
![]() |
سفينة السماء قصة قصيرة د. عبدالحسين علوان الدرويش |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : كان هارون الرشيد ابيض طويلاً , مسمناً جميلاً , قد خطه الشيب , جالساً على كرسي الخلافة بكامل أبهته , لبّس بالثياب المطرزة بالذهب , على سرير ابنوس , قد فرش بالديبق المطرز بالذهب , ومن يمنة السرير تسعة عقود مثل السُّبح معلقة , ومن يسرته تسعة اخرى , من افخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار. معتمراً بعمامة سوداء مصنوعة من الخز , يرتدي القباء المفتوح عند الرقبة , حيث يظهر القفطان بلون زاهي وله أكمام ضيقة , وكان يلبس حراماً مرصعاً وعباءة سوداء , وقلنسوة مزينة بجوهرة غالية. وتحيط به حاشيته بأحد عشر الف خادم خصي , من صقلي ورومي وأسود , وعدد الحجاب سبعمائة حاجب , وقد فرشت الدار بالفرش الجميلة , وزينت بالآلات الجليلة , ورتّب الحجاب والحواشي على طبقاتهم. وكانت هناك شجرة من الفضة وزنها خمسمائة درهم عليها اطيار من الفضة تصفر بحركات قد جعلت لها , وكان في وسط المجلس بركة كبيرة مدورة فيها ماء صافٍ , وللشجرة ثمانية عشر غصناً لكل غصن منها شاخات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضّضة , وأكثر قصبات الشجرة فضة ولها ورق مختلف الألوان , يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر , وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر. تولى الرشيد خلافة دولته المترامية الاطراف التي تمتد من اواسط آسيا حتى المحيط الأطلسي , لقد أقبلت الدنيا على هارون , فالأموال تساق اليه من مشارق والأرض ومغاربها , حتى قال كلمته المشهورة: امطري كيفما شئت فأن خراجك يعود اليَّ!!! وقد عرف بحبه للأنس والطرب والغناء وشرب الخمر والرقص حتى الصباح , وخاصة في موسم الصيف على نهر دجلة , بعد ان أهتم ببناء الدساكر , وقد ملئت بالجواري والراقصات , بعد ان جلبت من كافة بلدان الشرق والغرب. وأمر بتأسيس بيت مال السرور لهذا الغرض. وقد بدت خلافة الرشيد كأنها عالم يملؤه السحر والغموض , يصب النهار في الليل ليتحول الى أضواء كاسحة تنير أجواء ليالي ألف ليلة وليلة , فالقواد يحرسون الثغور , والوزراء الذين سخروا الدولة والشرائع لخدمة الخليفة وتثبيت سلطانه ويضربون بيد من حديد كل المعارضين لحكمه. والشعراء يتبعهم الغاوون في مدح الخليفة لتتسرب العطايا الى أفواههم من خزائن الدولة المليئة بالأموال والمجوهرات التي تجيء اليها من أقصى المشرق والمغرب. وعندما فاضت حمامات الدم من اجساد المعارضين لحكمه الغاشم عندما أظهر عداءه العارم وبغضه الشديد للسادة العلويين , فلم يبقِ لوناً من الوان الاعتداء الصارم إلا مارسه معهم. انتشرت هذه الدماء لتروي قصور الخليفة وتطمس معالم كرسي الخلافة , بعدما اتلفتها الأضواء والنفوس , أرهقتها شهوة المال والسلطة ا لجائرة والاستبداد وكثرة الانقلابات , وقامت رائحة المكر والخيانة وخاصة في تلك الليلة الظلماء التي يفتقد فيها البدر , استدعى الرشيد وهو يمسد لحيته رجلاً اسمه (علي بن صالح الطالقاني) وقال له: أنت الذي تقول ان السحاب حملتك من بلد الصين الى طالقان ؟؟؟