
![]() |
غرق (الباخرة إنكي) وعوالم أدب الرحلة البحري |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
د. سمير الخليل يتميز أدب الرحلة البحرية بأنه نوع أدبي سردي يرتبط بالبحر وعوالمه وطقوسه وأسراره، وما ينطوي عليه من أحداث ومفارقات ومواقف، وبما يعكس صراع الإنسان (البحارة) مع الطبيعة، بكل جمالها وبهائها ومغامراتها وكوارثها أحياناً، ولعلَّ هذا الصراع الوجودي يكشف عن قدرة ومغامرة الإنسان وهو يركب البحر بكل تداعياته ومفاجآته وأخطاره، مما يجعل هذا النوع من الأدب قائماً على بُعد درامي، وعلى فضاء مفتوح ومكتظ ومعبّر عن كلّ الاحتمالات، ويمثّل البحر بتجسيده للطبيعة وتقلّباتها مكاناً لا متناه ومفتوح، وقد يكون مكاناً أليفاً أحياناً أو يتحوّل إلى مكان معادٍ، إذا ما استعنا بتصنيف طبيعة المكان عند الدارسين، فأدب الرحلة البحرية ليس حديثاً إذ بدأ مع الحكايات الشعبية لاسيما (ألف ليلة وليلة)، ومع تجارب وإرهاصات الرواية أيضاً ورواية (الشيخ والبحر) لهمنغواي ليست بعيدة عن ذاكرتنا، بل نجد له جذوراً وتمثّلات في الآداب والميثولوجيات والموروث الإنساني بشكل عام . إنَّ البحر هو جزء من حياة الإنسان والمجتمعات البشرية قديماً وحديثاً، وهو العالم الذي يمثل مساحة وأفقاًَ من آفاق التناغم مع الطبيعة واستثمارها، من أجل تحقيق الوجود الإنساني والتنعّم بالعيش واستغلال خيرات ومعطيات الطبيعة، وعالمياً نجد رواية (الشيخ والبحر) أنموذجاً لأدب المغامرة البحرية، وعربياً تبرز تجربة الروائي (حنا مينا) في الكثير من أعماله التي تجسّد عوالم ومغامرات وأجواء البحار، وحياة البحارة وأسرارهم وهمومهم ومغامراتهم . وتمثّل رواية (الإبحار إلى كالكوتا) للروائي (حسن البحار) أنموذجاً جميلاً لأدب الرحلة البحرية بكلّ تداعياتها وأحداثها، وعلى وفق الطاقة الإرشادية والسيميائية للعنوان الذي يعبّر ويجسد دلالة هذا النوع من الأدب (الإبحار إلى كالكوتا)، وهو إبحار للباخرة (إنكي 3) من ميناء البصرة إلى ميناء (كالكوتا) في الهند، وفي أعماق المحيط الهندي، ولابد من الإشارة إلى أنّ وصف هذه الرواية وتثبيت نوعها على الغلاف بجملة (أدب رحلات) يثير إشكالية من حيث التجنيس والتوصيف، فالرواية تتحدّث عن باخرة ورحلة وهموم ومحن وتفاصيل حياة البحارة، وما تعرّضوا له من عوائق وصعوبات وأزمات، والرواية لا تجسّد طبيعة الاشتغال والأجواء التي يعبّر عنها أدب الرحلات، لأنَّ أدب الرحلات هو أي سرد للرحلة غير أنَّ رواية الرحلة لها نظامها وتقنياتها السردية الخاصة، وينبغي التفريق بين هذين النوعين من الكتابة على وفق الطبيعة والمواصفات الخاصة والفارقة بينهما. ونلحظ عنواناً فرعياً للرواية هو (رحلة البحّار سيمو) وذلك توكيد على طبيعة السرد المرتبط برواية الرحلة البحرية، ولم تكن رحلة للبحث في المكان والعادات والجوانب الأنثروبولوجية والسيوسيولوجية والجغرافية التي يتسم بها أدب الرحلات كما هو معهود إنّما اتّسمت الرواية ببنائها الفني القائم على سرد ذاتي عبر أسلوب (تيار الوعي) أو التداعي الحر لشخصيّة البحّار الذي يمثّل الشخصية الرئيسة التي تقوم بسرد الأحداث على شكل فضاء استرجاعي، واستعادة أحداث الرحلة والمعوّقات، وهموم البحّارة ، وتعرّض الباخرة للغرق نتيجة تراكم النقص والعوائق التي أدت إلى الحدث الكارثي. يمثل البحّار (سيمو) الناجي الوحيد من هذه الكارثة كما في المقطع السردي الآتي: " أما عن إحساسي بالضياع من كوني الناجي الوحيد من حادثة غرق الباخرة (إنكي 3) فيدفع العالم من حولي إلى الإصغاء ولا استطيع كشفها.
