الإثنين 2025/9/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 25.95 مئويـة
نيوز بار
الذين ماتوا استراحوا
الذين ماتوا استراحوا
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

في هذا البلد، لا يرحل الميت خاسراً.

الخسارة من نصيب الأحياء وحدهم، أولئك الذين ما زالوا يركضون داخل طاحونة تدور بلا نهاية، يسحقهم دورانها ثم تعيدهم إلى البداية وكأن شيئاً لم يكن.

 

الذين ماتوا استراحوا، لأنهم تخلّصوا من الضجيج الذي يغطي على كل ما هو جميل: ضجيج المولدات، وضجيج الأخبار، وضجيج الشعارات، وضجيج حياة تُدار بالصدفة.

 

هناك في القبور، لا وجود لخطابات السياسيين التي لا تنتهي، ولا لمواسم الانتخابات التي تتحول إلى سوق للوعود.

 

الموتى تحرروا من هذه الكوميديا السوداء. لم يعودوا أسرى نشرات الأخبار التي تعيد الوعود كأنها صلوات يومية، ولم يعودوا يترقبون "الغد الأفضل" الذي يتأخر عن موعده منذ عقود.

 

والحقيقة أن الحديث عن الديمقراطية عندنا يشبه الحديث عن ثمرة غامضة: هل هي بطيخ أم مشمش؟ حيوان أم نبات؟ لا أحد يعرف تعريفاً واضحاً لها، لكن الكل يرفعها شعاراً. الديمقراطية تُنطق على الألسنة، لكنها لا تعيش في الواقع. في ظل النظام الذي يبتلع كل شيء، تتحول إلى واجهة فقط، تُعلَّق مثل يافطة متربة لا يعرف الناس إن كانت لمحل مفتوح أم مغلق.

 

أما "الهوية الفردية" للإنسان في هذا البلد المحبوب، بلد المباهج المؤجلة، فلا تُبنى على الكفاءة أو الموهبة أو العلم كما عند شعوب الأرض، بل تُفصَّل حسب العنوان السكني، أو اللقب العائلي، أو الانتماء الحزبي، أو العشيرة، أو المال أو حتى الوشاية التي تتكرر حتى تصبح بطاقة تعريف. هوية مرتجلة، زائفة، جاهزة كالثياب المعلبة. أما الهوية الحقيقية، تلك التي تُصنع من الموهبة والمعرفة والمشاعر والعاطفة والتجربة الخاصة، فهي ملغاة تماماً.

 

في مثل هذه الحال، يصبح الفرد نفسه أداة قمع. يقمع ذاته، ويقمع الآخرين، وهو يرفع شعار الحرية والديمقراطية. ليست المسألة لوناً أو زياً أو شكلاً كما يُراد لنا أن نعتقد؛ القضية أعمق بكثير: قضية وعي مفقود، وإنسان مكسور يبحث عن معنى فلا يجده.

 

الميت لا يعنيه كل هذا. لم يعد مضطراً للانتظار في طوابير الوقود والمصارف والانتخابات. لم يعد يطارد الكهرباء الغائبة، ولا يبحث في جيبه المثقوب عن ورقة نقدية ضائعة. لم يعد يخاف من دهس في زاوية الطريق، أو رصاصة مجهولة في منتصف الليل. لم يعد عليه أن يتحمل أسعاراً تصعد مثل وحش جائع، أو ديوناً تخنق أكثر مما تخنق الحبال.

 

هناك، في هدوء القبور، لا كاميرات مراقبة، ولا مخبر سري، ولا جار يتصيّد جاره. لا "مؤتمرات مصيرية" تنتهي ببيانات جوفاء، ولا خطابات تنمية أسطورية. هناك فقط الصمت، صمت بارد لكنه صادق.

 

فلماذا إذن ننوح على من نجا؟

أليس الأجدر أن نزفّ الميت كما نزفّ العرسان، بالزغاريد لا بالعويل، بالورود لا بالتراب؟

أليس الأولى أن نقول له: مبروك عليك، لقد استرحت؟

 

الذين ماتوا استراحوا.

أما نحن، فما زلنا ندور في نفس الحلقة، نضحك حين يجب أن نبكي، ونبكي حين لا يفيد البكاء.

المشـاهدات 448   تاريخ الإضافـة 28/08/2025   رقم المحتوى 66115
أضف تقييـم