النـص :

"شو بتفرق" إذا كنت حافظاً أو مستوعباً؟ إذا كبرت أو نضجت؟ إذا كنت تُهرِّب أو تُهجَّر؟ إذا كنت وطنياً أو طائفياً؟ إذا أعطيتَ رأيك أو انتخبت؟ وإذا كانت المرأة فاعلة وهي نصف المجتمع، فهل ينصفها المجتمع؟الجواب ليس شعاراً عابراً، بل محور مسرحية "شو بتفرق؟" للمخرج عصام أبو خالد، التي تُعرض على خشبة مسرح تورنسول في بيروت، وتدعو الجمهور إلى مواجهة صريحة مع الذات. فكل خيار يترك أثراً، وكل تفصيل يحدد مصيراً: أن تكون حافظاً بلا فهم يعني تسليم عقلك للآخرين، وأن تكبر بلا نضج يعني تكرار أخطاء الماضي. إن اختيارك بين الطائفية والمواطنة، وبين العنصرية والإنسانية، يحدد ما إذا كان المجتمع سيغلق على نفسه أو يفتح نافذة على العدالة. كما يبرز العمل أن غياب المرأة عن الفعل لا يعني غياب نصف المجتمع فقط، بل تعطيل إمكان النهوض كله.من هنا تتشعّب الحكايات. فالمسرحية تُبنى على أصوات يومية لشباب اجتمعوا في الصف الثالث الثانوي، وكل واحد يحمل قصة مرتبطة بالحرب. يقف شاب سوري ليروي كيف تحوّل من شخص متعلّم إلى عامل بناء في لبنان، بينما يختبر آخر، نصفه سوري ونصفه لبناني، عنصرية مزدوجة: مرة يُقلَّل شأنه لأنه لاجئ، ومرة يُخفَّف الحكم عنه بجملة "ما مبَيَّن عليك سوري" بسبب لون عينيه. وفي المقابل، تظهر فتاة صامتة تكتفي "بتأركَل الأركيلة"، لتجسّد الحضور الغائب لكل من صودرت منهم فرصة الكلام. وفي لحظة الذروة، يُطلَب من الجميع رواية قصصهم للأجانب طلباً للتعاطف، لكن المشهد ينقلب إلى سخرية حين يُختار "أجمل واحد" ليكون المتحدث باسمهم، كأن المعاناة لا تُقاس إلا بمدى جاذبية صاحبها.الصورة البصرية للعرض تحمل دلالاتها الخاصة: خشبة شبه فارغة، مقاعد دراسية خشبية، وطلاب يجلسون في مشهد يحاكي قاعة فصل دراسي حقيقية. لكن الفصل الدراسي هنا ليس للتعليم بل للتساؤل السياسي والاجتماعي، حيث يتحوّل الحاضر إلى مرآة الماضي والمستقبل. كل حقيبة موضوعة على جانب الخشبة تبدو رمزاً لرحيل قسري جديد، وكل التفاتة بين الممثلين تحكي عن تردّد، انتظار وخوف.تقدّم المسرحية نسيجاً من الأصوات المتوازية: قصص نازحين ولاجئين، فتيات محرومات من التعليم، شباب اضطروا للتخلي عن أحلامهم ليصبحوا عمّال بناء أو "نواطير". كل شخصية تحمل ندبة صغيرة، لكن اجتماعها يشكّل لوحة كبرى عن جيل يواجه واقعاً لا يشبه أحلامه. الممثلون -وغالبيتهم يعتلون الخشبة للمرّة الأولى- يؤدّون أدوارهم بلا أقنعة ولا تصنّع، في كشف مباشر أمام الجمهور، حيث يُستعاض عن الغناء والموسيقى بحوار يومي عفوي يقترب من لغة الحياة نفسها.انطلقت العروض من صيدا في الثامن عشر من الجاري، على خشبة المدرسة الإنجيلية الوطنية للبنات والبنين، قبل أن تنتقل إلى بيروت، حيث قُدّمت على مسرح تورنسول في الثاني والعشرين والسابع والعشرين من الشهر نفسه، ثم تذهب إلى طرابلس في التاسع والعشرين لتقدم على مسرح الرابطة الثقافية.يندرج العمل ضمن تقليد طويل في المسرح اللبناني، حيث تحوّلت الخشبة منذ عقود إلى مساحة مواجهة مع الحرب. لا يقدّم المسرح هنا واقعاً منمّقاً، بل يضع جراحه عارية أمام الجمهور. منذ تجارب زياد الرحباني في مسرحية "نزل السرور"، التي رسمت صورة حيّة للمجتمع على مشارف الحرب، مقدّماً نقداً للطبقات الاجتماعية وللأزمات التي أنذرت بالعنف، وصولاً إلى "بقي حدا يخبر" (2021)، التي تستند إلى شهادات نساء عشن الحرب الأهلية وتقدّم تجاربهن في ملجأ قديم، مركّزة على دور النساء في الحفاظ على الذاكرة الجماعية والمصالحة، وأخيراً "عندما رأيت البحر" (2025)، التي تركّز على معاناة العاملات الأجنبيات في لبنان خلال الحرب، وتستخدم الكلمات والرقص والموسيقى وأغاني فلكلورية إثيوبية لنقل المعاناة، بهدف تكريم النساء المهاجرات اللواتي شُرِّدن خلال الحرب أو فارقن الحياة.كما شهدت المسارح اللبنانية تأجيلات عديدة لعروض أخرى بسبب الحرب، وأُنتج معظمها بجهد ذاتي أو بدعم من مؤسسات أجنبية، في ظل غياب دعم رسمي وأزمة اقتصادية مستمرة منذ عام 2019. ومن أبرز الأمثلة المخرجة والممثلة فاطمة بزّي، التي اضطرت لمغادرة منزلها خلال القصف، لكنها أكملت عملها المسرحي "ضيقة عليي" وعرضته لاحقاً على مسرح زقاق في بيروت، مستعرضة قصة امرأة وعلاقتها مع زوجها. "شو بتفرق؟" يمدّد هذا الخيط، لكنه يفعل ذلك بعيون جيل لم يعش الحرب الأهلية مباشرة بل ورث نتائجها، فصار النزوح والانقسام جزءاً من يومياته.
|