السبت 2025/8/9 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 43.95 مئويـة
نيوز بار
البنادق الصدئة.. الرسائل وسردية المفارقة
البنادق الصدئة.. الرسائل وسردية المفارقة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

علي حسن الفواز

 

تضعنا رواية " البنادق الصدئة" للكاتب عبد القادر سعيد الصادرة عن دار رامينا/ لندن 2923 بترجمة ياسين حسين أمام فضاء سردي غامر بالمفارقات، فيه من الغرابة، ما فيه من الكوميديا السوداء، حيث تتبدى تلك المفارقات من خلال علاقة احداثها بمحنة اغتراب شخصياتها، وبما يغمرهم من إحساس الفاجع بالفقد، فالشخصية الرئيسة التي تجد نفسها أسيرة في حرب لا تخصها، لتعيش تداعياتها عبر ما تحسّ به من  تشظ نفسي، ومن انكسار داخلي، تتوه معه شخصيات موازية، مثل شخصية الزوجة وشخصية القرين، حتى يبدو هذه الثلاثي وكأنه امام لعبة سردية، يقوم حدثها المركزي على أساس ثيمة "الفقد/ الأسر" وعلى طبيعة تحولاتها، حيث الوقوع في صراع داخلي يكشف عن هشاشتها الوجودية، وعن هوسها بالبحث عن اشباعاتها الرمزية، التي يختلط فيها الاشباع الجنسي بالاشباع الوجودي..

لعبة البحث عن تلك الاشباعات هي الضد السردي للاغتراب في المكان الدوستوبي، وبما يصنعه من توتر عال، يتمثله إحساس تلك الشخصيات وتمزقها، فيتشظى الحدث عن احداث، وعن أوهام وتحولات تجعل منها مصابة بما يشبه اعراض "الخراب الداخلي" والاحساس بالإثم، فالزوج "عمر" يضع زمن الاسر امام زمن الكتابة، والاعتراف، فيروي لصديقه "هياس" ادق التفاصيل عن حياته مع زوجته " حتى يبدو وكأنه يمارس نوعا من التطهير والخلاص، والقرين "هياس" ينزع الى توظيف قناع الزوج الميت واستعارة شخصيته من خلال تمثيل وظيفة سردية فارقة، يتقمص فيها شخصية كاتب الرسائل الذي يعيش لعبة الزوج، مسكونا بشغف التفريغ النفسي والجنسي..

شخصية الزوجة التي وجدت نفسها امام غرائبية الفقد الوجودي، تدرك خطورة هذا الفقد، وما يتركه من إحساس بالفراغ والخوف، وأن انخراطها في حياة موازية، لا تعني سوى مواجهة ايهامية مع فكرة الموت، والتخلص من توحش الحرب التي اخذت الزوج الى سجون الأسر، حتى بدا زواجها من رجل آخر وكأنه تقويض للذاكرة، وتحرير للجسد من تاريخه ومكبوته، ومن لا وعي الحرب ذاتها..

بطل الرواية الكوردي ليس شخصية سردية عابرة، فبقدر ما يحمل معه اضحوية الحرب ولعنتها، فإنه يعيش معها ازمته الوجودية، وعلى نحوٍ جعل من ثيمتها هي الأقرب الى تمثيل الزمن العراقي الملتبس، المسكون بسرديات الغياب والموت، والمكشوف على توالي الخيبات، حتى تتحول ازمة هذا بطل الى مفارقة سردية، أسس عليها الروائي ديناميكية تنامي احداثه، بدءا من وجوده في حرب عابثة الى آسر غرائبي، وليس انتهاء بتحويل موته الى لعبة "ميتا سردية" تقوم على توظيف تقانة لعبة الرسائل، بوصفها سردية موازية، تستدعي فكرة التعويض، والإحساس الضدي بأن ما تصنعه هذه الرسائل يمكن أن يكون وجودا، اصطنع له القرين/ الصديق نوعا من التماهي، مع ما تحمله الرسائل من طاقة سردية، يتفجر فيها المكبوت، والاحساس الطاعن بأن اللغة/ الرسالة يمكن أن تجعل من الحب خرقا لمهيمنات السجن والموت..

الرواية واسئلة السرد.