بذلت قصارى جهدي في تجاوز مخاوفي، لكن لم أجد من يساعدني على الكلام ، وإن تحقق ذلك .. فهل يكفي ؟ حسمت أمري في الهروب من بلدي، مدينتي، شارعي، بيتي، ذكرياتي وطفولتي، إلى بلد لا يعرفني فيه أحد ولا أعرف فيه أحداً، وبدأت أرسخ أيامي في الغربة، أروّضني على النسيان، لكن إحساس اللامبالاة لم يساعدني على ضبط النفس، وإخفاء الهلع من احتمالات الفشل من الاستمرار برغبتي ..." (الرواية: 9). وعلى وفق هذا المقطع نكتشف أنّ (الشخصية) البحار الناجي يعاني الإنكسار، والوحدة والهلع واستعادة محنة غرق الباخرة التي كان يعمل فيها، ويمارس حياة البحّارة في داخلها، وتفاصيل علاقاته مع زملائه (نور) و(ساهر) و(سنان) و(حميد)، ورئيس الضباط (نمير)، والمحقق البحري (كاج مايلم) المكلّف بالتحقيق في أسباب غرق واختفاء الباخرة من قبل الشركة العالمية للتأمين البحري، وكذلك علاقة البحّار أو بطل الرواية بشخصية الفتاة الجميلة (بربارا) وما حدث بينهما من تعلق عاطفي، وعلاقته المتوتّرة مع أحد زملائه المدعو (هشام)، إنّه ينقل إلينا أجواء وعوالم وتفاصيل حياة البحارة بكل جمالها وهمومها ومشاغلها والخوف من مواجهة كارثة الغرق . ونلحظ اشتغالات للتعمّق في الذات لاسيما أن البحّار حين يمارس عمله فوق المجهول فإنّه ينطلق في عالم من الخوف والمغامرة، وتوقّع الكوارث التي غالباً ما ترافق السُفن والبواخر، وتضع البحّارة دوماً في قلق وهلع، وهم يراقبون عمل البواخر، ويراقبون البحر وتقلبّاته مما يجعل حياتهم رحلة في أعماق المجهول. ولعلّ هذه العوالم والمغامرات والكوارث هي جوهر أدب رحلة البحر، وصراع الإنسان مع الطبيعة ومع ركوب المغامرة التي لا تخلو من الأخطار والمفاجآت غير المتوقّعة، إذ اعتمد الكاتب تقنية أو أسلوب السرد السايكولوجي المتّسق مع البوح أو السرد الذي تقوم به الذات وهي تسترجع أحداث الماضي، وتعيشها مرّة أخرى في محاولة لتطهير الأعماق من الألم والأحزان، والغربة التي اختارها البطل في محاولة للنسيان، لكنّه كلّما ابتعد عن هذه الأحداث المأساوية، فإنّه يجد نفسه وقد غرق فيها مرّة أخرى، وتمثّل الشخصيّة حالة عالقة بين الماضي والحاضر، والموت والحياة والحلم والكابوس والأمل واليأس كما يقول الراوي: " وسط الفراغ الذي أعيش فيه بدأت حياتي تمرّ مسرعة وضيق الفضاءات يشعرني بأنّه لا أمل يشرق من شرق أو غرب، هل أملك فرصة للخلاص من اليأس الذي بدأ يأكلني من الداخل والعيش بسلام في حياة يمكن لها أن تكون قصيرة" (الرواية: 7). تضعنا الرواية إزاء ذاكرة البحّار وهو يستعيد كلّ الأحداث، وكل تفاصيل حياته حين قرر الابتعاد عن بلده ومدينته ليجرّب الغربة ويطرق المسافات بين اسطنبول ويالوفا التي تتحول إلى أمكنة لممارسة طقوس الاستذكار، والبحث عن الذات بل عن لحظة يجد فيها الخلاص من جلد الذات، وتذكّر الأحداث بكلّ معاناتها وعنفها ومغامراتها . عبر بوح الشخصية وتداعيات