النـص : لم يعد يحمل جسده الثقيل البتة فالسوفان الذي نخر عظام ركبتية بلغ مأخذه ونظر عيونه الذي ماعاد يريه خفايا الدروب فكم تحملت ارجله السقطات والخدوش اللاارادية بسبب فشل عينيه في اداء مهمتهما... كيف يستسلم رجل عاند الدنيا ولوى ساعدها وجثا على صدرها فضربت ارض الحلبة ثلاثا معلنة خسارتها..ويقضي ماتبقى من حياته اسير الفراش والنوم بين حيطان لاتسمع ولاتتكلم. كم كان يتمنى ان يبقى في وظيفته الى الابد لكن السن القانوني هو الوحيد الذي استطاع ان يقصيه ويبعده عن مكانه الذي كان يعتقد انه خلق من اجله ولن يغادره الا بخروج روحه بين فضاءات مكان عمله وفوق مكتبه الذي ظل ناصع البياض على الدوام.في اخر ساعة له وانفكاكه من دائرته ودع اصدقاءه الموظفين فلاحظ دموعهم وهي تنزل بغزارة نزول الامطار على المرايا حاول ان يصمد ويتمالك نفسه لكنه انهار انهيار سد تناهبته الشقوق والتصدعات فراح يبكي معهم في سمفونية حزينة مؤلمة اثناء عودته الى داره اصابه احساس يشبه احساس موظف تم طرده من عمله لاسباب قانونية- فسوف لن يسمح له بدخول دائرته كما كان يفعل- وهويته الوظيفية التي تم سحبها وتحولت الى هوية باطلة . و سيتم تبديلها بعد ايام بهوية متقاعد عند دخوله غرفته رمى بنفسه على فراشه كالعائد لتوه من دفن عزيز له او كجندي مهزوم يجر اذيال الخيبة والخسران حاول ان ينام لكنه لم يستطع اراد ان يرتب اغراض غرفته التي لم ترتب منذ وفاة زوجته.. لكنه كان يخشى ان يرى شيئا من ملابس زوجته او صورها التي لازالت محفوظة في البوم صورها مرت ثلاثة ايام على تقاعده لكنها كانت تعادل ثلاث سنين ببردها وحرها وهدوئها وقلقها. فلم يمر احد من اولاده ليسلم عليه او يهنئه بالحياة الجديدة الخالية من المسؤليات والالتزامات او على الاقل يجلسون معه ليخففوا عنه اوجاع الامه ومراثي وحدته.. في الصباح نهض كعادته مبكرا مثلما كان يفعل ولكن في هذه المرة ليس لوظيفته وانما ليتسلى بحرث تراب الحديقة وتقليم اغصان اشجارها الكثيفة بعد مرور ساعة على انشغاله في ماتحتاجة حديقة الدار استيقض ولديه الواحد تلو الاخر فتفاجئا بحرث ثيلها وتكدس الاغصان الخضراء واليابسة في وسطها . اتفق الاثنان على ان مافعله والدهم غير صحيح وكان من المفروض ان يستشيرهما قبل مباشرته بالعمل- عند اتمامه العمل عاد مكسور الخاطر الى غرفته يبكي ويندب حظه العاثر مرت الايام ثقيلة عليه كانها جبال عالية رؤوسها تعانق غيوم السماء في مساء بارد كأنه الصقيع صعد اليه ولديه الكبير والصغير واخبراه انهما سيغادران البلاد قريبا دون رجعة كانت الصدمة الغير متوقعة بالنسبة له ضربة قوية على دماغه وخنجر مسموم نفذ الى الجهة الاخرى من بدنه الهزيل دارت الارض به دورانا غير منتظم..خارت قواه وانخفض ضغطه وكاد ان يسقط ارضا لولا تمسكه بمقبض باب الغرفة ..وعندما تاكد الابنان من ان اباهم عاد الى وضعه الطبيعي تركاه ليرتاح في فراشه ولكنه لم ينم ليلته.. فراح يضرب الاخماس بالاسداس ويطرق جميع الابواب ليجد حلا على اعتابها تمنحه الهدوء والسكينة . فمن حق رجل تجاوز عمره الخامسة والستين ان يتكفل باعالة نفسه وقضاء جميع حاجياته لوحده- كم تمنى ان تكون زوجته قريبة منه كظله مستعدة لتلبية طلباته ولكن ليس باليد حيلة فيد المنون كانت اسرع لاخذها بعيدا عنه ..