
![]() |
قصة قصيرة [ النحس ] |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : لم يدُرْ في خلدي قط، وأنا أغلق باب شقتي صباح ذلك اليوم، أن أجد نفسي، غِبَّ غياب شمسه، مرتمياً في أحضان امرأة حسناء، بالكاد أعرفها. عشية ذلك اليوم خلدتُ إلى النوم مبكراً، مُؤمِّلاً نفسي بنوم عميق هانئ استعداداً لنهار طويل ومهم يتحدد فيه مستقبلي المهني، وربما مسار حياتي، ولكن . . . هيهات. لم تمرّ سوى بضع ثوان على غفوة حصلت عليها بشق الأنفس، بعد أن جرّبت كل ما تعلمته من تقنيات الاسترخاء للحصول عليها، حتى أيقظني مواء سونيا. - اللعنة! نسيت أن أطعمها. عدت إلى الفراش بُعيد إطعام سونيا وأنا متشائم من إمكانية عودتي إلى النوم في وقت قصير. هكذا هو حالي؛ في كل مرّة ينقطع حبل نومي في بدايته، أعاني الأمرّين للعودة إليه. صرتُ أتقلب في الفراش بين الفينة والأخرى بحثاً عن أفضل وضع لجسدي لاستقدام مَلَكِ النوم. رحتُ أراجع في مخيلتي كافة السيناريوهات الممكنة لما قد تؤول إليه الأمور غداً في مقابلة العمل، مستذكراً كل ما تعلمته من استراتيجيات وآليات للحصول على الوظيفة. كانت وجوه المُقابِلين تتوالى في مخيلتي فراداً ومثنىً وثلاثاً مع توالي الأسئلة المتنوعة، تارة حول سيرتي الذاتية ومؤهلاتي وخبراتي العملية، وأخرى حول الوظيفة التي أتنافس عليها. كنت أبلي بلاءً حسناً وبدأت أشعر بالاطمئنان وقد زال التوتر مني حتى وجدتُني أدلف قاعة مستطيلة يتوسط ضلعها القصير، وعلى مسافة مترين من الجدار المقابل للمدخل، طاولةٌ مستديرة حولها أربعةُ كراسي مغلفةٌ بقماش من القطيفة التي استهجنتُ لونَها البرتقالي الفاقع مذ وقع بصري عليها. ردّ الرجلان تحيتي بابتسامة ودودة لم أنشغل بها طويلاً، إذ جذب انتباهي على الفور نظرات المرأة التي تتوسطهما. شيء ما في وجهها ذكّرني بالسيدة مارغريت تاتشر. هل هو تلك النظرة الجامدة الخالية من أي تعبير وكأنها صادرة من تمثال لرأس آدمي، أم هو أنفُها الطويل المستدق والمعقوف الذي يشبه منقار الصقر الجارح؟ راحت تحملق فيّ مذ دلفتُ القاعة حتى جلستُ على الكرسي الفارغ المنتصب قبالة الوجوه الثلاثة. شعرتُ كأن الثلاثَ عشرة خطوة التي تفصل الباب عن الكرسي صارت أميالاً وليس خطوات. كانت تجول بناظريها حولي كأنها الماسح الضوئي، تارةً يميناً وشمالاً، وغالباً صعوداً ونزولاً. ولكن يا إلهي، لماذا تطيل النظر نحو قدميّ؟ لقد حرصت بالأمس ان أدهن زوج الحذاء الأسود لعلمي بأهميته في قيافة الرجل وخصوصاً في مقابلات العمل. لوهلةٍ فكّرت أن أنظر إلى الأسفل، ولكن تماسكت نفسي وواصلت المسير ثابت الخطى مرفوع الرأس بارز الصدر. استهلّ الرجل الجالس إلى يمين المرأة المقابلة بطرح أسئلة خفيفة لكسر الجمود مع ابتسامةٍ تنمُّ عن طيبة داخلية ارتسمت في وجهه الصبوح. ثم واصل الآخر بأسئلة أخرى عن مؤهلاتي وعما يجعلني أرغب في هذه الوظيفة. سارت الأمور سيراً حسناً فهدأ روعي وبدأت أشعر بالاطمئنان حتى فاجأتني العجوز بعبارة وقعت عليّ وقع الصاعقة: - أنا آسفة، لا أستطيع أن أعطيك هذه الوظيفة رغم مؤهلاتك وخبرتك في هذا المضمار. شركتنا تنتهج سياسة صارمة تجاه هندام الموظفين ومظهرهم، وتُولي أهمية خاصة لهذا الأمر، خصوصاً مع الموظفين الذين يتعاملون مع الزبائن بصورة مباشرة. - وما العيب في هندامي يا أستاذة؟ - هل نظرت في المرآة قبل أن تخرج من البيت؟ - نعم، أظن ذلك، وليس مرة واحدة. - ألم تلاحظ شيئا في حذائك؟ أو لعلّك لا تملك دهاناً للأحذية في دارك؟ ما أن نظرتُ إلى أسفل حتى انطلقتْ من بين شفتيّ كلمة "اللعنة" بصوتٍ خافتٍ يكاد لا يُسمع. ثم أرْدَفْتُ القول: - أرجو المعذرة، يبدو أني قد لبست الحذاء الخطأ. لعلّ سونيا قد عبثت بالدرج الخاص بأحذيتي. - سونيا؟ - نعم، سونيا، قطّتي. رمقتْني بنظرة يشوبها الاستفهام والاستهجان. حاولت أن أشرح لها أن التيار الكهربائي كان منقطعاً حين خرجت في الصباح الباكر وكان الظلام ما يزال مخيماً في الممر المؤدي إلى باب شقتي حين لبست الحذاء. ظلت ترمقني بنظرتها الجامدة وتحوّل وجهُها إلى ما يشبه الصخرة المنحوتة بهيئة بشر، ثم أعقبتها بابتسامة خبيثة كابتسامة اللئيم إذا انتصر. وهنا، انفجر الأدرينالين في عروقي ووقفت واندفعت نحوها بعد أن أزحت الطاولة جانباً وأخذت بخناقها. نهض الرجلان يحاولان تخليصها من قبضتي. وفي خضم هذه المعمعة، وجّه أحدهما لكمة قوية إلى وجهي لكنني تفادياً لها أَمَلْتُ رأسي إلى الوراء بسرعة فائقة ليصطدم بشيء ما صلب، وللحال أفقتُ من نومي وأنا أتحسس رأسي. - اللعنة. ألن تنتهي هذه الكوابيس؟ نظرت إلى الساعة لأرى كم مضى على نومي، وبعيد تأكدي من ضبط المنبه مرة أخرى، أرخيت جسدي على الفراش وعندها فقط شعرت بالعرق الذي بلل وسادتي. أفرغت رأسي من كل ما يداهمه من أفكار في محاولة أخرى لاستدراج سلطان الكرى. - - - - - ابتدأ يوم المقابلة بداية سيئة ثم تعاقبت فيه سلسلة الاحداث المزعجة التي بدت لي كأنها مؤامرة خبيثة دبّرها القدر لتعكّر صفو مزاجي وتُحيل يومي إلى كابوس مروِّع . . . حتى التقيتها . . . هناك . . . بمحض الصدفة. ما أن رنّ المنبه في ذلك الصباح حتى وجدتني أقفز من الفراش فزعاً، حاملاً جسدي المتثاقل ومتجاهلاً ألم الصداع الشديد الذي عزوتُه إلى النوم المضطرب. أكملت طقوسي الصباحية كالمعتاد، باستثناء انقطاع التيار الكهربائي، الذي لم يحصل منذ ثلاث عشرة سنة تقريباً، ما اضطرني إلى استخدام ضوء هاتفي الجوّال حيثما دعت الحاجة. أقفلت باب الشقة بالمفتاح بعد أن استدعيت المصعد إلى الطابق الذي أسكن فيه توفيراً للوقت. راودني هاجس مزعج، وأنا داخل المصعد، بضرورة العودة إلى الشقة.