الاسترجاع السايكولوجي نكتشف وجود شخصية أخرى يفاجأ بوجودها (سيمو) وسط غربته ومنفاه الاختياري، وهي شخصية البحّار المنقذ (كامي بير) الذي أنقذه ساعة غرق الباخرة، واللّقاء بينهما وسط الغربة فضاء لاستعادة ما جرى ثم نكتشف أن اسمه الحقيقي (كمال غريب)، إذ استبدل اسمه حين قرّر السفر والهجرة هو الآخر، ونلحظ أنَّ الكاتب قد وظّف الحوار الدال بين الشخصيتين وحوارهما حول حادث الغرق وأسبابه وأسراره: "مرّة أخرى قاطعني منقذي (كمال غريب) وزاد :
هزّ رأسه بالنفي وقال :
وهناك شخصيات أخرى قد تبدو ثانوية لكنّها تسهم في بناء خطوط الأحداث والحبكة مثل شخصية المرأة التي تخدم في شقّة (موني)، وشخصيّة الزوجة التي لم تحظ بتفاصيل كثيرة، وقد رسّخ الكاتب فرضيّته السردية بأن اختار البنية الدائرية للحدث إذ بدأ من نهاية الأحداث، ثم توغل بالسرد المعاكس من نهاية الأحداث، ثم توغّل بالسرد المعاكس نحو البداية وجعل من ذاكرة البحّار، وذاكرة المنقذ (كمال غريب) هي المساحة التي يستعاد بها الماضي للكشف عن كلّ التفاصيل ومحاكمة الواقعة من وجهة نظر الذين كانوا فيها، وبعد مضي الزمن كان التفكير بالأحداث يمثّل نوعاً من استعادة الماضي والبحث عن الذات والنظر إلى الوقائع بعد حصول المسافة الزمنية. ونلحظ في طبيعة أدب رحلة البحر كثيراً من وصف البحر، ووصف هموم وتفاصيل البحّارة، وسايكولوجيتهم وانشطار ذاتهم بين البحر والمدن، وإنّ حياتهم هي ترحال دائم ومغامرة تتناسل دوماً كلّما ركبوا البحر والسفن باتّجاه المجهول، يقول الراوي: "أبحرنا بعد منتصف الليل قاصدين موانئ التحميل، لن تنطلق الباخرة بسرعتها المعتادة قبل تحديد الميناء، ولا أملك ما يرفع من نفسي إلى أصحاب الأمر في برج القيادة، مدفوعاً بالأسف على الحال الذي نعيش فيه وسط البحر، دخلت غرفتي محبطاً أفكّر بالاستحمام، نزعت ثيابي، (فيك حماسة لحلاقة لحيتك)، قلت مخاطباً صورتي في المرآة ضحكت للوجه الناظر إلى ظهور عظامي بدهشة واستهزاء سألته: ما بك ؟ . لم يكن عندي أي تحفّظ من عري جسدي ولا أفهم سرّ مزاجي الضاحك؟!" (الرواية: 73). وظف الكاتب أسلوب المزاوجة أو المونتاج بين الزمن الماضي واللحظة الحاضرة، فهناك التأمّلات وتفاصيل الحياة اليومية في شوارع ومقاهي اسطنبول، ويالوفا، وبين الارتداد السردي الماضوي واستعادة كلّ تفاصيل الرحلة منذ البدء وحتّى حادثة الغرق والاختفاء، وما حدث بين هذين الحدثين أو المسارين من حوادث ومن تفاصيل، حدثت داخل الباخرة، ومن العلاقات وأسلوب التعامل والتعاون المهني بين البحّارة، وارتباط كلّ بحار أو عنصر بعمل من أعمال الباخرة، وتوفير كلّ المستلزمات لكي تبقى في إبحارها، وتصدّيها وإكمال رحلتها، وهي أعمال شاقّة ودقيقة، وإنَّ أيَّ نقصٍ أو ثغرة أو عطل قد يؤدّي إلى الغرق أو الحريق أو أي كارثة أخرى . وهناك التفاصيل التي ترصد حركة البحّارة داخل الباخرة وتشعر أنّك إزاء