النـص : أضحت ظاهرة انتشار المخدرات والمؤثرات العقلية غير المشروعة من أخطر الظواهر التي تهدد استقرار الإنسان والمجتمع، ولاسيما في ظل عوامل مساعدة على انتشارها مثل: الفساد الإداري والأخلاقي، ضعف الوازع الديني، التفكك الأسري، والظروف الاقتصادية الصعبة. وهذه الآفة لا تقتصر أضرارها على الجانب الصحي، بل تتعداه إلى تهديد الأمن المجتمعي واستقرار الأسرة، فضلًا عن كونها مصدرًا رئيسًا لتمويل الجماعات الإجرامية المنظمة، مما يتطلب تظافر جهود جميع الافراد والمؤسسات لمواجهته، وصولًا لاستقرار الحياة قدر الامكان. ونرى من الضروري الإشارة إلى تعريف المخدرات والادمان؛ لتكوين فكرة واضحة عن الموضوع- محل المقالة- إذ عُرِّفت بتعريفات عدة، نذكر منها: المخدرات هي مواد كيميائية (طبيعية أو صناعية) تؤثر على الجهاز العصبي المركزي وتسبب تغيرات في الإدراك والمزاج والسلوك، وفي حال استمرار تعاطيها يُصاب الشخص بالإدمان. ومن أمثلة المخدرات: الهيروين، الكوكايين، الحشيش، الماريجوانا. ومن أمثلة المؤثرات العقلية: الكحول، الكيتامين، والأدوية الموصوفة (مثل بعض مسكنات الألم ومهدئات الأعصاب).( انظر المادة 1/اولا، ثانيا، ثالثا من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية العراقي رقم 50 لسنة 2017 حددت المواد المخدرة والمؤثرات العقلية المجرم تداولها على سبيل الحصر). والإدمان حالة مزمنة تتسم بفقدان السيطرة على تعاطي المادة المخدرة، على الرغم من العواقب السلبية، ويُعَدّ الإدمان اضطرابًا قابلاً للعلاج. وانسجامًا مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع- محل المقالة: الاتفاقية الوحيدة للمخدرات لعام 1961، واتفاقية المؤثرات العقلية لعام 1971، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لعام 1988، ؛ ومن أجل الحفاظ على نسيج الأسرة وقوام المجتمع العراقي، ومواجهة هذه الآفة الخطيرة؛ والتي تعد احدى مصادر تمويل الجماعات الاجرامية المنظمة؛ جرَّم المشرع العراقي تداول المخدرات واستعمالها بشكل غير مشروع في قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية رقم (50) لسنة 2017، إذ من أهدافه: "الوقاية من الإدمان على المخدرات أو المؤثرات العقلية وسوء استعمالها ومعالجة المدمنين على أي منها في المصحات والمستشفيات المؤهلة للعلاج" (المادة 2/خامسًا من القانون اعلاه).والثابت في فلسفة القانون الجنائي أن العقوبة لها هدفان: الردع والاصلاح، فإصلاح الجاني، يكون ببيان السلوك الذي ارتكب كان مخالفة للقانون، واصلاح الخطأ قدر الامكان، من قبله او بمساعدة مؤسسات الدولة، وفي حال العود يعاقب بعقوبة اشد مما سبق، ليكون رادعًا لغيره.والمشرع الجنائي اعتبر في جريمة تعاطي المخدرات أن مدمن المخدرات ضحية لظاهرة تحتاج إلى معالجة، وبناءً على ذلك نصت المادة (40/أولًا) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم (50) لسنة 2017 على أنه: "لا تُقام الدعوى الجزائية على من يتقدم من متعاطي المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية من تلقاء نفسه للعلاج في المستشفى المختصة بعلاج المدمنين". بمعنى ان الشخص المدمن في حال ذهابه من تلقاء نفسه الى المستشفيات المختصة فلا تحرك بحقه الدعوى الجزائية، وهي إحدى الوسائل التي تنتهجها مؤسسات الدولة للحد من ظاهرة المخدرات.وتأسيسًا على ما تقدم، أصدر مجلس القضاء الأعلى العراقي الموقر تعميمًا بالعدد (2528) في 29/9/2024 متضمنًا: "توجيه كافة المحاكم المختصة بإيداع من يثبت إدمانه على المخدرات والمؤثرات العقلية في إحدى المستشفيات الصحية بدلًا من الحكم بالحبس أو السجن". واستند هذا التعميم إلى المادة (39) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية العراقي رقم (50) لسنة 2017 النافذ، وهذا ثمرة التعاون بين وزارات الدولة المعنية لمكافحة آفة المخدرات، ومنها: وزارة الداخلية، وزارة الصحة، وتهيئة ملاكات ومستشفيات طبية مختصة بهذا الشأن، لإعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع.وإن التعميم أعلاه يعزز فكرة أن الإدمان مرض وليس جريمة، مما يساهم في تقليل الوصمة الاجتماعية التي قد تلحق بالمدمنين، ويدعو المجتمع إلى الوقوف بجانب المعالجين، والنصح للمدمنين، لا احتقارهم ونبذهم؛ لأن ذلك سيولد حالة نفسية إجرامية لا تُحمد عقباها. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التوجه يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان التي تؤكد على الحق في الصحة والعلاج، ويعتبر المدمن شخصًا مريضًا يحتاج إلى رعاية طبية متخصصة.وفي الواقع القضائي، يشير (القاضي محسن عبد الجابري، غموض النص القانوني الذي يثبت ادمانه...، صحيفة القضاء، مجلس القضاء الأعلى الموقر، العدد 109، آذار 2025، ص7) إلى: "وجود تناقض تشريعي، فالمادة 39 من قانون المخدرات تشير إلى إيداع مدمن المخدرات المستشفيات المختصة لمعالجته وإعادة تأهيله، بدلًا من تطبيق المادة (33) من القانون أعلاه، وهذه المادة الأخيرة تطبق على الشخص الذي يسمح لغيره بتعاطي المخدرات في مكان عائد له، وكذلك أي شخص يتم ضبطه يتعاطى في مكان معدّ سلفًا للتعاطي. مع العلم أنه في الواقع – أمام القضاء – تطبق على حيازة وتعاطي المخدرات المادة (32) من القانون أعلاه. وهذا أحدث لبسًا وغموضًا في التطبيق الواقعي، مما يتطلب التدخل التشريعي وتعديل نص المادة 39 بالإشارة إلى المادة (32) – حيازة وتعاطي – بدل المادة (33) من القانون أعلاه". وهو ما نراه ضرورة لتعديله من قبل المشرع العراقي لضمان تطبيق مبدأ الشرعية الجنائية، الذي يُعَدّ من الركائز الأساسية للمحاكم الجزائية عند إصدار الأحكام، ونستشهد بالحكم ادناه دليلًا لما سبق.فمن التطبيقات القضائية – قبل صدور تعميم مجلس القضاء الاعلى الموقر اعلاه- في حال حيازة المواد المخدرة وتعاطيه، جاء في حكم " الحبس البسيط بحق المتهم... لمدة سنة واحدة وفق المادة ( ٣٢ ) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية المرقم 50 لسنة ٢٠١٧ وبغرامة ماليـة قـدرها خمسة ملايين دينار وفي حالة عدم دفعهـا حبسه بسيطا لمدة ستة اشهر ومصادرة واتلاف المـواد المضبوطة وهي عبارة عن كيس نايلون يحتوي على مادة بيضاء اللون بحوالي ٢٥٠ ملغ وانبوب بلاستيكي عدد ( ۱ ) وارساله الى دائرة صحة كركوك للتصرف بها وبعد اكتساب القرار الدرجة القطعيـة". ( حكم محكمة الاستئناف كركوك بصفتها التمييزية، العدد: 134/ جزائية/ 2021 في 11/3/2021 م). ونستنتج مما تقدم، أن وزارات الدولة المعنية – ومنها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – وجّهت الجامعات كافة بإعداد دراسات علمية ومؤتمرات وورش توعوية للطلاب والمجتمع لبيان الآثار السلبية لتعاطي المخدرات، التي باتت ظاهرة منتشرة بين الفئات المهيأة لاستقبال هذا السرطان الخطير. وكإجراء وقائي، ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، لا بد من تعاون الأسر (الوالدان أو المسؤولون عن الأبناء) والمدارس والكليات والمعاهد في متابعة أولادهم وطلابهم باستمرار، من حيث معرفة أصدقائهم وزملائهم؛ فكما يقول المثل: "الصاحب ساحب"، فإن كان الصاحب ذا أخلاق حميدة يسحب صاحبه معه، وإن كان الصاحب سيئًا يسحب صاحبه نحو الرذيلة. لذا، تبرز ضرورة الاطلاع على المواقع الإلكترونية التي يتصفحونها من قبل الوالدين؛ لأنها باتت – في بعض الأحيان – وسيلة للترويج للانحراف الأخلاقي وهدم القيم الاجتماعية، وايصال المواد المخدرة من خلالها. وحاصل الكلام، أن المخدرات والمؤثرات العقلية المستخدمة بشكل غير مشروع باتت ظاهرة تهدد قيم المجتمع واستقرار الأسر، ويستحسن تعديل المادة 39 من القانون اعلاه من قبل المشرع العراقي، وكما تبين تفصيله فيما سبق لفرع اللبس والغموض في التطبيق القضائي، ولضمان تطبيق مبدأ الشرعية الجنائية. ونوصي الاسر الكريمة بعدم إهمال الإجراءات الوقائية ومتابعة الأولاد من قبلهم، فمهما كانت الالتزامات كثيرة ومهمة، وتتحملون المشقة من اجل رعايتهم وتلبية احتياجاتهم؛ لكن التربية اهم، ويجب ان يكون في نظر الاعتبار، وهو الاثر الذي نتركه بعد رحيلنا عن هذه الدنيا، فلنحسن آثارنا، واذا تم الاثنان- رعاية وتربية- معًا تكون الاسرة مثالية ومحصنة ضد هذه الآفة ان شاء الله. وفي حال الاهمال وظهور أي أثر من آثار تعاطي المخدرات، ينبغي المبادرة وإيداعه في إحدى المستشفيات المختصة بمعالجة المدمنين قبل أن يتفاقم الأمر ويخرج عن السيطرة. لأن بقاءه طليقًا دون معالجة قد يدفعه إلى ارتكاب جرائم منها: حيازة المخدرات، الترويج لها، القتل، السرقة، أو الاغتصاب... إذ يكون فاقد الصواب والقوى العقلية، فيرى كل شيء مباحًا أمامه حسب تصوره؛ لكن القانون جرَّم تلك الأفعال، وبحكم القضاء يُعاقب مرتكبها؛ حمايةً للحقوق والحريات واستقرار المجتمع.
|