشت بوطن… كلشي بيه مقلوب!اللي يصرخ يُقتل، واللي يسكت يُدفن حيّ!

ذنوبي إني ما صدّقت الأخبار…إنه بغداد عايشة…وأن الوطن بخير!

(يتجه نحو منتصف الخشبة، ينظر للأعلى، يتنهّد، ثم يجلس القرفصاء)

موفّق محمد:حتى الغربة كانت أحنّ من تراب الوطن…غربة بلا ناس، ولا سوالف، ولا مواويل…بس يمكن أحن… من جلوسك وحدك، وأنت تتمنى… قنينة خمر تنقذك من صحوة الواقع…

(يقف فجأة، يصفق، ثم يضحك بصوت عالٍ)

موفّق محمد:آه… نسيت!نسيت قنينة الخمرة تحت السرير!مسكينة… تنتظرني يمكن تموت كمداً

لازم أرجع… لازم أرجع قبل ما يجيها العفن!

(يتجه نحو طرف المسرح كأنه يهمّ بالصعود من القبر، يلتفت نحو الرجلين بالبياض)

موفّق محمد:—هااا… بعد ما نبدأ الحساب؟ولا اكتفيتوا بيَّ شاهد؟

أصلاً، الوطن هو اللي لازم تنصبوله محكمة،وتقعدوه على الكرسي،

وتسألوه:ليش قتلت أولادك… وخليت المجرم يعمّر قصره من عظامهم؟!

(ضوء أبيض ساطع يبتلع المشهد، ثم عتمة فجائية..الضوء يعود خافتًا… موفّق واقف وسط المسرح، يحك رأسه بحيرة. الرجلان بالملابس البيضاء ما يزالان واقفين، دون حركة. ثم، فجأة، يصدر من أحدهما صوت رخيم بارد.)

الرجل الأوّل:-الاسم؟

موفّق محمد:—(يرفع حاجبه)بعد كل هالعمر تسألني عن اسمي؟

مو مكتوب عندكم ..لو صارت ملفاتنا تابعة للبلدية؟

الرجل الثاني:—المهنة؟

موفّق محمد:-(يضحك بسخرية)هذي لازم تمتحن بيها كلّ من مرّ بالعراق!

كنت شاعر، حمال، عامل بناء، بائع سكائر على الرصيف،وآخر شي… ميت بالحسرة!اختار اللي يعجبك، كلهم ما يدفعون إيجار قبر!

الرجل الأوّل:-هل آذيتَ أحدًا في حياتك؟

موفّق محمد؛—(يتمدد على الأرض بكسل)بس نفسي… آذيتها يوم قررت أصدق الحكومة!

الرجل الثاني:—هل سرقت؟

موفّق محمد:—(ينهض فجأة ويشير بيده كأنه يخطب)أنا؟!أنا سرقت؟

أكو واحد يسرق نفسه؟ما لقيت شي حتى أسرقه!الخبزة كانت تنطيني ظهرها والدولة تنطيني خطبة الجمعة!

الرجل الأوّل:—هل كنتَ تؤمن بشيء؟

موفّق محمد:—آمنت بكل شيء… وخسرت!آمنت بالناس، وخانوني

آمنت بالحب، طلع إعلان لعطر رخيص

آمنت بالدين، طلع استثمار سياسي!

الرجل الثاني:—(ينظر للرجل الأول)

سجّل: كافر بالواقع… مؤمن بالخرافة.

موفّق محمد:—-(يضحك، يصفق)

هاي قوية!يعني، أنتم همّ مثقفين؟

تقرون تقارير أمنية ودواوين شعر؟

تدرون… مرّة كتبت قصيدة عن الوطن

طلعت مذنب بتهمة نشر الحزن العام!

الرجل الأوّل:—ماذا تقول عن وطنك الآن؟

موفّق محمد:—( يصمت، ثم يتنهد)

أقول له:

يا وطن… يا قبراً جماعياً مفتوح

كنا نحلم تصير بيت، صرت خندق!

كنا نحبك، غدرت بينا!

ما ظل بيك غير الجدران تبكي!!

(لحظة صمت، الرجلان ينظران لبعضهما، ثم يلتفتان له من جديد)

الرجل الثاني:—-القرار النهائي… معلق.