خليّة نحل تعمل بدأب وجد، وكل بحّار ارتبط بعمل أو مسؤولية تحدد مدى إسهامه في العمل الشاق في الباخرة، وهي تنطلق في المجهول ومعرّضة لكل طارئ، وتنتاب البحّار إرهاصات وإحساس بوجود الخطر، وقد يدرك البحّارة وسايكولوجيتهم ببعض التفاصيل أو الإشارات التي ربّما تنبئ بالخطر وهو نوع من التطيّر أو الاستشعار الاستباقي: "ومن شباك غرفتي الدائري لمحت الأزرق بدأ يتسع، سرّني ما رأيت عندما عرفت أنّ هذا الإبحار يختلف عن كل إبحار جديد، ساعدني عدم الشعور بأي ألم في جسدي على ترك الفراش والتوجّه إلى العمل، لكن حين نهضت أغمضت عيني متوجّعاً من أمعائي فتحتهما منزعجاً ، مرّة أخرى انتصر الألم على المسكنات، لا رغبة لي في الإفطار، ليس هناك ميناء يستقبلنا" (الرواية: 77)، وتتوالى فصول الرواية وهي تتوغل في اكتشاف أسرار وأحداث أدّت إلى غرق الباخرة من خلال استدعاء واستنطاق الماضي وكل التفاصيل التي رافقت الرحلة . إنَّ الفصول التي استعادت الماضي انطوت على نوع من الكشف، وتتبّع الأحداث وبما أضفي على حركة السرد المعاكس والارتدادي نوعاً من التشويق القائم على أسلوب التحرّي والكشف واستعادة التفاصيل ، ولم يجد البحّار وهو في غربته سوى أن يستعيد هذه الوقائع التي تشكّل جزءاً مهمّاً من ذاته القلقة، والمتطلعة، ونشعر ونحن إزاء شخصيّة مأزومة بسبب حادثة الغرق التي كانت سبباً في مراجعة الذات والاستغراق في تأمّل الحاضر والماضي، وكينونة الشخصيّة، ولذا نجد هذه الشخصيّة غالباً ما تبحث عن مكان تلوذ به، وكأنّه تعبير عن قلق البحّار وإدمانه الترحال والحركة والبحث والتطلّع . وظل الكاتب يستخدم أسلوب التواتر ويردف كلّ فصل بفصل آخر، وهو يتابع مراحل الرحلة وتفاصيل الوقوع في العوائق والأزمات والمفاجآت والعوامل أو الثغرات التي أدّت إلى الغرق والتلاشي، ووضع لكل فصل عنواناً فرعياً واعتمد السرد السايكولوجي، كوسيلة للكشف عن مدى المخاطر التي أحاطت بالباخرة على الرغم من أنَّ بداية الرحلة لم تكشف عن خلل أو عطب، ولكن مسار الباخرة في أعماق البحار، ونتيجة حدوث بعض الأعطال أدّى إلى هذه النهاية وقد مزج الكاتب ببراعة بين (أدب رحلة البحر) و(أدب الكوارث)، وتأطّر السرد بالإثارة والتحرّي والكشف عن النوازع السايكولوجية والقلق والبحث عن رسوخ الذات وسط هذا المعترك : "التمس من السماء ألا يتردد رئيس المهندسين في الاتصال بالربان واطلاعه على سوء ما نحن فيه.. إشارة خطر (إنكي3) يهددها ماء المحيط بالغرق والوقود المار قرب الغلاية بالحريق..." (الرواية: 234). وبهذه المعطيات القلقة وعلى مستوى الثيمة الإنسانية للرواية حقّق الكاتب أنموذجاً من نماذج أدب رحلة البحر، وتأطّر اشتغاله بالهم الإنساني والبحث عن الذات وهي تكابد التأزّم والانكسار . |
المشـاهدات 19 تاريخ الإضافـة 13/10/2025 رقم المحتوى 67264 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |