الإثنين 2025/10/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 25.95 مئويـة
نيوز بار
ساهرة ..وعدالة السماء
ساهرة ..وعدالة السماء
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

محمود ال جمعة المياحي 

 

      عندما تكون الأفكار متقاربة يكون الانسجام هو القاسم المشترك بين النفوس ، هكذا رأت ساهرة الفتاة القادمة من مدينة البرتقال زميلها صباح الذي كان رفيقا لها طيلة اربع سنوات في كلية الآداب ببغداد قسم الفلسفة ، الكلية تصلح ان تكون مكانا للاختيار والاختبار ، كانت ترى في طروحات صباح الفلسفية والدينية ملاذا يحتضن آرائها ويحاكي افكارها ، لم تكن ساهرة غاية في الجمال ولكن كانت غاية في النشاط والتألق في طرح الأفكار وتبني الفلسفة الدينية ، هي ابنة الاربع والعشرين ربيعا حجابها والتزامها لا يمنعها من الحديث والانطلاق بمناقشات فاعلة مع الطلاب ، صباح الذي يكبرها بسنة واحدة اعُجب بها واخضعها مرار المختبر التحليل الفلسفي والعقائدي ! لتظهر النتائج إيجابية بعد زرع عينات من مواقفها لسنين الدراسة تحول هذا الاعجاب الى علاقة ثم الى حُب !!