فتحت محفظة الأوراق وتفحصت محتوياتها. هذه سيرتي الذاتية، وتلك رسالة التزكية وهنا شهاداتي الأصلية مع نسخ ملونة من كل منها. كلها موجودة ومرتبة تماماً كما وردت في قائمة التحقق التي اعتمدتها أمس قبل أن أخلد إلى النوم. انفتح باب المصعد في الطابق الأرضي. حرصت، قبل مغادرته، على مدّ رأسي أولاً لأتأكد من عدم وجود دلال - مالكة العمارة - في الردهة الأمامية للمبنى. يا إلهي، كم هي مزعجة هذه المرأة! ما انفكّت تلاحقني في ذهابي وإيابي طيلة الأسبوع المنصرم، لتطالبني بدفعة الإيجار التي تأخرت عن سدادها. كنت قد أعلمتها بأنني فقدت عملي مؤخراً، عقب تعرض الشركة التي كنت أعمل فيها لضائقة مالية واستغنائها عن خدمات العشرات من موظفيها. وحكيت لها كيف أن النحس يرافقني منذ نعومة أظفاري دون أن يفارقني قط، وأنني لم أجد الأمر غريباً، حين وجدتُني واحداً من هؤلاء الموظفين التعساء. تخلو البناية التي أسكن فيها من مرآب للسيارات، فأضطرُّ أن أركن سيارتي في أقرب ساحة لمبيت السيارات والتي تقع على مبعدة بضعة مباني، أي مسافة ثمان أو تسع دقائق سيراً على الأقدام. خرجت من العمارة أحث الخطى متجهاً نحو السيارة وأنا أتأبط حافظة الأوراق في جانبي الأيسر، بينما أمسك في يدي اليمنى كوب القهوة السفري، الذي أعددته قبل خروجي. أثناء سيري، كنت أرتشف من الكوب جرعاتٍ صغيرةً في البداية، بسبب سخونة القهوة، ما لبثتْ تكبر مع انخفاض حرارتها. أما أفكاري، فقد ذهبَتْ إلى مراجعة معلوماتي عن الشركة التي أتقدم للعمل فيها والتي استخلصتها من موقعهم الإلكتروني. فتحت باب السيارة ووضعت كوب القهوة في حامل الأكواب وحافظة الأوراق على مقعد الراكب الأمامي. شغلت محرك السيارة وحين هممتُ بتحريكها، ضربتُ المقود بعنف صارخاً:
ثم فكرت "يا إلهي! كيف يكون حال سونيا لو تأخرتُ في العودة إلى البيت؟ لقد ذكروا في رسالتهم الإلكترونية أنه نظراً لطول قائمة المتقدمين للعمل فينبغي على المتقدمين أن يتوقعوا الانتهاء في وقت متأخر". نظرت إلى الساعة الإلكترونية الظاهرة أمامي في لوحة القيادة، شبكت رأسي بعشري للحظات. خرجت من السيارة بسرعة وانطلقت كالمجنون؛ أهرول تارة وأجري تارة أخرى، وأحيانا أسير وأنا ألهث. لم أتصور وقتذاك كم سيبدو هذا المشهد غريباً ومضحكاً فيما بعد، حتى بالنسبة إليّ. رجل بذلك الهندام وتلك القيافة الرسمية يجري في الشارع كالمجنون الهارب من ظله. توقفت عند ركن البناية لألتقط أنفاسي، وهنا تذكرت أمر دلال، مالكة البناية. تسللت حتى المصعد وأنا أتلفّت كاللص ذات اليمين وذات الشمال، وكذا كان الأمر عند نزولي. تنفست الصعداء حين وجدت نفسي أسير في الشارع متجهاً صوب السيارة. في منتصف الطريق، أخرجت هاتفي النقال من الجيب الأيمن لسترتي لأستكشف الوقت. كلّفتني عودتي هذه أكثر من عشرين دقيقة. الآن صار الوقت حرجاً وكل دقيقة باتت مهمة للغاية. صرت أدعو في داخلي ألّا أصادف عراقيل أخرى وخصوصاً ازدحام الطرقات. حين رفعت عيني عن الهاتف النقال لأرده الى جيبي، سمعت صوتاً مألوفاً سرعان ما عرفته.
