الجمعة 2025/9/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 29.95 مئويـة
نيوز بار
ثقافة العقل السياسي
ثقافة العقل السياسي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

النظم السياسية، مثل الكائنات الحيّة، تولد وتشبّ ثم تشيخ وتنهار. لكنها على عكس الإنسان، تحاول أن تنكر شيخوختها، فتخفي أعراض الوهن خلف أقنعة من الشعارات والاحتفالات والبرامج والوعود. يظن المراقب السطحي أن كل شيء ثابت وراسخ، بينما في العمق تبدأ التصدعات البطيئة التي لا يراها إلا من يقرأ ما وراء السطح.

 

عندما يتقلص الصراع العام في المجتمع ويتحوّل إلى منافسات ضيقة داخل دوائر القرار، فهذا ليس مظهراً للقوة، بل علامة على بداية اهتزاز داخلي. الصراع حينها لا يكون من أجل مشروع أو رؤية، بل على المواقع والمصالح. ومع كل احتدام جديد، تتسارع دورة الشيخوخة في جسد النظام السياسي. وتجارب التاريخ العربي تثبت أن التحولات الكبرى لم تكن دائماً ثمرة خطط مدروسة، بل كثيراً ما تفجرت من أخطاء عابرة أو نزوات أو صدف بدت صغيرة، لكنها غيّرت المسار برمته.

 

النظام الذي يراهن على الخارج لضبط أوضاعه، قد يغفل عن أن القوى الخارجية نفسها لا تملك صبراً أبدياً. فحين تفشل السلطة في احتواء أزماتها، يصبح عبئها أكبر من فائدتها، ويُترك لها أن تواجه مصيرها. ولنا في انهيار أنظمة تابعة كثيرة شاهد على أن الدعم الخارجي لا يحمي كائناً سياسياً استنفد طاقته الداخلية.

 

غير أن أخطر ما في الأمر ليس الصراع ولا التبعية، بل ثقافة العقل السياسي ذاتها. فحين يكون رأس الدولة أسير عقلية مغلقة أو ذهنية تقوم على التبرير بدل التفكير، ينعكس ذلك على المجتمع كله. لهذا قيل إن الناس على دين ملوكهم؛ إذ يتحوّل وعي الحاكم إلى وعي عام، وتصبح طريقته في رؤية العالم مرجعاً لأتباعه ومؤيديه. هنا يتكلّس الواقع، ويتحوّل إلى منظومة من الأوهام يصدّقها الناس لأنها تبدو مألوفة، بينما وظيفتا الأدب والفن هما اختراق هذا الحجاب وكشف المستور.

 

الرؤية الأدبية والفكرية لا تكتفي بوصف ما هو ظاهر، وإلا غدت مجرّد نشرات أخبار. دورها أن تقتحم المستقبل، أن تكشف ما يتوارى خلف الستار قبل أن يسقط، أن ترى ما لم يُرَ بعد. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار حين تحدث عن "موت الواقع"، مؤكداً أن ما نراه ليس إلا صورة معدّة، بينما الحقيقة تذوب في لعبة الأقنعة.

 

لكن كيف نقنع الناس بأن الواقع يمكن أن يموت بينما العمارات والشوارع والمزارع قائمة؟ هذه هي صناعة التلقين السياسي منذ قرن كامل: تحويل الوعي إلى إدراك سطحي يرى الجدران ويغفل عن الروح التي تسكنها. الواقع لا يموت بموت الحجر، بل حين تذبل الشرعية وتغيب الآمال ويختفي الأفق. عندها يتحوّل العمران إلى شاهد صامت على فراغ كبير.

 

في زمن الهيمنة الإعلامية والتزييف المنظّم، لم تعد الحقيقة مطلوبة إلا بقدر ما تخدم المنفعة. تسود لعبة الإخفاء لا لعبة الكشف، وتصبح السياسة إنتاجاً متواصلاً للأقنعة. هنا يكتسب حديث بودريار بعده الأعمق حين حمّل الغرب مسؤولية ولادة الإرهاب: "لقد حطّمنا حياتهم فجاؤوا إلينا". فالعقل السياسي، إن انحاز إلى التدمير لا إلى البناء، لا ينتج إلا خراباً متبادلاً.

 

إن ثقافة العقل السياسي هي التي تحدد مسار الشعوب. فإذا كان هذا العقل منفتحاً على النقد والتجديد والاعتراف بالأخطاء، فإنه يطيل عمر النظام السياسي ويمنحه طاقة متجددة. أما إذا ظلّ أسيراً للوهم والزيف والتبرير، فإنه يحكم على نفسه بالشيخوخة المبكرة. فالسياسة، مثل الجسد، تحتاج إلى تجدد في الدماء والفكر، وإلا تسد شرايينها ويبدأ العد التنازلي نحو السقوط.

 

وفي النهاية، لا تُقاس قوة الدول بما تملكه من مبانٍ عالية أو مؤسسات شكلية، بل بما تمتلكه من ثقافة عقل سياسي قادر على قراءة المستقبل بعيون مفتوحة، والاعتراف بأن للواقع دورة حياة لا بد أن تُدار بحكمة قبل أن تكتب نهايتها بنفسها.

المشـاهدات 93   تاريخ الإضافـة 03/09/2025   رقم المحتوى 66284
أضف تقييـم