في الأيام الأخيرة من السنة الأخيرة لدراسة الفلسفة اعتمد صباح في قراره على نتائج التحليل الفكري فوجد ان ساهرة هي من تصلح ان تكون شريكة حياته، وانها المرأة المناسبة له كونها تفاعلت مع طروحاته وافكاره ودائما تشاطره الرأي فتّجرأ وقال لها . . ساهرة ..بعد ما نتخرج اريد ازوركم بالبيت ! ابتسمت ساهرة وقد استلمت الرسالة بوضوح وردت ..نحن بانتظارك !!   صباح كان يتبنى الأفكار الإسلامية والعقائدية وساهرة تشاطره ما يفكر به ، فمثيل الشيء منجذب اليه ، وفي آخر يوم من الامتحانات دعاها لتناول الإفطار في مطعم تاجران في شارع السعدون ، وافقت فركبا الباص الأحمر ذو الطابقين من ساحة الباب المعظم ، صعدا الى الطابق الفوقاني وجلسا في المقعد الخلفي الواسع ، جاء احد الأشخاص وسّلم على صباح وجلس بجانبه وبعد حديث بسيط دس اليه استمارة استلمها صباح وضمها بين كتبه ثم استأذن الصديق وانصرف ، دار حديث مع ساهرة  عن الامتحان الأخير وفي هذه الاثناء مرر الاستمارة لها وقال املئيها بالعجل ، بدأت بمليء حقول الاستمارة وهي مطمئنة لوجود صباح الذي يريد بها خيرا واحسانا ،كان الباص قد وصل الى ساحة النصر حيث مطعم تاجران هَـمّا بالنزول من الطابق الفوقاني وعند باب دفع صباح الاستمارة لصديقة حيث كان ينتظره هناك دون ان يلحظ احد شيئا ،شاهدت ساهرة هذه الدراما دون ان تعرف ما لذي يحدث سوى انها مطمئنة لتصرف صباح الذي يريد مصلحتها لا إيذائها ، المرأة عندما تحب تمنح ثقتها لمحبوبها دون أي حساب ، بعد ملئ الاستمارة شعرت ساهرة انها أصبحت من كوادر الحزب الذي ينتمي اليه صباح لذا هي ارتبطت به فكريا وعقائديا قبل ان ترتبط به روحيا وجسديا ..!بعد التخرج ونيل شهادة البكالوريوس زفت ساهرة الى صباح ضمن حفل اقتصر على الاهل فقط وقرر العريسان قضاء شهر العسل في شمال العراق ، وفي طريق العودة وقفت الحافلة عند احد نقاط التفتيش القريبة من مدينة بغداد صعد رجل الامن وقال للراكبين ..اخوان حضروا هوياتكم نساءً ورجالاً ! وعندما قرأ هوية صباح وساهرة طلب منهم الترجّـل والنزول من الباص رد عليه صباح وهو متوتر ..اخي احنه لا بايكَين ولا سارقين ولا معتدين على احد ليش تريد تنزلنه وشنو السبب !! لم تنفع محاولات صباح في اقناع العسكري من العدول عن قراره فغادر العريسان الباص، شعر صباح ان شيئا ما قد حصل ولكن لا يعرف ما هو !!ربما الاشتباه ..او..او ..؟! في الليل تم نقل العروسين بسيارة بوكس سوداء الى احد مراكز الامن في بغداد ليبدأ التحقيق معهما ! صباح انسان شجاع لا يهاب المواقف الصعبة ! متعلم ومهذب وكلامه موزون لا يعرف الكذب بل قول الحق دون الانكار وكان يُجيب على أسئلة المحقق بكل امانة وصدق وهذه المبادئ التي تعلمها ( قل الحق ولو على نفسك) ! وعندما سأله المحقق عن انتمائه الى الحزب الاسلامي المحظور !! صمت وأغمض عينيه وهزّ راسه إيجابا !! اما ساهرة فقد وجدت امامها الاستمارة التي ملائتها في الباص وكان دليل ادانتها ولمجرد السؤال. هل هذا خطكِ وتوقيعكِ ؟! استمر التحقيق ومعه التعذيب وانتزاع الاعترافات قسرا لفترة ثمانية اشهر للوصول الى افراد التنظيم ، في السجن شعرت ساهرة ان شيئا ما يتحرك بين احشائها فعرفت انها حامل !!لم تنفع كل طرق الإجهاض التي مارستها ساهرة في انزال الجنين ولكن إرادة الله كانت فوق إرادة البشر! اما عاملة الخدمة في السجن ( رضية ) فكانت تساعد ساهرة على ذلك فهي تراقب حارس السجن كلما ابتعد اقتربت هي من زنزانة ساهرة تُهدأ من روعها وتواسيها على حالها ، وبالوقت نفسه تتمنى ان تكون مثل ساهرة (حامل ) حيث مّر على زواجها عشر سنوات دون خلف والسلف يتهمونها بانها عاقر! ، اتعس أمراه هي التي لا تجد بين ذراعها طفل تحمله وترضعه وتهتم به فيضل هوسها شاخصا على النساء الحوامل ليس من باب الحسد والغيرة وانما لحفظ النسل والشعور بالاطمئنان ،ولكن لا اطمئنان مع قرار محكمة الثورة التي قضت بصدور حكم الإعدام شنقا حتى الموت على العروسين !! صُدمت ساهرة من قرار الحُكم وانهارت بالبكاء واللطم وهي تصيح بصوت مرتجف مخنوق .. آني يُطبني مرض .. لكن هذا الي إبطني وين راح يروح ..؟ منو راح يربيه اذا عاش !! بعد صدور الحكم أصبحت الحياة اكثر ثقلا و تعاسة وألما، حاولت ساهرة اجهاض نفسها ولكن دون جدوى !!

   ان قانون المحاكم العراقية ينص على تنفيذ الاحكام الثقيلة بعد شهر من صدورها واكتسابها الدرجة القطعية ، فكرت ساهرة ان موعد تنفيذ الحكم قد يتزامن من ولادتها فقدمت التماس للمحكمة تطلب فيه عطفا إنسانيا بتأجيل تنفيذ الحكم عليها الى ما بعد الولادة ..!! فجاء الرد مجحفا وجائرا وبتهميش الحاكم الفعلي على الطلب ( لا نريد خائناً صغيراً ! ينفذ الحكم في موعده المقرر) !! تبلغت ساهرة بقرار الحاكم الفعلي للمحكمة على طلبها بعدم الموافقة فقامت بالدعاء بارق العبارات لمولودها اذا كـُـتبت له الحياة !! واقسى العبارات على الحاكم ..!!