فقال: نعم. فأردف هارون بالقول فحدثنا كيف كان؟ قال: عندما كنت عائداً من الصين , في سفينة تمخر بحر الظلمات , الذي لا يحده افق مبين. وكانت السفينة تجري بنا في موج كالطود العظيم , ثم عصفت رياح صرصر عاتية , تمخض فيها سيل جارف , فانفلقت السفينة الى نصفين في لجج البحر , الذي بدأ به الليل يغشى أواخر النهار حتى اصبحت السماء حالكة الظلمة.. وبقيت ثلاثة أيام على احدى الواح السفينة الخشبية , تضربني الأمواج المتلاطمة الهائجة وتلاحقني ضربات حظي العاثر , الذي نبذني بالعراء وأنا سقيم...!!! وقد طرق سمعي خرير مياه لأنهار عذبة , وظل اشجار باسقة كثيفة , فبدأ يدب في جفني النعاس ورحت في اغفاءة لذيذة بعد التعب والجهد الذي بذلته في عمق البحار , وتحت ظل شجرة الاثل فأحسست بالخدر ينتشر في جسدي رويداً ..رويدا. بينما كنت في عز النوم سمعت صوتاً هاتفاً هائلاً .. فانتبهت لمصدر الصوت فزعاً مذعوراً متوجساً خطراً يداهمني وأنا بين النوم واليقظة .. فاذا بدابتين تقبلان على هيئة الفرس الطائر , ويأخذ راكبه الى حيث اراد , فلما ارتقيت إحداهما طاف بي الى البحر , فبينا انا كذلك اذ رأيت طائراً عظيم الخلق. هو طائر الرخّ, يكون جناحه الواحد عشرة اضعاف جناح النسر. فلما طلعت الشمس رأيت الرخّ قد أقبل في الهواء كالسحابة السوداء العظيمة , فوقع قريباً مني , قرب كهف مظلم , يخرج منه نورٌ ساطعٌ يشع الى السماء السابعة. فقمت بدوري مستتراً بالشجرة حتى دنوت منه لأتأمله .. فلما رآني جفل وطار وجعلت اقفو اثره , خطوة بخطوة , فلما وصلت بقرب الكهف سمعت تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وتلاوة قرآن بصوت عذب كعذوبة ماء الناقوط. فدنوت من الكهف فناداني منادٍ من الكهف : ادخل يا علي بن صالح الطالقانيّ!!! فدخلت وسلمت فإذا برجل أسمر اللون , ربع القامة , كث اللحية , حسن الوجه , نحيف الجسم , يحاكي في هيبته ووقاره هيبة الأنبياء , فما رآه أحد الا هابه وأكبره لجلالة قدره , وسمو أخلاقه , وحسن سيرته . فرد عليّ السلام وقال: يا علي بن صالح الطالقاني أنت من طالقان وهي تقع شمال طهران وعلى مقربة فرسخ من هذا الموضع تبداً بسلسلة جبال البرز , التي يجتازها الطريق ماراً بمضيق فيها , حتى يصل الى طالقان التي فيها كنز عظيم. ما هو بذهب ولا فضة , لكن فيها راية لم تنشر منذ ان طويت , ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد , لا يشوبها شك في ذات الله , اشد من الحجر , لو حملوا على الجبال لأزالوها , رجال لا ينامون الليل , لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل , يبيتون قياماً على أطرافهم , ويصبحون على خيولهم , رهبان بالليل ليوث في النهار , هم اطوع له من الأمة لسيدها , كأن قلوبهم القناديل , وهم من خشية الله مشفقون , عدتهم وعددهم ثمانية عشر شخصاً من انصار ولي العصر. ثم تبسم ضاحكاً واستمر في حديثه موجهاً خطابه الى علي الطالقاني: لقد أقمت ممتحناً بالجوع والعطش والخوف لو لا ان الله رحمك في هذا اليوم