لا يمكن الحديث عن هذه الرواية بربط احداثها بسرديات الحرب فقط، بل بما يجعلها اكثر تمثيلا لسردية ما بعد الحرب، حيث الشخصية الأضحوية، وحيث الإحساس بالفقد، وحيث سردية الاستعادة والتذكر، وحيث ثنائية الجسد والعطب، فما اثارته رسالة الزوج الغائب كان هي المفارقة الأولى، في استفزاز وجودها، وفي استثارة ما تتركه الحرب من جروح نرجسية، ومن ذوات مأزومة، ومن شخصيات تعيش وجودها عبر ما يتساقط من الذكريات، بوصفها تمثيلا لزمن غائب، فكان توظيف الرسائل محاولة ذكية في سردنة المفارقة، بوصفها مجالا للاستثارة والاستعادة، يجعل من ابطال الرواية شهودا على غرائبية تلك الحرب، وعلى علاقتها بما تعيشه الشخصيات من صراع وتحول وانكسار، ومما يساكنهم من مشاعر قلقة، لا توازن فيها الا عبر مدونة الرسائل، وعبر ما تصنعه من احالات نفسية، تضع القارىء إزاء مأساة شخصيات واحباطاتها، ووحدتها إزاء ما تترك لها الحرب من "رسائل كاذبة" ومن "ميدالية حديدية تحمل اسم الغائب" والتي تبدو وكأنها الشفرة التي تحمل لعنة "البنادق الصدئة" بوصفه عنوانا صادما، لكنه اكثر ايحاء بربط العتبة السردية بالاحداث، وبما يتداعى من ثنائيات تجمع بين  سيميائية صدأ الأسلحة، وبين الخراب النفسي للشخصيات، أو بين ذكرى الحب وبين ما تتركه الرسائل من وهم بالخلود..

اعتمدت رواية "البنادق الصدئة" على بنية التوالي السردي، من خلال توظيف أصوات السرد في صياغة مركبة يتقاطع فيها الوصف مع السرد الرسائلي، وبين واقعية الحدث وغرائبيته، فيضعنا الروائي العليم في "اشنع ليلة" امام لحظة استباقية للأسر، واصفا المكان الدوستوبي، ويوميات "الأصدقاء المقاتلين" مقابل تمهيد توصيفي لمجرى السرد، وما يقوده الى حدث الأسر، وبدء سردية الزمن الرسائلي، الذي تعيشه هواجس الزوجة "سارا" وهي تستلم من ساعي البريد رسالتها الغامضة، التي تقود لعبة السرد الى مزيد من المفارقات.

عمد الروائي الى نسج بنية الروائية عبر تحويل الزمن النفسي الى زمن مهيمن، يقوم على عنصر استثارة، وعلى ربط هذا الزمن بالشخصية المعلولة، التي تعاني من تشوهات الحرب، ومن العطب الروحي والجنسي، وبما يجعلها اكثر اندفاعا الى البحث عن تعالقات عميقة بين محنة الحرب، وبين ما تعانيه من ازمة مركبة، حيث يعيش بطل الرواية عمر اغترابه العميق بين الحرب والسجن وبين مأساته في المكان، فضلا عن معاناته القومية في القهر الهوياتي..

الرسالة وايقاظ الغائب..

فجّر وصول رسالة الهلال الأحمر عبر عنوان المدرسة عالم الزوجة الغرائبي، لتجد نفسها أمام مفارقة نفسية، تتحول فيها اللغة/ الرسالة الى ما يشبه الصدمة، التي تجعل من عالمها الواقعي امام رعب وشك، وحتى امام إحساس بالخيانة، فيتبدى عبرها الغائب وكأنه كابوس يهدد وجودها، ويضعها إزاء اغواء سردي يقوم على استعادة كابوس الفقد، وصدمة الجسد، وبما يجعل من تلك الرسالة وكأنه دخول الى المتاهة، حيث ينسحب الماضي الى مواجهة بين الذات والغائب، فيجعل من رسائل الزوج الميت وكأنها استعادة لذلك الغائب الذي اخذته الحرب الى مجاهيلها..

ما تحمله الرسائل التي يكتبها صديق الزوج هياس من عواطف مهيجة، مع الرسوم التي يخطها الاسير التركماني من خطوط للجمال الغائب تكشف عن شهوة التذكر، وعن قسوة الحرب، وعمّا يعصف بأجوائها من الخوف والتعصب والكراهية والعنف، فضلا عمّا تكشفه في احالاتها الانثربولوجية، من اغتراب، جعل من الحرب تمثيلا سرديا لمقاربة محنة "الكوردي" في ازمته الوجودية، وفي علاقته بالمكان، وصولا الى محنته مع الهوية، واللغة، ومع الذاكرة السوداوية لحروب موازية، في مأساة حلبجة والانفال وغيرها، وعلى نحو اعطى لثيمة الحرب بعدا يتجاوز الوثائقية الى ما يشبه "الثيمة الاطارية" التي تفضي الى سرديات مجاورة لا حدود لها، الغاطسة في ذاكرة بطلها الانسان المخذول العالق بسيرة "الأسلحة الصدئة"

المشـاهدات 12   تاريخ الإضافـة 08/08/2025   رقم المحتوى 65530
أضف تقييـم