ما اصعب العيش على رجل كهل قوس الدهر ظهره وصبغ شعره بلون بياض الثلج ان يتخذ من الحيطان اقرب صديق له ...ومن الزوايا والممرات المغلفة بالصمت والرتابة شريك لحضاته لتشد على يده وتعيد إليه الطمأنينة يتقاسم معهما همومه وأتراحه ويشاركانه أفراحه ان مغادرة ولديه واحفادة دفعة واحدة طعنة جديدة تضاف الى جملة الطعنات المؤلمة القاسية التي تلقاها قلبه المثخن بالجراحات.. وفاة زوجته . رحيل اولاده بعيدا عن عينيه ... وخروجه متقاعدا من دائرته غدا ستخلوا الدنيا من كل شي جميل من كل الذين كان يرجو من وجودهم العون والسند في الأوقات الصعبة ويشاركونه همومه ويسعون لسعادته،يتقاسمون معه همومه وأتراحه ، ويشاركونه أفراحه ويحملون عنه جزءا من اثقال الحياة. سيبقى وحيدا وسط البحر المتلاطم الامواج سيكتفي بالتجذيف بنفسه من دون مساعدة احد سيكون محاطا بالخطر من كل الجهات . ولن يرافقه غير موج ازرق لاامان له وكذا زرقة السماوات عندما انطلقت السيارة التي حملت اولاده الى المطار جثا على ركبتيه وراح يبكي بكاءا مرا يشبه بكاؤه على رحيل والده ووالدته وموت زوجته - واحتراق سنين عمره في بين الممرات الصدئة والافاق المتصدعة مرات ايام وشهور على رحيلهم وكان يتمنى ان يسمع صوت احد منهم ولكن لاصوت يسمع ولا قهقهات تتعالى حاول ان يقنع نفسه انهم قاموا باستبدال ارقام هواتفهم بارقام البلد الجديد كي تغفو عينيه ساعة من الزمن وعندما تاكد ان غيابهم قد تجاوز حده اضطر ان يخرج من داره متكأ على عكازه ليتسرب في اجزاء المدينة كالضوء ليسال عنهم اصدقائهم او اقربائهم ولكن لا اجابة مرت سنتين وعينيه لاتفارق باب الدار الرئيسي. لعلهم يعودون. واذنيه تنتظر سماع رنين الهاتف الجوال لعل واحد منهم يتصل به ولكن لا اتصال ضل باب داره مغلقا وصار كالبيوت المهجورة. واغصان اشجار حديقة الدار باتت تعاني التجاهل والعطش وزجاج الشبابيك ارتدت ثوب الاهمال بعد ان غطاها التراب بعد ان انتهى من صلاته عاد الى فراشه احس بالاعياء الشديد تمنى ان ينام ولا يستيقض ثانية فقد اصبح كالانسان الذي دخل في مرحلة الموت السريري وقبل ان يضع راسه على وسادته واذا بهاتفه يرن بكل مااؤتي من قوة واذا بابن خالته المقيم في اوروبا من عشرين سنه يتصل به وتحدث معه كثيرا وفي نهاية حديثه ابلغه ان من محاسن الصدف انه اصبح جيران ولديه وقد عاتبهم لماذا لم تجلبا معكما والدكم وكان ردهما انه رفض ذلك بحجة انه لايستطيع ترك بيته المكتنز بذكرياته مذ كنا صغارا الى يوم مغادرة بيت طفولتنا عندما سمع الرجل ماقاله ذلك القريب له انفلت الموبايل من يده وسقط على الارض كالمطعون برمح مسموم صرخ بصوت هز ارجاء المحلة هزا وكانه يريد اسماع العالم باسره ان مافعله به اولاده من ظلم لايرضى به الله وانه عقوق واضح واذى ما بعده اذى من ولديه الذين احبهما واحسن اليهما....وراح يتمتم مع نفسه ويبكي بحرقة اين وعاشرهما في الدنيا معروفا- اين وما جزاء الاحسان الا الاحسان.. اين اين اين.
|