فأنجاك وسقاك شراباً مذاقه سلسبيل , ولقد علمت الساعة التي ركبت فيها وكم أقمت في البحر , وحين كسر بك المركب وكم لبثت تضربك الأمواج , وما هممت به من طرح نفسك لتموت اختياراً لعظيم ما نزل بك من الشدائد والمحن والساعة التي نجوت منها , ورؤيتك للدابتين واتباعك لطائر الرخ الذي رأيته واقفاً , فلما رآك صعد الى السماء فأهلاً وسهلاً فهلم فاقعد رحمك الله. فلما سمعت كلامه. قلت: سألتك بالله كيف علمت بحالي..؟؟ فقال: عالم الغيب والشهادة الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ...!!! ثم اردف بالقول المبين : انت جائع فتكلم بكلام تمتمت به شفتاه فاذا بمائدة نزلت من السماء , عليها منديل ناصع البياض فكشفه وقال : هلم ايها الطالقاني الى ما رزقك الله فكل واشرب هنيئاً مريئاً... فأكلت طعاماً لذيذاً لم أذق أطيب منه , ثم سقاني ماءً ما رأيت ألذ منه ولا أعذب ثم صلى ركعتين وبعد ذلك قال: يا علي أتحب الرجوع الى بلدك طالقان؟ فقلت وأنا متردد حائر : ومن لي بذلك؟؟ فقال : وكرامة لأوليائنا ان نفعل بهم ذلك , ثم بعد ذلك دعا ربه دعاءً خفياً , ورفع رأسه الى السماء وقال: الساعة .. الساعة , فإذا سحاب قد أظلت باب الكهف قطعاً قطعاً , وكلما وافت سحابة قالت: السلام عليك يا ولي الله وحجته , فيقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , ويتابع الحديث : أيتها السحابة السامعة المطيعة , ثم يقول لها : أين تريدين ؟؟ فتقول : ارض النمل .. تلك الارض البيضاء الكثيرة الاشجار والنبات والماء ...ولكن من دخل هذه الارض هلك !!! وعندما يدخل أحد تلك الارض يثب عليه من بين الأشجار نمل عظيم كالسباع الضارية , فيقطعّه حتى حصانه ويمزقه شر تمزيق...!!! حتى جاءت سحابة حسنة مضيئة فقال: وعليك السلام أيتها السحابة السامعة المطيعة , أين تريدين؟؟ فقالت: أرض طالقان!!! فقال: لرحمة او سخط؟ فقالت : لرحمة... فقال لها : احملي ما حُمّلتِ مودعاً لله. فقالت : سمعاً وطاعة. ثم بعد ذلك قال لها : فاستقري بإذن الله على وجه الارض , فاستقرت فأخذ بِعضدي فأجلسني عليها. فعند ذلك قلت له: سألتك بالله العظيم وبحق محمد خاتم النبيين وعلي سيد الوصيين والأئمة الطاهرين من انت , فقد أعطيت والله أمراً عظيماً؟؟؟ فقال ويحك يا علي بن صالح ان الله لا يخلي ارضه من حجة طرفة عين أما باطن وأما ظاهر , أنا حجة الله الظاهرة , وحجته الباطنة , انا حجة الله يوم الوقت المعلوم... وأنا المؤدي الناطق عن الرسول ...!!! ثم بعد ذلك امر السحاب بالطيران , وأصبحت مثل سفينة القطن العائمة في السماء , وعندما طارت فوالله ما وجدت ألماً ولا فزعت , وهي تجري لمستقر لها, بسرعة الضوء , بل اسرع من طرفة عين , حتى القتني في طالقان , وفي نفس الزقاق , الذي فيه أهلي وبيتي سالماً منعماً!!! وعند تلك اللحظة الحاسمة توقف الطالقاني عن الكلام المباح وقد رأى عيون الرشيد تقدح شرراً , وبعد فترة وجيزة وصمت رهيب امر الرشيد مسرور السياف بقتل الطالقاني خشية ذيوع قصته بين العامة..!!!
|
المشـاهدات 343 تاريخ الإضافـة 13/08/2024 رقم المحتوى 51347 |