الإثنين 2025/7/7 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
أسس المعرفة الصحيحة
أسس المعرفة الصحيحة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

   

حيدر الحجاج.

 إن استلهام المعرفة يبدأ من القاعدة، فكلما اتسمت هذه القاعدة بالشدة والصرامة، يكن استلهام الخيوط المعرفية بجوانبها المضيئة استلهامًا منطقيًا قادرًا على استدراك الحيثيات التي تكون الشعلة التي تنير  العقل  وتنظيم السبل التي تحاكي الوعي الجمعي للمجتمع. وبناء قاعدة لرقيّ ذلك المجتمع يبدأ من المسرح الهادف في تجسيد قضايا الشارع، أو من فكرة يطلقها معلم في درسٍ فتلامس الذهن وتستوعبها أدوات المنطق وتتناغم مع السبل التي تبني مجتمعات تتواءم مع أبجديات تعليمها الذي تنهض به الأمة. وقديمًا تعلمنا من سبقنا معرفيًا، وندين له بالعرفان كله، أن قيمة المرء بما يتعلمه ويعلّمه، وأن المعرفة ليست حِكرًا على فئة، إنما مسؤولية تتوزع على الجميع. لكننا اليوم نعيش زمنًا تغمره فوضى رقمية، طوفان من التفاهة التي باتت تُسوّق كقيم ومعايير نجاح، لا سيما في منصات التواصل الاجتماعي، حتى تحولت إلى “ترند” يصفع وجهك وذائقتك دون أن تجد حاجزًا يردعه،               بل صار في كل منزل، في متناول كل يد، بل وكل عقل يتشكل وفق ما يُبَثّ له لا وفق ما يُبنى فيه. وهنا تبرز خطورة المرحلة؛ إذ لم تعد المسألة مجرد تسلية عابرة، بل باتت انزلاقًا ثقافيًا يُضعف بنية الوعي، ويشوّه أُسس الذوق العام، ويخلق أجيالًا لا تسائل ما يُقدَّم لها، بل تستهلكه طوعًا وكأنّه قدر. في هذا السياق، نجد تحذير أمبرتو إيكو صادقًا حين قال: “وسائل التواصل الاجتماعي أعطت الحق لفيالق من الحمقى أن يتحدثوا”، مشيرًا إلى كيف تحولت المساحة العامة إلى فوضى لا تفرّق بين المفكر والمهرّج، ولا بين المُبدع والمُستَعرض. أما نيتشه، فكان أعمق في نظرته حين نقد “القطيع”، داعيًا إلى تجاوز هذا التماهي الجماعي نحو “الإنسان الأعلى”، الذي لا يخضع للسطحي والمألوف، بل يصنع قيمه بمعزل عن التصفيق العام. والواقع أن جمهور التفاهة اليوم هو نتاج بيئة إعلامية تهيمن فيها الرأسمالية الرمزية، وهو ما تناوله بيير بورديو حين بيّن كيف يُعاد إنتاج الهيمنة الثقافية عبر وسائل الإعلام التي تُسهم في صياغة أذواق الناس واتجاهاتهم، لا باعتبارهم مفكرين بل مستهلكين. هذه الهيمنة لا تعمل فقط على تسويق محتوى فارغ، بل تسوّقه بوصفه “محتوى جماهيريًا”، فيغدو معيار القبول هو عدد المشاهدات، لا عمق الفكرة. ومن هنا جاء نقد هربرت ماركوز للإنسان ذي البعد الواحد، ذلك الذي تفرغه الثقافة الاستهلاكية من التفكير، وتدجّنه على تكرار السائد، فلا يرى الحاجة إلى التغيير لأنه لا يشعر أصلًا بوجود خلل. إننا أمام معركة واضحة، ليست بين جيل وآخر، بل بين الوعي والخواء، بين من يرى أن المعرفة بناءٌ مستمر ومن يرى أن الضجيج كافٍ ليصنع حضورًا. لهذا نحن بحاجة إلى مقاومة معرفية، مقاومة لا تتسلح بالعنف ولا بالرفض الأجوف، بل بالطرح البديل، بالفكرة التي تُقال في المسرح وتُنبت في الصف الدراسي وتُكتب في مقال وتُصاغ في عمل أدبي وفني يُعلي من شأن الإنسان في مواجهة موجات المسخ. تلك المقاومة تبدأ من إعادة الاعتبار للمعلم، للفنان، للمثقف، لمن يحمل مشروعًا ثقافيًا حقيقيًا لا يهادن السوق ولا يطلب رضاه، بل يشتبك مع الواقع ليعيد صياغته، لا ليكافئه على تفاهته. إن المعرفة التي لا تُمارَس ولا تُدافع عن وجودها تتحول إلى مجرد ديكور نخبوي، بينما التفاهة التي تُترك بلا نقد تنمو مثل الطحالب على سطح العقل الجمعي، تفسده وتمنع عنه الضوء. لذا فإننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نكون شهودًا على المعنى لا على الانحدار، وأن نعيد الوصل بين ما نعلمه وما نؤمن به، فلا نغرق في العدمية ولا نستسلم لسطوة اللحظة، بل نزرع في أنفسنا وأجيالنا قدرة على التمييز، وعلى القول لا حين يكون الصمت خيانة لكرامة العقل

المشـاهدات 23   تاريخ الإضافـة 06/07/2025   رقم المحتوى 64590
أضف تقييـم