موفّق محمد:—معلّق؟شنو آني صفقة بمزاد علني؟مو كافي قضيت عمري معلّق بين باب وجواب،حلم وخوف، حب وحذر؟حتى بالآخرة… ناطين قرار من لجنة؟!

(ينظر فجأة ناحية الجمهور، كأنه أدرك شيئًا مفاجئًا)

موفّق محمد:-/يا جماعة!

أنا نسيت قنينة الخمرة…تحت السرير…وإذا طولتوا بالتحقيق تموت عطشانة!

الرجل الأوّل:—-العودة غير ممكنة.

موفّق محمد:—(ينفعل)مو عدالة!

هاي خيانة الخمرة!هاي جريمة كبرى!

الرجل الثاني:—قضيتك ليست معنا فقط… هناك لجنة أخلاق عليا.

موفّق محمد:—(ساخرًا)آه… لجنة؟!

يعني لازم أقدم طلب، وأراجع، وأنتظر الموافقة،وبعدين يقولون لي: “رجاءً راجع بعد أربعين سنة”؟

مثل ما كنت أراجع على قطعة أرض وما حصلتها؟!

الرجل الأوّل:—(يتجه نحوه، نبرة باردة)موفّق محمد، أنت مدان…..!!

موفّق محمد:—(يتراجع بخفة)مدان بشنو..بالأحلام..بالضحك المر..بالعمر اللي راح يركض ورا راتب تقاعدي ما إجا؟

الرجل الثاني:—مدان… لأنك عشت بصمت!

موفّق محمد:—(ينفجر ضاحكًا)

آخ يا وطن… حتى الصمت صار جريمة!

(تبدأ الأرض تهتز بهدوء… إضاءة حمراء خفيفة تملأ المكان)

موفّق محمد:—(بصوت خافت وهو يذوب في الظل)قلّي… يا قبر..تتّسع لجسد تعوّد الضيق؟ولا تصير سجناً ثاني… لواحد ماضايقته الدنيا كفاية؟!!

( عتمة… ضوء باهت يعود تدريجيًا. موفّق يجلس القرفصاء على حافة القبر، بينما الرجلان بالبياض واقفان بصمت…  صوت بعيد يأتي من الخارج ، كأنه ناي يبكي من مكان لا يُرى، ثم يظهر حسن، صديق موفّق، مترنّحًا بخطى سكرى، يحمل قنينة خمر نصفها فارغ وكيس نايلون فيه شيء من المزة الرخيصة… عيونه دامعة، ملامحه مغبرة.)

موفّق:—(ينهض مفزوعًا، يمد يده إليه)حسن…اجيت..لك وينك؟ صارلي سنوات أنتظر هاللحظة..وينك؟

حسن:—-(يضحك ببكاء، يقترب منه، ثم يجلس على حافة القبر المقابلة)

أجيت يا صاحبي…لكن الطرق كلها  مسدودة،أعرف دربك، بس ما أعرف دربي…ما كنت أريد أشوفك هيچ…

وجهك صار طين،بس بعده… بعده يلوم!!.

موفّق:—(يضحك بمرارة، ثم يهتف)

إيه ألوم.،ألومك وألوم الأيام،

ألوم هالوطن اللي شرب دمنا…

ولسه يطلب منّا نغنيله!

(يتوجه إلى الجمهور، صوته يعلو ويتلو مقطعًا من إحدى قصائده:)

ما ظل ضلع ما انكسر

ما ظل عَيب ما نستر

ما ظل صوت ما انذبح

وإحنا نكول: بعد بكّر…!

موفّق:—-لك حتى الدموع ملت وجوهنا،يا حسن… ما ظل إلا الغصة تسوي زفة بصدر كل واحد من عدنا!

حسن:—(يمد القنينة نحو موفق)

اشرب… هاي آخر ما تبقّى منّا،نص عمرنا صبّيناه بكؤوس الشعر،ونصه ضاع بين باجات النقابات ووعود الوزارات…!!

موفّق:—-(يرفض القنينة، يتمرغ بالأرض)لا أريد أشرب…الخمرة صارت عيب بعد ما صار الوطن نشرة جوية…

يمطر علينا خيبة كل صباح!

