الجمعة 2025/6/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 33.95 مئويـة
نيوز بار
الحنين إلى الطاغية
الحنين إلى الطاغية
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي 
النـص :

 

ثمّة شيء مريض يتسرّب في ذاكرتنا كالماء العكر، يشوّه المرايا ويُعيد رسمَ الوجوه كما لو أننا لم نرها يوماً تحت السياط. يُقال إن الإنسان يحنّ إلى ماضيه حين يخذله الحاضر، لكنّ الأخطر أن يحنّ إلى سجّانه، إلى مقصلةٍ ما زالت تقطر منها الدماء.

 

ها نحن نسمعهم، في المقاهي وفي مواقع التواصل وعلى أرصفة الملل، يهتفون بأصوات خافتة: "والله كانت أيام صدام أحسن"، "الدولة كانت قوية"، "كنا ننام وبابنا مفتوح".

يقولونها وكأنهم لم يناموا يوماً في ظلال الخوف، وكأن المقابر الجماعية لم تكن موشومة على خارطة العراق كندوب، وكأن صدام لم يوقّع إعدام عشرة آلاف شاب شيعي خلال ثلاثة أيام في انتفاضة 1991، وكأن مدينة مثل الدجيل لم يُدفن أبناؤها أحياء لأن أحدهم حاول اغتياله!

 

هل نسيتم أن مجرّد انتقاد للحاكم في جلسة عائلية يمكن أن يُدخل العائلة كلها إلى أقبية الأمن العام؟ هل نسيتم أن خيانة "الوطن" كانت تبدأ من نكتة وتُختتم بالرصاص؟

ألا تذكرون كيف أُعدم الآلاف من الضباط الشيعة في الثمانينات لمجرد الشكّ في ولائهم؟ كيف امتلأت سجون أبو غريب ونقرة السلمان والرضوانية بطلاب ومهندسين وأدباء، لا لشيء سوى لأنهم أرادوا أن يعيشوا بلا شعارات وبلا صور معلّقة على جدران المدارس؟

 

ذاك الذي لقبوه "القائد الضرورة" حكم العراق ثلاثين عاماً بقبضةٍ حديدية، جرت خلالها ثلاث حروب كارثية، بدأت بالحرب الإيرانية التي أكلت مليون شاب، ثم غزو الكويت الذي جرّ على البلاد حصاراً جعل العراقي يبيع أبواب بيته ليشتري الطحين، ثم الحرب الأخيرة التي أخرجته من حفرة وأدخلتنا في فوضى لا تنتهي.

فأي خيرٍ في ذاك "الزمن الجميل" الذي يبكي عليه البعض اليوم؟

 

ابنه عدي، الذي كان يمسك بملف الرياضة والثقافة والإعلام، لم يكن سوى سفّاح مراهق، يقتل الرياضيين لأنهم خسروا، ويجلد الصحفيين لأنهم لم يمدحوه بما يكفي.

وكان قصره في الحارثية مليئاً بغرف للتعذيب والصراخ، فيما كانت بنات العراق يُخطفن من الجامعات ليُقدّمن له كـ"هدايا" تليق بابن الطاغية.

 

وحين انتفض الجنوب والوسط في آذار 1991، أطلق عليهم صدام تسمية "الغوغاء"، واستعان بالحرس الجمهوري والأمن الخاص والحرس الخاص الخاص ليحوّل المدن إلى مسالخ.

لقد قُصفت كربلاء والنجف كما تُقصف الجبهات، وارتُكبت مجازر في البصرة والديوانية والناصرية، لا تزال رائحة الدم عالقة بجدران البيوت حتى اليوم.

 

ومع هذا، ومع كل هذا، هنالك من لا يزال يتحدّث عن "الهيبة"، كأن الهيبة تعني الرعب، وكأن الدولة الناجحة هي التي تُخيف مواطنيها لا التي تحميهم.

 

كان الطاغية يعرف كيف يبني إمبراطورية خوف، وكيف يُحوّل المواطن إلى شبح لا يعرف سوى الهتاف: "بالروح بالدم"، بينما هو يُجبرهم على التبرع بدمائهم في حملات "فداء القائد"، ويودعهم في زنزانات رقمية لا يعود منها أحد.

 

واليوم، حين نسمع من يترحم على "أيام الخير"، علينا أن نتساءل: أي خيرٍ هذا الذي يصنعه الحصار والمشانق والسجون؟

أليس من المعيب أن نُجمّل ماضينا القبيح لأن حاضرنا فيه بعض من الفاسدين ؟

أن نحرق دفاتر الوجع لنفتح كتاب الطغيان من جديد، فقط لأن ما بعد الديكتاتورية كان واقعاً اتسم بالعنف والطائفية والصراعات المأساوية.

 

المشـاهدات 227   تاريخ الإضافـة 03/06/2025   رقم المحتوى 63682
أضف تقييـم