وهنا أُسقِط في يدي. لقد كانت هي، بشحمها ولحمها، دلال. نعم، دلال. قلت في نفسي: "هذا ما ينقصني".
لا أدري إن قلتُها بصوت مسموع أم تَمْتَمْتُها مع نفسي، فقد هممتُ بمواصلة مسيري لولا أنها وقفت قبالتي كصخرة تأبى أن تتزحزح.
لم يكن ممكنا أن أنتظرها لتكمل حديثها، فأنا على يقين بأنها لن تتوقف، وبأنها لن تعطيني فرصة للتملص منها طالما كانت قادرة على الكلام. يا إلهي! من أين خرجت لي هذه المخلوقة في هذا الوقت المبكر من النهار؟ حَثَثْتُ الخطى نحو السيارة. بدأ القلق يساورني بشأن الوقت وأحسست بالأدرينالين ينتشر في عروقي. قدت السيارة عبر الشوارع المكتظة بالسيارات والمارة. "يا إلهي! من أين جاء كل هذا الكمّ الهائل من الناس والسيارات"؟ فكرت في نفسي مستغرباً. كنت أتعصّب لأتفه الأسباب. هذا السائق قد نام أمام إشارة المرور، لا أدري كم ضوءاً أخضر ينبغي أن يضعوا أمامه لكي ينطلق بسيارته. وهذه السيدة تعبر الشارع بخطى متسارعة وهي تجرجر طفلتها وراءها، تُسقط الطفلة دميتها، تحاول التوقف لالتقاط اللعبة، ولكن الأم تستمر في سحبها من يدها دون أن تنتبه لما يجري. تقاوم الطفلة وتحاول سحب يد أمها إلى الوراء فتنتبه هذه وتعود بضع خطوات إلى الوراء لتلتقط الدمية وتعاود عبور الشارع وسط صراخ الطفلة مطالبة بإرجاع الدمية لها. وفوق هذا وذاك، وفي منطقة عبور أخرى، ترى هذا الشاب غارقاً في عالمه الخاص، عيناه على هاتفه النقال وسماعات الأذن في أذنيه وهو يقطع الشارع بخطوات متثاقلة كأنه يتمشى مع حبيبته على شاطئ البحر. بشقّ الأنفس وجدت مكاناً أرصف فيه السيارة. سرتُ ما يقارب التسع دقائق حتى وصلت البناية المطلوبة. كانت هناك لافتتان صغيرتان قياس A4 على دكة الاستقبال، لم أشغل نفسي بالنظر إلى محتواها. توجهت مباشرة صوب موظفة الاستقبال. امرأة في نهاية عقدها الرابع أو ربما تجاوزته قليلاً، متوسطة الجمال، ملامح وجهها تنمّ عن شخصية صارمة وحازمة. خُيِّل إلي، وأنا أنظر اليها حين ألقيت تحية الصباح، أنني قد التقيتها من قبل. ردّت التحية بابتسامة خفيفة مشوبة بالرزانة. قدمت نفسي وأخبرتها بالغرض من حضوري.