حسن:—-(يبكي، ثم يقول ساخراً)

أتذكّر؟مرّة كتبنا قصيدة نسينا بيها نكتب اسم الله ..انحكمنا بالكفر…

وكتبت أخرى، فيها اسم الوطن بكل سطر…انسجنت بتهمة الإساءة لمعنويات الدولة!

موفّق:—-(يقف، يحدق في الرجلين البيض)سمعتوا،،،مو احنا اللي كفرنا…

اللي كفر الوطن،،،،لما باعنا بثمن حصانة نائب!!

(يتلو بشجن شديد، من إحدى قصائده:)

أنا الماشي على جرفين

حد الماي وحد النار

أنا اللي كل ما قالوا: احذر

أكول إلهم: أنا المختار

أنا الآني… عراقي!

الرجل الأول:—(ببرود)هذه ليست محكمة شكوى…

موفّق:—(ينفجر)مو محكمة،،زفّتونا للتراب بلا محكمة،حرقتونا بالانتظار،

وأنتوا تقولون مو محكمة'''وين نشتكي'''على منو نرفع قهرنا..على السماء اللي سكتت،،،،لو على الملائكة اللي بطّلت تسجل لأن دفترها ما عاد يشيل؟!!

حسن:—(بكاء مرّ)موفّق… أنا مو جاي أواسيك،أنا جاي أعترف…تركتك وحدك،كتبت قصايدي للناس، ونسيت وجهك!!

موفّق؛—لا تبچي، لا تبچي يا حسن…

البچي صار نشيد وطني عندناوما حد سامعه!!

(يصرخ، ثم يهمس كأنه يُسلّم روحه)

يا وطن…طلعت ما بيك إلا طين،

والماي لو شربناه… يجفينا!

وجوهنا متعبة من المرايا،

وأحلامنا… تسولف للموت عن غصّتها… وتنام!

(الضوء ينسحب رويدًا رويدًا، يغمر القبر بالسواد، ويبقى صوت الناي حزينًا، يعزف من بعيد…)

( ظلام دامس. فجأة ضوء ساطع يسقط على رجل ضخم، ملامحه غائمة، يتقدّم ببطء من خلف الضباب. يلبس عباءة ممزقة، وجهه خليط من الأب وشيخ العشيرة والجنرال والموظف الفاسد والحاكم والنبي الكاذب… هذا هو: الوطن.)

الوطن:—(بصوت ثقيل كأنه قادم من فم جبل محروق)موفّق…يا ابن الصراخ المعطّل'''يا شاعر الخراب،

ليش تبچي عليّ وانت اللي هجيتني بأوّل قصيدة؟!

موفّق:—(ينهض، يضحك بمرارة)

هجيتك،،،،أني هجيتك…. أنا كتبتك بدم أمي،،،،رسمتك على جدران المدارس بحبر دموعي،وبنيتك بيتاً وهمياً على ورق كراس فارغ!!

الوطن:—-(يقترب، نبرة تهكّم)

كتبتني،،إيه، كتبتني…بس حميتني من أعدائي،،،خليتهم ينهشوني،وانت واقف، تكتب شعر ميت!!.

موفّق:—-(يصرخ)أنا؟أنا اللي قاومت!

أنا اللي قلت “لا” وانت نايم بحضن التجّار وسفالات الساسة،،أنا اللي كتبت:يا وطني…

يا خيمة مثقوبة بالحرائق

يا طلقة طائشة بين راس طفل

وبين صدر أم… ما عادت تصيح!

الوطن:—(يضحك، ضحكة فاجعة)

كتبتني، بس ما حميتني!خلّيتني سوق نخاسة،باعوا بيّ أهلك… واشتروك حفنة سكارى!!'

موفّق:—(يتقدّم نحوه، يقبض على عباءته، يحدّق بعينيه)وإنت،،وين كنت،،لما الجوع صار مواطن

والحلم صار تهمة،،والقصيدة صارت جواز عبور للمقبرة؟!

الوطن:—(بصوت متهدّج)أنا كنت أبكي…بس بكيت بصمت،

وما سمعتوني!!

(لحظة صمت… ثم بصوت مزلزل، يتلو موفّق مقطعًا من قصيدة أخرى:) موفق:—   الوطن كان طين،

صار وِردة بفم القاتل

صار نشيد نردده واحنا ميتين من الجوع ..صار إعلان…

وإحنا كومة تراب تنتظر مطر ما يجي!!

الوطن:-/(يهدأ فجأة، يجلس على التراب)ما ظل بيّا غير صدى أرواحكم…

ما ظل بيّا غير الشهداء يتزاحمون عَ التوابيت…وأنا أدوّر لي حفنة أمل،

وما ألاكي إلا شعراء يتصارعون على جائزة الحاكم!

موفّق:—(يجلس بجانبه، يمد يده ولا يلمسه)وإذا أحنّا شعراءك…ليش تركتنا نضيع؟ليش خليت مَن لايكتب… يكتب مصيرنا،،،ليش سكّت، يا وطن؟!

الوطن؛—-(همسًا)سكت…لأني… أنا أبو الضيم،،،ومحد يريد يسمع صوته لما ينوح!

(يصمت الاثنان… ثم ينهض الوطن ببطء، يعود إلى الضباب.)

موفّق:—(ينظر خلفه، يقول وكأنه يختم الرواية كلها)الوطن؟

حفرة…بس مو قبر!

الوطن… ثقب أسود…

يسحبك حتى آخر تنهيدة… ويكلك: “عيب تبچي… انت رجال!”

(يدير ظهره، ويمشي باتجاه القبر، ثم يتوقّف فجأة، كأنّه تذكّر شيئاً، ينظر للجمهور، يضحك ضحكة موجوعة.)

موفّق:—/بس تدري،،،،باقي تحت سريري…قنينة…ناطرة،،وخايفة تموت… عطشانة!

صوت بعيد:-– موفق يهمس به:

أكول للتراب: ما تقدر تاخذ كلشي…لأنّي، ظلّيت… قصيدة… بلا قبر!!

(الضوء خافت. موفّق وحيد وسط القبر، يُنصت. كل شيء ساكن. فجأة يبدأ بحفر التراب بيديه، كمن يُنقّب عن شيء في ذاكرته. يلهث. يصيح بصوت خافت أولاً، ثم يعلو رويدًا رويدًا.)

موفّق:—عدي…عدي يا ولدي…

اطلعلي من بين هدومك المدفونة،

افتح عيونك المطمورة،احچي…

احچي ولو مرة وحدة، قولي: بابا!

(سكون. صدى صوت طفولي بعيد جدًا: بابااااا…)

موفّق:—-(يرتجف، يضم يده لصدره كمن حمل جثّة ابنه)كنت أدوّر عَ حليبك،دورتك بكل قذيفة طاحت عَ السطح،بكل حفرة قالوا ما بيها شي،

بس كانت تدفن وجهك…وتخليلي صرخة بظهري!

(تبدأ الأرض بالاهتزاز الخفيف… ينبثق ضوء أحمر من أسفل المسرح، يصعد عديالشاب، مغبر، مغطى ببطانية الجيش التي دفن بها، يمشي بصمت، ينظر لأبيه.)

عدي:—بابا…ليش ما لحقتني،،ليش تأخرت؟

موفّق:—(ينهار)كنت أكتب قصيدة…

بس نسيت أكتب بيها رقمك،وانت رحت…رحت وگبلت التراب… قبلة يتيمة!

عدي:—(يتقدم نحوه، يرفع يده الملطخة بالتراب)بابا…شفت الموت؟

كان لابس بدلة رسمية…يحچي بلكنة غريبة،بس عنده بطاقة وطنية… باسمك!

موفّق:-/(بذهول)باسمي؟

عدي:-/إيه…گالولي: ابن شاعر؟

ابن مرتاب؟

ابن اللي سطر ضد الدولة جملة اعتراض؟

ابن اللي قال: لا؟

قلتلهم: إيه…وما لحگت أكول: سامحوني.!!

(صمت مطبق… ثم يتلو موفّق مقطعًا شعريًا من موفق محمد، كأنه يجلد به نفسه:)

أنا أبو اللي دفنوه وهو يضحك

وأنا أبو اللي كتب وصيته عَ كيس خبزوقال: “بابا لا تبچي… بس لا تنساني!”

عدي:—بابا…أنا نسيت الوجوه،

بس ما نسيت ضحكتك…كانت تطلع من صدرك،تشبه حلمي…وكل شي يشبه الحلم… يُدفن!

