الخميس 2025/10/30 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 16.95 مئويـة
نيوز بار
"اعط الانسان منصبا السبت، يسقط قناعه الأحد"…
"اعط الانسان منصبا السبت، يسقط قناعه الأحد"…
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

انوار عبد الكاظم الربيعي

 

عبارة ڤولتير هذه ،  لم تكن جملة في كتاب فلسفة وكفى ، بل مفتاحا لفهم مأساة انسانية تتكرر كل يوم بوجوه مختلفة...

 قرأت هذه العبارة وتذكرت معها صديقي. كان يمضي يومه في تقليب همومه الصغيرة أمامي، يحكي تفاصيله التافهة كأنها ملحمة؛ لون جوربه، ارتباكه أمام بائع خبز، انكساراته في الحب، وضيق جيبه الذي يملأ أيامه بالتذمر الخفيف، لكن الحميم. كان يشبهنا تماما: هش، متعب، لطيف ومهزوم.

ثم حصل على الوظيفة...

في أسبوع واحد، استقام ظهره، تغيرت نبرة صوته، صار كلامه أقل، ردوده أبطأ، نظرته أكثر اتساعا من أن تراك، وكأنه فجأة لم يعد يقبل أن يقف في نفس صف الانتظار الذي يقف فيه العاديون...

ولأن الحياة لا تمنح المناصب بل تكشف بها، انسلخ عن تلك الصورة القديمة كما يُنتزع الجلد اليابس عن الجرح. لم يعد يرد إلا متأخرا، وعندما يفعل، تأتي كلماته كما لو أنها صادرة من قمة جبل لا يصلنا منه سوى صدى متعجرف...

ليست المشكلة في الوظيفة. الوظيفة لا تغير الناس، بل تعريهم. كما أن المال لا يفسد أحدا، بل يحرره من التمثيل...

في كتابه "تأملات"، يكتب ماركوس أوريليوس:"لا تدع مجدك الخارجي يسلبك جوهرك الداخلي"، لكن يبدو أن أغلب الناس يبدلون الداخل حين يتحول الخارج...

التحول السلوكي بعد الصعود ليس مجرد تغير اجتماعي، بل عملية عميقة معقدة فيها نفس تتضخم حد الإنكار. كأن الجوع السابق لا يُحتمل لدرجة أن صاحبه حين يشبع، يبدأ بلعن الجائعين...

في علم النفس، قرأت أن  هناك ما يسمى بـ "انزلاق الهوية بعد التمكين"، حيث يتغير تصور الفرد لذاته حينما يشعر بأنه امتلك السلطة أو السيطرة. لم يعد يرى نفسه كواحد بين الجماعة، بل كاستثناء...

وحين يبدأ الانسان برؤية ذاته كاستثناء، تسقط أخلاق الجماعة من حساباته، ويبدأ في تصنيع خطاب جديد: خطاب التفوق. وهنا يبدأ التبدل الأخلاقي الناعم...

نيتشه كان يصف هذه اللحظة حين قال:"حين يصعد الإنسان الى القمة، عليه أن يحتفظ بالقلب الذي صعد به". لكن من منا لا ينسى قلبه عند أول قمة مؤقتة؟

لقد صار صديقي مثالا لذلك التحول الرمزي. لم تكن الوظيفة سوى "السبت" الذي تحدث عنه ڤولتير، أما "الأحد" فقد كان أول يوم سقط فيه قناعه على الطاولة، ولم يعد يشعر بالحاجة لإعادته...

هكذا تسير الأمور في هذا العالم الصغير، حيث الحظوة تسلب الإنسان حساسيته، والمكانة تعيد تشكيل وعيه، ويصير الماضي مجرد صفحة يريد تمزيقها من ذاكرته..

لكن المأساة الحقيقية، ليست في سقوطه الأخلاقي، بل في سذاجتنا حين آمنا أن الأرواح لا تتغير...

والآن، بعد كل هذا، لا أطلب منه العودة... فقط أتمنى أن يقرأ ذات يوم عبارة ڤولتير...

المشـاهدات 117   تاريخ الإضافـة 04/10/2025   رقم المحتوى 67006
أضف تقييـم