قالتها بتعاطفٍ، شعرتُه مصطنعاً ومبالغاً فيه، وهي تشير بسبابتها اليمنى نحو إحدى اللافتتين. قرأت اللافتة ثم نظرت إلى الساعة الجدارية خلفها. "اثنتا عشرة دقيقة! اثنتا عشرة دقيقة فقط هي كل الوقت الذي تخلفتُ به عن الموعد. هل هذا معقول؟ اثنتا عشرة دقيقة ملعونة تحولُ بيني وبين فرصة العمر! لقد عوّلت كثيراً على أن هذه الوظيفة ستنتشلني من حالة البؤس التي أعيشها، فهي تلائم مؤهلاتي، والشركة مشهورة جدا، والراتب المعروض عالٍ، وقد أمضيت طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية في الاستطلاع والبحث والتحضير لكي أنجح في هذه المقابلة وأحظى بالوظيفة. هل يمكن أن تفصلني هذه الدقائق الملعونة عن تحقيق أمل حياتي؟ كلا، كلا، لن أستسلم". بينما هذه الأفكار تتلاطم في رأسي تلاطم أمواج البحر الهائج، تسمّرت عيناي في وجهها وأنا أحاول حلّ اللغز الذي ما زال يحيّرني، أين تراني التقيت هذه المرأة؟
لا أدري لِمَ لَمْ أنبسّْ ببنت شفة! أنا الذي ينعتني معارفي بـ (سعيد الفوّار)، لكوني صاحب دم حار وسليط اللسان، كيف أُسقِط في يدي ولم أتفوّه بشيء! كيف استسلمت بهذه السرعة ورضخت للأمر الواقع، مع كل ما يتضمن من صدمة مريرة وخيبة أمل! اشتدّ عليّ، وأنا أغادر المبنى، ألمُ الصداع الذي ما بارحني طيلة الصباح. شيءٌ ما في كلماتها استفزّني واستنفر ذاكرتي. رحتُ أكرر مع نفسي كلماتِها المَرة تلو الأخرى، علّني أجد رأس الخيط لما يمكن أن يكون هذا الشيء. أعدت في مخيلتي شريط الأحداث مذ وقعت عيناي عليها. لماذا شعرتُ بأن وجهها مألوف لدي؟ ولماذا كان لكلماتها الأخيرة مثل هذا الوقع عليّ؟ أضحى ألم الصداع لا يطاق. لعل ّ التفكير بهذا الأمر يزيد الطين بلّة. قررتُ التخلي عن محاولاتي اليائسة واللجوء إلى التفكير بأمر إيجابي للتخفيف عنه. رحتُ أتخيّل مجرىً للأحداث بديلاً لما حدث للتو. وجدتُ نفسي جالساً في ردهة فسيحة بانتظار أن ينادوا اسمي للدخول إلى ردهة المقابلة. صرت أتفحص ملياً وجوه المتقدمين الآخرين، المتوزعين على الأرائك الخمس المقابلة لي، وأتأمل هندامهم وجلساتهم وأراقب حركاتهم وأحلّلها، مستذكراً كل ما تعلمته عن لغة الجسد. أعاد بحثي هذا الطمأنينة في نفسي وأشعرني بأن حظوظي للحصول على هذه الوظيفة أوفر، مقارنةً بحظوظ هؤلاء. نودي باسمي فأخذت للحال محفظة أوراقي الموضوعة إلى جانبي ونهضت متقدماً نحو باب ردهة المقابلات الذي كان نصف مفتوح وقبل أن أدلف الردهة وجدتني أشهق من فرط المفاجأة، بينما أستفيق من حلم يقظتي. يا إلهي! إنها هي، العجوز الشمطاء، في كابوس الليلة الماضية. يا لتشابههما! المرأة في حلم الليلة وموظفة الاستقبال هذه، عدا أن الأولى أكبر سناً ووجهها أشدّ صرامة. لكن الكلمات هي هي - "شركتنا تنتهج سياسة صارمة تجاه ...". كيف يُعقل هذا؟ أهي مصادفة؟ تشابه الوجهين والتعبيرين في ذات الوقت؟ لطالما كرهتُ كلمة "السياسة"، أمّا الآن فصرت أكرهها بشدة، حتى مع علمي بالفارق الشاسع بين مفهومَي "السياسة" كونها فن التدبير والعمل بالممكن ومفهوم "سياسة الشركة" التي يُراد به الإرشادات الخاصة بمتطلبات الشركة وأساليب التعامل مع الموظفين والزبائن. حين جلست خلف مقود السيارة، أحسست أن رأسي يوشك على الانفجار. - والآن، ماذا؟ صرت أبحث عمّا يمكنني فعله لأخرج من هذه الورطة. توالت في رأسي الأفكار والمشاعر والذكريات. استعرضت في دقائق سلسلة الأحداث والظروف التي مررت بها منذ الطفولة حتى الآن، لعلّني أجد سبباً أو تفسيراً للنحس الذي يلازمني طيلة الوقت. كان ألم الصداع يشتدّ عليّ ويقطع سلسلة أفكاري فأعالجه بحبة أسبرين أو إيبوبروفين وأعقبها برشفة من قنينة الماء أو مما تبقى في كوب القهوة الصباحية. خياران اثنان، أحلاهما مُرّ، ظلا يداهمان سلسلة أفكاري طيلة الوقت، رغم محاولاتي المتكررة لطردهما وإبعادهما عن رأسي المُوشِك على الانفجار، السفر إلى الخارج أو . . . سرعان ما استبعدتُ هذا الأخير، إذ لم أستسِغ أبداً منظر جسدي وهو يتهاوى في أعماق البحر والأسماك تحوم حوله. عدتُ إلى البيت وجمعتُ كل ما لديّ من نقود ودحستُها في محفظتي ثم أخرجت الحقيبة من تحت السرير وحشوتها بما تيسّر من ملابسي وأغراضي الشخصية. تذكرت شيئاً، وأنا أهمّ بالخروج فعدت وتناولت قصاصة ورق من درج المكتب وكتبت بضعة سطور وتركت الورقة على سطح المكتب. توجهت إلى أقرب وكالة سفر واقتنيت تذكرة ثم اتصلت بزميل لي في عملي السابق. تحدثنا طيلة فترة استراحته للغداء ثم شكرته على أمل اللقاء به بعد انتهاء دوامه. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشر دقائق بعد الظهر حين ولجت قسم تسجيل المركبات في إدارة المرور. أكملت إجراءات تحويل السيارة وتناولت الغداء في أحد المطاعم الشعبية القريبة من مسكن زميلي بانتظار عودته من العمل. كان الوقت عصراً حين ودّعت زميلي تاركاً السيارة مع الأوراق الرسمية عنده. الآن فقط، بعد ان ألقيت جسدي المتثاقل على أحد المقاعد الشاغرة في الحافلة المتوجهة إلى مركز المدينة، أحسست بإحساس غريب من الراحة وكأنّي ألقيت حملاً ثقيلاً عن كاهلي، حتى الصداع الذي ما بارحني منذ الصباح الباكر خفّت وطأته عليّ. إلّا أنّ شعوراً بالقلق بدأ يساورني ويفسد عليّ الإحساس بالراحة الذي بالكاد شرع يسري في جسدي المتعب ويهدئ نفسي المضطربة. غداً ستبدأ رحلتي إلى المجهول. ترى ما الذي ينتظرني هناك في بلاد الغربة حيث لا أهل ولا أقارب ولا أصدقاء؟ هل سأشعر بالغربة؟ يقولون إنه شعور مؤلم. هل سينتابني الحنين إلى الوجوه التي تعودت عليها؟ إلى الشوارع والأحياء التي اعتدت السير فيها؟ وماذا عن هذا النحس الذي يلازمني كظلي؟ هل سيضيع طريقه ويتركني هناك لوحدي، أشق دربي من جديد بحثاً عن فرصٍ طالما طاردتها ولم أنل أياً منها؟ ما كان لسلسلة أفكاري أن تنقطع لولا توقّف الحافلة ونزول جميع الركاب. إنها المحطة الأخيرة إذن. ترجّلت وألقيت نظرة خاطفة على الساعة الرباعية الأوجه التي تعتلي عموداً ينتصب شامخاً وسط الساحة الرئيسية للمدينة، يشبه إلى حد بعيد مداخن معامل الطابوق المنتشرة على امتداد الطريق الخارجي المتجه نحو مدينة مورا. ما زال لدي ثلاث ساعات ونصف حتى موعد انطلاق قطاري من محطة القطارات الخارجية التي تبعد قرابة عشرين دقيقة سيراً على الأقدام، مما يتيح