موفّق:—(يصرخ كمن يحاول الإمساك بظل الحياة)يا ولدي…كنت أكتب لتعيش،،،وكتبت فمِتّ،،كنت أخاف عليك من العطش،بس ما حسبت حساب الخرسانة…خرسانة الوطن،

اللي ما تعوف حتى عظامك ترتاح!

(يتقدّم عدي، يلامس وجه أبيه، ثم يسحب كفه ببطء.)

عدي:-بابا…ما جبتلي دفتري وياك،،وين هديتي اللي وعدتني تشتريها لما تستلم أول مكافأة من اتحاد الكتّاب؟

موفّق:—(ينهار تمامًا، يصرخ)ما استلمت غير صكّ موتك،،

وورقة يگولون بيها: انسه ابنك…وبقيه بلا قبر !

(ينحني، يضم عدي، صمت طويل، ناي حزين جداً يتسلل من بعيد…)

عدي:—(همسًا، كأنه يعود إلى التراب)

بس بابا… لا تنساني…لو متّ مرّة،

فأنته تموت بيّ كل يوم!

(ينسحب عدي ببطء، يغمره التراب تدريجيًا، يعود إلى المقبرة الجماعية. يبقى موفّق يحدّق في الحفرة، جامدًا كصخرة تُبكي الريح.)

موفّق:—-عدي…

ابن الشِعر…

ابن الخوف…

ابن العراق…

خلّوني أرجع يمك،

يمكن التراب… أحنّ من العيون اللي غفلت عَن وجعك

(ضوء باهت يتسلّط على موفق الجالس القرفصاء. حوله تراب، وأوراق متناثرة. لا يملك قلمًا، فقط إصبعه يغمسها في رماد، ويخطّ على حائط القبر.)

موفّق:—(بصوت واهن كأنه يُولد من جسد موجوع)راحوا…كلهم راحوا…

ما ظل غيري أنا…وشي يشبه وجهي… بالحفر.

(ينظر إلى كفه اليمنى، ينفخ عليها)

هاي مو إيدي…هاي غصن شجرة يابسة،جفّ من كثر ما كتبوا عليه “ممنوع الأمل”.

(يتنفس، ثم يشرع كأنه ينقش شعرًا على الهواء)قصيدتي الأخيرة…

بلا عنوان،لأنّ ما ظل بيّ لا وطن ولا حلم يستحق اسم.قصيدتي الأخيرة…مو للمحبّة،للناس اللي دفنوا أولادهم،وسوّوا صمتهم جدارية!

(ينهض ببطء، يقترب من الجدار، يرسم بظله ظل طفل)

موفّق؛—قصيدتي… ما بيها وزن،

لأن الحياة بلا توازن،والأحلام تمشي عرجة…بس إحنا نصفّق لها، ونكول: ماشية!

(ينظر إلى أعلى، كأنّه يخاطب إلهًا لا يستمع)

موفّق:—يا ربّ…لو تسمع،خبّرني ليش الشعراء… يموتون وما يخلصون من الكتابة؟ليش تبقي الجرح ينزف

حتى بعد ما نلبس الأكفان؟

(يجثو على ركبتيه، يضع جبهته على التراب، يهمس:)

موفّق:—عدي…سامحني،ما قدرت أخلّيك تكتب أبجديتك الأولى…لأنّي كنت مشغول أدوّر على حرف الـ”لا”.

(يصمت، ثم بصوت خافت جدًا:)أنا شاعر…بس شعري ما حرّك دبابة،

ولا غيّر قرار،بس غيّرني أنا…

خلاني أحچي ويا نفسي،

وأخسر الناس،وأربح قصيدة… محد راح يقراها.

(يرسم دائرة صغيرة أمامه، يدخل داخلها كجنين، يتكوّر، يهمس بصوته الأخير:)قصيدتي الأخيرة…أكتبها وأنا نايم بقبر،بس سامع أصوات أطفال…

يضحكون…بلكي ضحكتهم… تكسر الحجر…!!

( لا ستار في القبر)

 

 

المشـاهدات 122   تاريخ الإضافـة 20/05/2025   رقم المحتوى 63088
أضف تقييـم