الثلاثاء 2025/9/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
التعددية قوة توحدنا
التعددية قوة توحدنا
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

حين نتأمل تاريخ العراق وننظر في ملامح مجتمعه، سرعان ما ندرك أننا أمام لوحة فسيفسائية شديدة الثراء، تداخلت ألوانها وأشكالها عبر قرون طويلة، حتى باتت تمثل هوية لا تتكرر. هذا التنوع الذي يختزن الأعراق والديانات والمذاهب والثقافات لم يكن يوماً عيباً في جسد الوطن، بل هو في جوهره طاقة كامنة، يمكن أن تتحول إلى قوة جبارة إذا ما أُحسن التعامل معها ورُسمت لها الأطر التي تحفظها وتجمعها. غير أن سوء الإدارة وغياب الرؤية العادلة كثيراً ما جعلا هذه الطاقة تتحول إلى مصدر خلاف وصراع.

 

التعددية السياسية في العراق ليست مفهوماً مستعاراً من الخارج، بل هي انعكاس طبيعي لبنية اجتماعية وجغرافية صنعتها الأنهار والهجرات والتاريخ الممتد. فمنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في بدايات القرن العشرين، ظل التنوع حاضراً في المشهد السياسي والاجتماعي، لكن الاعتراف به ظل ناقصاً، والمساواة بين مكوناته لم تبلغ مبتغاها. الأنظمة التي تعاقبت على الحكم تعاملت مع هذا التنوع بطرق متباينة، ففي أحيان حاولت دمجه بالقوة ففشلت، وفي أحيان أخرى همّشت مكوّنات واسعة فزرعت بذور الغضب والانقسام. وهكذا، فإن التعددية لم تُدار كقيمة وطنية، بل جرى النظر إليها في الغالب كعبء ينبغي ضبطه أو كأداة للاستثمار السياسي.

 

اليوم، وبعد كل التحولات الكبرى التي مر بها العراق، صار لزاماً علينا أن نعيد التفكير في معنى التعددية. إنها ليست مجرد تعدد أحزاب أو وجوه سياسية، بل هي في جوهرها اعتراف متبادل بحق كل مكوّن أن يكون جزءاً من الوطن دون إقصاء أو تهميش. التعددية لا تُقاس بعدد المقاعد في البرلمان أو حصص الوزارات، وإنما تُقاس بمدى شعور المواطن – أيّاً كان انتماؤه – بأن الدولة تمثله وتحميه وتفتح أمامه فرص العيش الكريم على قدم المساواة مع غيره. عند هذه النقطة فقط تتحول التعددية من عبء إلى قوة، ومن مصدر صراع إلى منبع وحدة.

 

إنّ التحدي الأكبر في التجربة العراقية لا يكمن في وجود التنوع بحد ذاته، فهذا أمر طبيعي وحتمي، وإنما في كيفية إدارته. الدولة القوية وحدها قادرة على أن تجعل من التعددية جسراً للوحدة، لأن الدولة حين تكون عادلة وفاعلة تحمي الجميع، وتمنحهم الإحساس بالأمان والمواطنة الكاملة، فلا يعود هناك مبرر للانغلاق الطائفي أو الاحتماء بالهوية الفرعية على حساب الهوية الجامعة. أما حين تضعف الدولة وتفقد قدرتها على فرض القانون وتوزيع الحقوق بعدالة، فإن المكونات المختلفة تبحث عن حماية بديلة في طوائفها أو أحزابها أو حتى في الخارج، وهنا تبدأ الأزمة.

 

ولأن العراق بلد تعمّد بالدموع كما تعمّد بالدم، فقد دفع ثمناً باهظاً لسنوات طويلة من الصراع الطائفي والانقسام السياسي. لكن الدرس الأهم من كل ذلك هو أن لا خلاص إلا بالعودة إلى المعنى الأصيل للتعددية: المشاركة لا المغالبة، الاعتراف لا الإقصاء، الوحدة في إطار التنوع لا على حسابه. إنّ التجارب الإنسانية كلها تؤكد أن المجتمعات المتعددة تستطيع أن تنجح وتزدهر إذا ما توافرت لها قواعد راسخة للحوار والاحترام المتبادل، وقوانين عادلة تساوي بين مواطنيها، ومؤسسات قوية تقف على مسافة واحدة من الجميع.

 

لقد آن الأوان أن ننتقل في العراق من إدارة التعددية بمنطق المحاصصة إلى إدارتها بمنطق المواطنة. المحاصصة لم تفعل سوى تكريس الانقسام وتوزيع السلطة كما لو أنها غنيمة، بينما المواطنة تعني أن يكون الانتماء للعراق فوق كل الانتماءات الأخرى، دون أن يلغي ذلك خصوصية أي مكوّن. فالتنوع ليس نقيضاً للوحدة، بل هو شرط من شروطها، والوحدة الحقيقية لا تُبنى على الذوبان والإلغاء، وإنما على الشراكة والاعتراف والعدالة.

 

إنّ مستقبل العراق مرهون بقدرته على أن يحوّل تعدديته إلى مصدر قوة. وهذا يتطلب إرادة سياسية شجاعة، ونخبة قادرة على تجاوز الحسابات الضيقة، وشعباً يؤمن أن هويته الوطنية هي المظلّة التي تظلل الجميع. إنّ العراق بما يملكه من حضارة عريقة وطاقات بشرية هائلة قادر على أن يكون نموذجاً للتعايش في المنطقة، لا ساحة صراع كما أراد له الآخرون. ومفتاح ذلك أن ندرك أن تعددنا ليس لعنة، بل نعمة يمكن أن تفتح أمامنا آفاقاً أوسع لوحدة راسخة ودولة عادلة.

 

حين نتعامل مع التعددية بوصفها ثروة وطنية، سنكتشف أن الاختلاف لا يعني التناحر، وأن التنوّع لا يهدد الهوية، بل يعمّقها ويجعلها أكثر ثراءً. وحين نتعلم أن الطريق إلى الاستقرار لا يمر عبر إقصاء الآخر بل عبر احتضانه، سيكون بمقدورنا أن نصنع عراقاً جديداً، عراقاً يستمد قوته من فسيفسائه البشرية، ويجد في تنوعه الطريق الأمتن إلى وحدته.

 

فالتعددية ليست عبئاً نحمله، ولا قدراً نتبرم منه، وإنما هي الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، والحلم الذي ينبغي أن نعمل على تحقيقه. وإذا كان التاريخ قد أثبت أن محاولات القسر والإقصاء لم تجلب سوى الانكسار، فإن المستقبل لن يكون إلا للتعايش السلمي والمواطنة العادلة. عندها فقط نصبح أهلاً لأن نقول بثقة واعتزاز: التعددية قوة توحدنا.

المشـاهدات 20   تاريخ الإضافـة 02/09/2025   رقم المحتوى 66247
أضف تقييـم