  ان المرأة الحامل مستجابة الدعاء لإنها تحمل سراً من اسرار الخالق عز وجل في جسدها، اما رضية فكانت تؤازرها بالدعاء بكلمة آمين يارب العامين ، وهي لا تملك سوى الانتظار لرؤية نهاية المشهد الذي يتأزم يوم بعد يوم ، ومع نهاية الشهر يكون موعد التنفيذ قد حان !! فحضر كل من المفتي لتلقين المحكوم ببضع كلمات قبل الموت ! ويحضر أيضا الطبيب ليتأكد من مفارقة المُدان للحياة والتوقيع مع مدير السجن على محضر تنفيذ الحكم كما جاء في قرار المحكمة .

   لم يغب وجه الله عند فتح بوابة الموت ليتدلى جسد ساهرة معلقا بحبل المشنقة وهي حامل، وفي لحظة ذهول بين روح تصعد الى السماء ورح تنزل الى الأرض سقط الجنين من بطن امه معلقا بالحبل السري للحياة وهو يصرخ دالاً على عدالة السماء بانها قادمة لا محال حتى ولو بعد حين !! هذا المخاض العسير والعسير جدا الذي تحملته ساهرة الذي اجتمعت فيه لحظتين .. لحظة الموت ولحظة الولادة !! ، تلك النفس الزكية التي تحملت اقسى لحظتين في حياتها .. لحظة خروج روحها ولحظة ولادة من روحها ..!! انها جبل الصبر!!

   لقد شّكل وجود طفل في هذا المشهد الدراماتيكي انعطافه كبيرة في حياة رضية التي كانت تبكي الما وفرحا في نفس الوقت عندما اوعز اليها مدير السجن الاحتفاظ بالطفل وهو يعرف معاناتها من عدم وجود طفل في حياتها رغم مرور عشر سنوات على زواجها! تبنت رضية الطفل واسمته (محمد) ليملئ كل حياتها ويصبح دينها ودنياها، ادخلته المدرسة وكلما نجح من صف لاخر ُتـقبله و تضمه لصدرها وتقول الله يرحم ساهرة وصباح ..! لم يفهم محمد من هي ساهرة ومن هو صباح اللذان تدعوا لهما امه رضية كلما حلت مناسبة في العائلة، وعندما تخرج محمد من السادس اعدادي طلبت رضية من مدير السجن ان يتوسط لقبول محمد في كلية الشرطة وكان لها ذلك ، تخرج محمد ضابط في قوى الامن الداخلي وعندما رأته بالرتبة و البزة العسكرية بكت بكاءً شديدا وهي تُقبله وتحضنه وتضمه الى صدرها وتقول اللهم ارحم ساهرة وصباح ..! وهنا تنبه محمد ليسأل امه رضيه عن الاسمين التي دائما يسمعها تدعوا لهما بالرحمة والغفران ..يمه رضيه دائما اسمعج تدعين لساهرة وصباح .. منو هذولة !؟ اشتد بكاء رضية مع ارتفاع صوت العويل والنواح وادركت ان الوقت قد حان كي يعرف محمد حقيقة الامر .!!

   وفي بداية القرن الواحد والعشرين وتحديدا عام 2003 سقط راس النظام وسقطت كل الرؤوس التي تعمل معه ومن ضمنها الحاكم الذي لم يوافق على تأجيل تنفيذ الحكم الى ما بعد الولادة!!  وأودعوا جميعا السجن الذي فيه محمد ضابطا للأمن فصار بإمكانه استخراج اضبارة والديه المودعة في أرشيف السجن منذ خمس وعشرين سنة ، وبدأ بالبحث عنها حتى وجدها، مسكها بيدين مرتجفتين وحاله حال من يفتح قبر والديه ليكتشف ماهي التهمة التي أدت بهما الى الإعدام !! وهل كان والداه خائنيين للوطن ليحكم عليهما بالموت ؟! وان صح ذلك يعني انهاء شرفه العسكري، اما اذا كانا صالحين فيصبحا شهيدين وله كل الشرف !! بين خيانة الوطن وصيانة شرفه بون شاسع !! فتح محمد الاضبارة ببطيء وحذر وخوف مما سيجده في داخلها !! بدأ بقراءة التهمة ثم الإدانة ثم الحُكم! لم يستطع محمد حبس دموعه عندما قرأ أساس التهمة وهي الانتماء الى حزب ديني وهذا مخالف لمبادئ الحزب الشمولي الحاكم ، الدين في تلك الفترة  يُعّـد اعتراض على النظام اكثر مما هو ممارسة دينية !!حيث لاتوجد حرية يمارسها الانسان ! واندهش محمد ان والده لم يوجه فوهة رشاشته او سار بدبابة لا سقاط النظام!! فقط لانه يحمل فكر ومبدأ لايتفق وفكر الحاكم !! اكمل محمد قراءة الاضبارة حتى وصل الى آخر ورقة وهي ( ورقة الالتماس )التي كتبتها والدته ساهرة بخط يدها ، قرأ اسمها ورأى توقيعها وتمعن بالتاريخ الذي يقترب من تاريخ ولادته ، لحظة مؤثرة جدا، اجهش بالبكاء كثيرا، لأول مرة يعثر على شيئ فيه رائحة من والدته ساهرة ، احتضن الورقة وكانه يحتضن امه ، لثم كل حرف فيها بشفتين مبتلتين بالدموع ، قّـَبل كلماتها بهدوء ،لامس شغاف العبارات المكتوبة رغم انها موجة لاسترقاق قلب الحاكم الظالم ،ادرك انها كتبت هذه الكلمات قبل اعدامها بأيام قليلة ، تخـّيل اناملها وهي تمسك بالقلم ، دموعة تنصب بغزاره وكانه يريد ان يغفر له الزمن الضائع الذي لم يكن على علم بالواقعة ،  لا يمسح الزمن حروفه بل تبقى رغم التقادم دليل للإدانة ! قرأها عدة مرات لعله يسمع صوت امه يناديه من فضاءها الاثير، تمنى لو رأى صورتها ، ثم جالت عيناه على العبارة الأليمة التي كتبها الحاكم الجائر، وقرأ اسم رئيس المحكمة الذي اصدر الحكم .

   غادر محمد غرفة الأرشيف وفي راسه أسماء المجرمين فذهب مباشرة الى سجل الموقوفين فشعر بالارتياح عندما راى عدالة السماء قد انتصرت وجاءت بهم الى السجن الذي هو ضابط امن فيه، تابع محمد سير المحكمة واستمع الى الكم الهائل من الجرائم والظلم على مدى سنين حُكمهم وهو يتخيل شكل الحُكم الذي يستحقه هؤلاء المجرمون ،ولكن هل بقى شيء من الصبر في قلب محمد !! الصبر هو الكبسولة الوحيدة التي تعطيك الامل بان عدالة السماء قادمة لا محال، وهو يتذكر ابيه صباح وامه ساهرة كم صبرت وتجرعت السُم وتحملت الهّم طيلة فترة تسعة اشهر، لتاتي لحظة النطق بالحكم من قبل المحكمة الاتحادية بالاعدام شنقا حتى الموت لكل المجموعة الحاكمة الباغية

    طلب الملازم محمد من مدير السجن ان يقوم هو بنفسه تنفيذ الحكم الصادر بحق المجرمين رئيس محكمة الثورة والحاكم الفعلي فكان له ذلك، و قبل ان يضع الكيس الأسود في راس الحاكم قال له ،.. إلك يوم ياظالم  وربنا يُمهل ولا يَهمل الكاس الذي سقيت به والدي سوف تشرب منه وهذه عدالة السماء ثم وضع حبل المشنقة في رقبته وفي سابقة غريبة لم يشهدها العالم انفصل رأس الحاكم عن جسده عند فتح بوابة الموت ..!! هكذا انتصر الحق للكبرياء الجريحة التي ازهقت روحهما الطاهرة ظُلما ، فان دعتك قدرتك على ظلم الناس فلا تنسى قدرة و عدالة الله .

                                                                                        18/8/2025

      

المشـاهدات 44   تاريخ الإضافـة 19/10/2025   رقم المحتوى 67502
أضف تقييـم