لي وقتاً كافياً لتناول العشاء في أحد المطاعم المنتشرة على الجانب الشرقي من شارع الحرية ثم قضاء بعض الوقت للتنزه في الكورنيش الممتد على الجانب الآخر منه. *** انفتح باب المقصورة د-7 في العربة الرابعة من القطار الدولي السريع المتجه نحو العاصمة بانينا عن رجل فارع الطول بهندام رسمي تعلو وجهه ابتسامة هادئة ورزينة، وبصوت رخيم جمع بين الأدب الجمّ والجدّ الحازم بادر المسافرَين الوحيدين في المقصورة، اللذين احتلّ كل منهما أحد المقعدين الطويلين المتقابلين، بالتحية: - طاب مساؤكما. تذاكر السفر لطفاً. ومن داخل المقصورة تداخل صوتا المسافرَين: - مساء الخير. بالتأكيد. - مساء الخير، تفضل. تناول المفتش التذكرتين تباعاً وثقبهما بالمثقاب الذي يحمله في يمناه وتمنى لهما سفراً مريحاً وغادر بعد أن أغلق الباب المنزلق الذي يفصل المقصورة عن الرواق الممتد على طول العربة. بعد سويعات قليلة، كان القطار المتجه نحو بانينا ينهب الأرض نهباً ويلتهم المسافات كوحش كاسر طال به أمد الحرمان واشتدّت عليه لسعات الجوع. في جوف المقصورة د-7 المتوشح بالظلام الدامس، إلّا من بعض خيوط الضوء المتسللة، بين الفينة والأخرى، عبر الشق الذي يتوسط الستارة المزدوجة في النافذة الوحيدة في المقصورة والمنبعث من المصابيح المتوزعة على طول طريق السيارات السريع الممتد بمحاذاة السكة الحديدية، مقترباً منها تارة ً وأخرى مبتعداً عنها، كأنهما يؤديان رقصة سحرية على أنغام هدير محركات السيارات والقطار معاً، وإيقاع طقطقة عجلات الأخير على القضبان ... هنا ، في هذا الجوف المغمور بالظلام كان يجري طقسٌ ليس مثل الطقوس، طقسٌ لم يُرتَّبْ له مسبقاً، وما خطر على بال حتى القائمين به: جذعان متلاحمان كأنهما واحد وأطراف متشابكة، تتمايل جميعها وتتراقص في حركات متموجة وبإيقاعات متناوبة ... وهناك، خارج حدود الزمان والمكان كائنان نورانيان يحدقان في جوف هذا المكان تارة، وتارة أخرى ينظران أحدهما إلى الآخر ثم يدوران الواحد حول الآخر وكأن لسان حالهما يقول: أليس هذا أجمل ما يفعلون! - - - - ثم . . . في مكان غير ذاك المكان وزمان بعد ذلك الزمان ...
فتح الولد فمه مندهشاً وبنبرة متحمسة صرخ:
فتح الرجل عينيه وأزاح الطفل عن فخذه حيث كان يجلس وأوقفه قبالته ثم انحنى قليلاً نحوه وأحاط رأسه بكفّيه بحنان بالغ قائلاً:
قالها الطفل بحماس ولهفة، كلهفة طفل يسارع في فتح علبة هديته ليعرف ما فيها. نظر الأب في عيني ابنه لثواني معدودات وأخذ نفساً عميقاً ثم همس:
ثم اقترب أكثر حتى لامست شفتاه جبين الطفل وطبع عليه قبلةً، شعرَ هذا على إثرها بموجة من الحب والحنان تتدفق من أبيه وتسري فيه لتغمره بشعورٍ من السعادة، ما استفاق من نشوتها حتى تسمّرت ملامح وجهه، وكأني به يشحذ فكره ليحل لغزاً استعصى عليه لبعض الوقت. تراجع إلى الخلف خطوة ونظر إلى أبيه بعينين مفتوحتين نظرة الفاتح المنتصر.
ابتسم الأب وفتح ذراعيه ليرتمي الطفل في أحضانه معانقاً إياه عناقاً طويلاً. |
المشـاهدات 20 تاريخ الإضافـة 16/07/2025 رقم المحتوى 64823 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |