النـص :
لم تعد أدوات التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي مجرد وسائل للتعبير عن الرأي أو التعاطف، بل تحولت إلى بدائل مباشرة للمشاعر الإنسانية. فالتفاعل مع حدث مؤلم أو خبر عاجل لم يعد يتطلب أكثر من ضغط زر أو تعليق سريع، دون أن يرتبط ذلك بتأثير فعلي على سلوك المتلقي أو قراره.هذا التحول يشير إلى تغير جوهري في الطريقة التي نختبر بها مشاعرنا ونتجاوب مع الأحداث، حيث باتت التفاعلية نفسها نوعاً من الشعور الرقمي، يتشكل ويختفي بلمح البصر. ومن هنا، تطرح الباحثة فرضية أن العالم الرقمي أنتج شكلاً جديداً من المشاعر، يمكن وصفها بـ"المشاعر الرقمية"، نتيجة تداخل العوالم الافتراضية والواقعية، وتغير طرق التعبير الإنساني التقليدي.أصبحت المشاعر لحظية، سطحية أحياناً، ومختصرة في رموز ووجوه صفراء، أو جمل قصيرة تُمثل رد فعل لا يعكس بالضرورة عمق الإحساس أو صدقه. وهكذا، يُطفأ وهج الشعور الإنساني بمجرد التمرير إلى المنشور التالي.ترى الباحثة أن التفاعلية ذاتها باتت نوعًا من المشاعر، تتم ممارستها بدون تفكير، ويكفي أن ينقر المستخدم على زر معين ليؤدي "واجبه العاطفي". من هنا ظهر ما يمكن تسميته بـ"المشاعر الرقمية"، وهي نتيجة مباشرة لانعكاس وتداخل العالمين الواقعي والافتراضي، حتى صار للحدث الإنساني وقع وتأثير على السوشيال ميديا أكبر مما له في الواقع.وان أحد أبرز الأمثلة التي توثق هذا الانفصال، هو فيديو متداول من البصرة (منطقة الزبير) لعمارة تحترق، وفيه يظهر شيخ مسنّ يشتعل أمام أنظار الموجودين، دون أن يتدخل أحد لإنقاذه. اكتفوا بالتصوير، وإطلاق بث مباشر، والتعليق على موته، وكأن التفاعل الرقمي بات أهم من إنقاذ حياة حقيقية. على أرض الواقع، لم يتحرك أحد، بينما على الإنترنت، انهالت التعليقات والإعجابات والمشاهدات.على الجانب الآخر، الايجابي ان صح القول هناك من يوظف أدوات التواصل لأغراض إنسانية حقيقية، مثل الجمعيات التي تنظم حملات تبرعات ومساعدات من خلال هذه المنصات، إدراكاً لفاعليتها وانتشارها مقارنةً بالجهود الميدانية.لكن الإشكال الأعمق يتجلى عندما تتناقض طبيعة التفاعلات مع مضمون الحدث. إذ يُلاحظ أحياناً أن الأحداث المأساوية تُقابل بتعليقات ساخرة، وضحكات، وصور ميمز، مما يشوش الرسالة الإخبارية ويفقدها أثرها الحقيقي. وهنا، تظهر خطورة الأدوات التفاعلية، ليس فقط في التلاعب بالمشاعر، بل أيضًا في التأثير على فهم المتلقي واتجاهه، وربما خلق رأي عام مُضلَّل أو مشغول بتفاصيل جانبية.هذا النمط من الاستجابة السريعة والسطحية أدّى إلى نوع من اللامبالاة الجماعية، إذ لم يعد كثيرون يتوقفون أمام كارثة أو مأساة، بل يستهلكونها كأي محتوى عابر. وفي بعض الحالات، تُستغل هذه الأحداث لتحقيق الظهور، كأن يتصور أحدهم بجانب جثمان والده، أو تنشر أمّ لحظات دفن صغيرها على "ستوري".كل هذا – من وجهة نظر الباحثة – ترك أثرًا واضحًا على المصادر الإخبارية نفسها، لا سيما صفحات المواقع الإخبارية على منصات التواصل. فقد أصبحت بدورها تستجيب لميول الجمهور التفاعلية، بدلاً من التمسك بسياق الحدث الإنساني أو أولويات التغطية...إن فهم هذه التحولات لا يتعلق فقط بأدوات الإعلام، بل بطبيعة المشاعر ذاتها في زمن الرقمنة، وهو ما يستحق التوقف والتأمل.
|